العدد 910 صدر بتاريخ 3فبراير2025
صاحب الرؤية الواضحة والأهداف المحددة يحقق الجودة، صحيح أن المخرج المتفرد «خالد جلال» استكفى إطْرَاءً على إبداعه، لكنه ما زال يستحق المزيد من الثناء في أي سطور تُكتب عن إبداعه المسرحي، يكفي استمراريته في تحقيق المعادلة الأروع في المسرح المصري، والمتمثلة في رعاية المواهب، وتقديمهم كنجوم مثقلين في إطار عمل فني مشبع فكريًا، وممتع بصريًا ووجدانيًا، وبسيط إنتاجيًا، في مساحة لا تتخطى الـ30 متر، تشعرك بأن شخصيات العمل -التي تجسيدها مواهب رائعة من كافة الأعمار- متلاحمة معك تمامًا، فيصل المتلقي إلى ذروة الحزن وذروة الضحك في بصورةٍ متلاحقة.
-وكعادته- «خالد جلال» في عروضه لا يفضل السرد المسرحي المتصل، والحبكات التقليدية، التي تحجم التجريب في الكثير من الأحيان، إنما يميل دائمًا إلى اللوحات المنفصلة في الأحداث، والمتصلة في الفكرة الرئيسة هي صيغة مفضلة لديه للتعبير الرشيق عن معاناة الإنسان المعاصر، تلك المعاناة التي أصبحت أشعر أن «خالد جلال» حامل لولاء التعبير عنها بصورة متكرر، فتارةً تعاني شخصياته بسبب التخلي عن ماضيها، وتارةً أخرى تعاني بسبب الخوف من مستقبلها، بينما في عرض «حاجة تخوف» تنبع المعاناة من الخوف ذاته، ليتحول الخوف إلى سلطة تفرض نفسها على الشخصيات وتشعرهم بالقهر والعجز.
عرضه
عرض «حاجة تخوف» هو مشروع تخرج دفعة «على فايز» بأستوديو المواهب بمركز الإبداع الفني، يعد دراما مسرحية بسيط -غير متفلسفة- استطاع «خالد جلال» من خلالها تتبع مصير مجموعة من الأناس المجهولين، التي جلبتهم رحلة مجهولة الوجهة، إلى منزل مجهول الموقع، في الزمن معلوم، وهو الزمن المعاصر، إلا أن المفارقات الزمنية كانت بطلت الأحداث الرئيسة في المسرحية، وهي اللحظات التي وصمت كل شخصية من شخصيات العرض بوصمة الخوف، الناجمة عن خطئه الإنساني، سواء كان هذا الخطأ في حق ذاته أو في حق الآخرين.
فخلال ساعتين شاهدت خلالها عددًا ليس بالقليل على الإطلاق من اللوحات المسرحية المحكمة، والتي تخطى عددها الـعشرون لوحة، ذات جرعات مكثفة من الانفعالات، تجعلك تنهل منها دون الشعور بالتخمة، محافظة عليك من الجوع في ذات الوقت، الذي يدفعك لترقب المزيد، ويجعلك تتقبل بكل رحابة صدر ضعف الإبهار في لوحة أو أثنان على أقصى تقدير، حيث طرح العرض معاناة كبار السن -في أكثر من لوحة- في عالم طغت عليه المادة، وجعلت من الأبناء هاجرين لأهلهم، وجعلت من الآباء منعزلين في منازلهم أو دُور الرعاية حتى ينقضي نحبهم، كما رصد العرض حجم توحش شبكات التواصل الاجتماعي وسيطرتها على الإنسان، والتي أصبحت دافعًا للقيام بالسلوكيات المتطرفة، في سبيل تحقيق ذاته بصورة وهمية، كذلك يُظهر العرض تداعيات أزمة التعلق، وقدرتها على جعل الإنسان خواء إذا فقد ما يتعلق به، سواء كان التعلق متمثل في مهنة أو مادة أو إنسان آخر.
إلا أن المخرج سعى في عرضه لأوجه المعاناة والقضايا سواء داخل الشكل الكوميدي أو التراجيدي، للمحافظة على رؤيته المتفائل للحياة -الواضحة حتى على وجهه البشوش الذي يستقبلك على باب مسرحه- والتي تتلخص في قدرة الإنسان على البدء من جديد، مهما كانت حجم الأخطاء التي اقترفتها بيديه، ويجعل من المتلقي بقدر تلاحمه مع العرض وأندمجه معه إلى حد التطهير في أثنائه، تجعله ثائرًا اجتماعيًا مع نهايته، مما يضمن للمتلقي الخروج من العرض بصورة مغايرة عما دخل عليها، فالعرض يلمس الوجدان ولأذهان في نفس الآن.
ممثله
بطاقات إبداعية من عدد ضخم من الممثلين لامس الخمسين تقريبًا ظهر عرض مسرحية «حاجة تخوف»، الأمر الذي تتعجب من حدوثه عند وقوفهم أمامك مجتمعين في أكثر من مشهد على خشبة مسرح مركز الإبداع الفني الصغيرة، دون شعورك بأي نوع من الغرابة أو التكدس، فيظهرون ككتلة تمثيلية واحدة، ذو ثقل نسبي على خشبة المسرح، يجعلونك تتلقاهم كوحدة واحدة، نتيجة لما يمتلكون من حرفية شديدة، فلا تجد ممثلًا شارد أو غير متفاعل أثناء المشاهد الجماعية، فهم مدربين ذهنيًا قبل أن يكونوا مدربين جسديًا على الوعي الكامل بأهمية (الهمسات الخافتة، والإيماءات البسيطة) وذلك ينطبق حتى على الممثل الذي يُحجب رؤيته بصورة شبه كاملة أكثر من ممثل آخر.
فعلى الرغم من التفاوت الضئيل والطبيعي في حجم المواهب، التي تتمتع بقدر كبير من العلم الغزير، لا تشعر في لحظة ما بغياب التسكين الجيد في الأدوار، الأمر الذي يقف خلفه بكل تأكيد مخرجًا واعيًا، محافظًا على خياله الخصب من تشوهات عالمنا المعاصر، فيشعرك في لحظات أنك تشاهد ممثليه بروح مسرح الجامعة، في قالب شديد الاحترافي، فهو قادر على تحويل الممثل إلى فنان صاحب عقل واعي، وجسد مسخر لتنفيذ أوامر عقله بكل حرفية، ويظهر ذلك بصورة جلية في حالة الديناميكية المستمرة للمثل، حتى أثناء بقائه في منطقته التمثيلية لفترات طويلة قد تصل إلى اللوحة الكاملة، مما يجعل من ممثله المسؤول الأول عن إيقاع العمل، ولا يبعث في نفس المتفرج أي نوع من الرتابة.
فجسد الممثل عند «خالد جلال» متحرك متفاعل يستشيط طاقة، حتى وهو في وضع الاستدارة الكاملة، وهي التقنية الإخراجية التي اعتمد عليه المخرج في وضع الشخصية أمام ذاتها عندما تنظر في المرآة في أعلى المسرح، ناجحًا في تحقيق التكامل بين الحكي الجسدي للممثل الذي ينظر إلى معاناته في مرآة خوفه الذي خشي النظر فيها الزمن الحاضر، والتمثيل الصوتي للممثل العارض لما يدور في ذهن الشخصية من معاناة وهروب من ماضية وواقعة في آن واحد في زمن وصمه بوصمة الخوف.
ولم يتوقف دور الممثلين عند هذا الحد، بل أمتد لخدمة بقية عناصر العرض، وهنا قد يتبادر إلى ذهنك أن خدمة عناصر العرض تتمثل في عزف الموسيقى والغناء أو تحريك الديكور لتشكيل سينوغرافيا العرض بصورة عام، لكن ما أقصده هنا أعي به خدمة تلك العناصر من البداية للنهائية، فقام بعضهم على تصميم الديكور، والبعض الآخر على تصميم الملابس، والآخر على إعداد الموسيقى والمؤثرات الصوتية والبصرية، ليحافظ «خالد جلال» على الصبغة التعليمية التي يستهدف من خلالها إثقال قدرات الممثل، ليتجاوز حدود إدراك ذاته كممثل، إلى إدراك ذاته كفنان قادر على اختبار كافة إمكاناته الإبداعية.
فدون جملة دراما حركية واحدة، أو رقصة استعراضية مبهرة، أو مؤثر بصري تكنولوجي، تمكن ممثلي «خالد جلال» من تحقيق الإبهار بقوة واتساق بين أدواتهم الداخلية والخارجية، ليبرز جوهرة العمل المسرحي الحقيقية التي غابت عن العديد من العروض وهي الممثل، فممثله المعبر، والمغني، والحكاء قادر على إحكام غلق منظومته الاخراجية المتشابكة، وجعل إيقاع عرضه يلامس سقف الانفعالات لدى المتفرج، إلى حد سقوط الجمهور من الكراسي ضاحكين، وتبادل أوراق المناديل وهم باكون.
وهنا أتساءل! متى تتعدد مراكز الإبداع الفني؟ متى يتعدد خالد جلال؟ أين الدولة بمؤسستها الثقافية والتعليمية من تلك التجارب الفريدة التي تجاوزت الربع قرن، ألم يحن وقت التعميم ونشر التجربة، فمسرح «خالد جلال» ليس برهان لشطارة وشغف ووعي الفنان فقط، بل برهان على حجم المواهب والإمكانات الضخمة التي يتم إساءة استخدامها، والتبخيس من قدرها في أغلب مشاريع الإنتاج المسرحي داخل أروقة الثقافة الجماهيرية والجامعات، وأختص بالتحديد هذين الجهتين، لأنهما أصحاب القاعدة الأعرض في عدد ممثلي وفناني الدولة من الهواة، الذين يفتقدون الرعاية الفنية الجادة والحقيقة والواعية من الخالدين بفنهم، والأجلاء بعقولهم أمثل «خالد جلال».