العدد 911 صدر بتاريخ 10فبراير2025
العرض المسرحي «حاجة تخوف» الذي تم افتتاح عروضه على مسرح مركز الإبداع الفني بالأوبر أواخر يونيو من العام الماضي، وبعد تقديمه لـ65 ليلة عرض حتى منتصف ديسمبر، عاد لاستئناف عروضه على مسرح المركز أيام الخميس والجمعة والسبت من كل أسبوع من شهر يناير، ليواصل عروضه المجانية للجمهور، الأمر الذي يحقق مزيد من المستفيدين بمشاهدته، رغم أن إنتاج هذا العرض لم يتجاوز إجمالي تكلفته 78 ألف جنيه حتي انتهاء عروض شهر ديسمبر، وهي توازي تكلفة فرقة قصر ثقافة، ولا مقارنة لها بتكلفة عروض البيت الفني للمسرح أو قطاع الفنون الشعبية، التي قد لا تصل ليالي عروضها إلى نصف تحققه عروض المركز التي تمتد لما يقرب من المائة ليلة وقد تزيد مع استمرار الإقبال الجماهيري عليها، الأمر الذي يجعلنا نتطلع للخروج بعروض المركز للمواطنين في محافظات مصر وعدم قصرها على سكان العاصمة فقط، لماذا لا يتم توقيع بروتوكول بين وزير الثقافة ووزيرة التنمية المحلية، أو بين الوزارة والمحافظات على استضافة عروض المركز ليتم توسيع قاعدة المستفيدين بمشاهدة تلك العروض تقدم فناً جادًا يهدف إلى التأثير في المجتمع، وتعمل على القيم الإيجابية، والتأكيد على هويتنا الثقافية، وبث روح الانتماء للوطن، وقد يرى البعض أن تحريك العرض ليس من مهام المركز، باعتبار أن رسالته الأساسية هي التدريب وتسليط الضوء على خريجيه بتقديمهم لسوق الإنتاج الدرامي، وأرد على ذلك بأن جودة المنتج وقيمته وأثره، تفرض نفسها، كونها عروضًا مكتملة تجاوزت كونها مجرد عروضًا لحفلات تخرج، فلما لا تتم الاستفادة بالشكل الأمثل بتوسيع نطاق المستفيدين من مشاهدتها!
وقد شاهدت مؤخرًا مسرحية “حاجة تخوف” للمخرج الكبير خالد جلال، وفي حقيقة الأمر؛ لم أخرج بانطباع إيجابي سريع عقب العرض، مثلما اعتدت في كل عروض مشاريع التخرج لدفع الدورات السابقة بالمركز، خرجت من العرض وكأني (مبنج)، ربما كان ذلك بسبب جلوسي على مقعد منتصف الصف الأول الذي لا يوجد فصل بينه وبين مكان التمثيل مما جعلني أشعر وكأنني مستهدف من أجواء العرض المفزعة.. ربما!
لم يتشكل انطباعي عن العرض في حينه، ربما لأن أجواء العرض كانت مخيفة أو تبعث على الخوف.. ربما!
ولكن عروض المركز السابقة كان بها الكثير من لحظات التوتر، وكانت تحوي بعض من اللحظات المخيفة، بعض لحظات وليس كلها، هذا هو الفارق إذن، فالمسرحية طوال مدة عرضها مخيفة، منذ بدايتها وحتى أخرها، بل أن لحظة الانفراجة في نهاية العرض لم تكن كافية للتخفيف من حالة التي “التنشنة” التي تملكتني، ربما كان السبب في ذلك حالة الإرهاق التي كنت عليها وقت المشاهدة.. ربما !
لن أطيل عليكم؛ فلقد تنبهت أخيرًا لمعرفة السبب؛ ألا وهو أن هذا العرض عمل على تيمة “الخوف” نفسها، وهذا هو مربط الفرس، ولم يكن أمام “خالد جلال” خيارًا في لجوئه لهذا العالم الغرائبي، حتى نتقبل فكرة المرآة الخيالية التي تعكس خفايا نفس الإنسان الذي التي يهرب منها، والتي بمجرد وقوف الشخصية أمامها، تواجهه بخطايا الماضي، فتكون سببا في كشف أغوار جميع الشخصيات على المسرح، ومع تتابع اللوحات يتشكل أثرًا تراكميًا لوحة بعد لوحة لدى المتفرج فينتبه لكم الخطايا الفساد الاجتماعي الذي يحيط به، بما يصل به إلى ما وصلت إليه في نهاية العرض، هكذا كان تفسيري.!
“حاجة تخوف” تأتي في اطار سلسلة عروض بدأها خالد جلال “هبوط اضطرارى، أيامنا الحلوة، قهوة سادة، بعد الليل، سلم نفسك”، ألف عيلة وعيلة، سينما مصر، ... وغيرها” فقد بات لديه رصيدًا كبيرًا من عروض حفلات التخرج التي أشرف عليها، وان كنت أرى أن “حاجة تخوف” قد لا يكون أفضلها، كما أن أمر المفاضلة بينها لا يشغل مخرجنا، وأظنه لو طلب منه اختيار أفضلها سيجيب بمقولة “كلهم أبنائي”، إلا أن هذا العرض قد يكون أكثرها تعبا وإرهاقاً له، حيث أن المقولة الأساسية للعرض قد لا تصل بسهولة للمتلقي، وهذا الأمر ربما شغلَّه كثيراً، خاصة في ظل أجواء العرض التي غابت عنها البهجة وهيمنت عليها حالة من الفزع.
لقد اعتاد «خالد جلال» على أن يفاجئنا في كل مرة بموضوع جديد، ومع كل تجربة يزداد مأزق اختياره للموضوع، ربما يتشابه الشكل كنتاج ورشة، إلا أنه في تلك المرة فاجأنا بموضوع (الخوف) ليبتعد بنا عن أي تماس مع عروض سابقة، وليقول من خلاله مقولته بصورة مختلفة، مع حرصه على التزامه نهجه الذي يعتمد فيه على صدق الأداء النابع من المعايشة، وحميمية التفاصيل المتصلة بقيم المجتمع.
«حاجة تخوف» مشروع تخرج الدفعة الثالثة من استوديو المواهب، المجموعة (ب) من مركز الإبداع الفني (دفعة علي فايز)، والذي تم افتتاحه منذ شهور ستة، من إنتاج صندوق التنمية الثقافية، صاغه وأخرجه خالد جلال، وشارك به أكثر من خمسين ممثلاً وممثلة، أمضوا عاماً ونصف العام من التدريب بالمركز، وكان ضمن عروض الدورة الأخيرة من المهرجان القومي المصري ممثلاً لعروض صندوق التنمية الثقافية، وحصد جائزة لجنة التحكيم الخاصة.
إن تناول مثل تلك العروض يضع الناقد في حيرة، فهي من حيث التصنيف عروض حفل تخرج دفعة من المتدربين بورشة مسرح، إلا أن ما يقدمه «جلال» ليس مجرد عروض تخرج، كما أنها في ذات الوقت ليست عروض تقليدية تعتمد على نص وبناء تقليدي، وإنما عروض تختلف عنها، اخلاف في (طبيعة تكوين فريق التميثل وعدده، وفي بناء الشخصيات، وفي التعامل مع الفكرة، وفي نوع الصراع التصاعد الدرامي).
و في «حاجة تخوف» يواصل المخرج «خالد جلال» - وبحرفية شديدة - مستفيدًا من خبراته كمؤلف وكمدرب وككشاف وكمخرج؛ دوره الريادي في تقديم عروض مشاريع التخرج بمركز الإبداع، ويحرص أن تكون إيذانا بمقدم «نجوم جدد»، باعتبار أن دوره لا يقف عند حد الاكتشاف للمواهب فقط، وأن هذا الدور لا يكتمل إلا باطلاع المعنين بإنتاج الدراما على موهبة الخرجين، بل لا يكفي التسويق لهم وفقط؛ وإنما بمتابعتهم بعد التخرج وحتى يتحقق الانتشار لهم، مما جعل من ورش مركز الإبداع الفني قبلة لكل ممن يمتلك موهبة التمثيل، ينتظر الإعلان عن استقبال دفعا جديدة متطلعا للالتحاق بها، ومنهم خريجي أكاديمية الفنون والكليات المتخصصة، وهذا على مدار جميع الدفع التي تخرجت من المركز منذ افتتاحه، تشهد بهذا الساحة الفنية الحالية بما تحتشد به من فنانين أغلبهم صاروا نجوما، هذا؛ وقد بات لعروض التخرج جمهوراً يترقب نشاط المركز حرصاً على مشاهدتها من الجمهور العادي وليس من المتخصصين فقط!
منذ لحظة البدء لعرض «حاجة تخوف» يأخذنا مباشرة إلى حالة غرائبية تأتي على إثر ضوضاء تنبعث من خلف جمهور الصالة عن مجموعة من الناس تتجمع بالمنطقة المحصصة للتمثيل، ونعرف أن الباص الذي كان يقلهم تعطل بهم بمكان مقطوع ليس به سوى بيت واحد، وقد ظهر لهم رجلاً يبدو وكأنه حارس أو غفير - بدا وكأنه مريض نفسي - يحمل مصباحا في يده دعاهم ليبيتوا بالبيت لليلة لحين تحل مشكلة سيارتهم، وعند دخولهم يتفاجؤون بأربع شخصيات - صاحب البيت وبناته الثلاث - غريبة الأطوار لا تبعث على الارتياح، تشي ملامحها وحركتها وطريقتها في الكلام بذلك، ويرحب صاحب البيت بهم ويخبرهم بأن الأبواب توصد مع وقت المغرب ولا تفتح إلا بطلوع النهار، وأنه لن يكون متاحاً لهم أن يخرجوا إلا بعد ذلك، ويحذرهم من النظر إلى المرايا الموجودة به، .. وأثناء تواجدهم يظهر لهم أهل البيت - فرادة أو جماعة - فجأة ويختفون فجأة، ويتسرب الخوف لنفوسهم، فيشعرون بأنهم في بيت مسكون بالأشباح، وحين يقررون ترك البيت يكتشفون أنهم محبوسون به، ونجدهم لم يأخذوا بالتحذير من المرايا، إذ كان كل منهم ينجه لها لينظر فيها، ويبدو أنها تعكس لهم خفايا داخل نفوسهم يهربون من مواجهتها، ما يترتب عليه تداعي الخطايا التي ارتكبوها، إذ نجد كل منهم يردد جملة (أنا معملتش حاجة)، لنجد تلك الجملة تأخذنا – مع كل شخصية منهم - إلى لوحات متتابعة تستعرض مخاوف أفراد ضيوف البيت، لتبدو وكأنها لحظات للتطهر للتغلب على خوفهم والتخلص من مشاعرهم السلبية، تلك هي التكئة التي استند إليها مخرج العرض ليبدأ من خلالها نجوم دفعة “علي فايز” - ضيوف البيت - استعراض قدراتهم وإمكانياتهم التمثيلية، عبر لوحات استعرضت صورًا متعددة بالمجتمع تستوجب الخوف عبر ثيمات مجتمعية مختلفة، منها؛ (تيمة الخوف والوحدة أخر العمر بعد فقد الزوج، تيمة الباحث عن المستقبل ومخاوف الارتباط لدى الشباب، تيمة مشاعر الفنان من ابتعاد الأضواء عنه وزوال شهرته، تيمة جحود الأبناء، تيمة سطوة الأخ والاستيلاء على ورث البنات، تيمة فقد الأب، ...)، ومع الاقتراب من نهاية العرض نجدهم يستجمعون قواهم ليقومون بقتل أهل البيت “مبعث خوفهم”، لقد كانت الشخصيات الأربع بمثابة المعادل لخطايا الماضي، وكان لابد لضيوف البيت من مواجهتها والقضاء عليها حتى يتحررون من أسر “بيت الخوف مكمن الخطايا” ليخرجوا منه لاستكمل رحلتهم، وهو ما فعلوه بمواجهة تلك الأشباح وقتلها، لينتبهوا لقدرتهم التغلب على المشاعر السلبية، وأن عليهم التعرف عليها والاعتراف بها لتجاوزها.
وهكذا فإن بنية العرض تعتمد على فكرة عامة، تقدم من خلال حكاية مجموعة من الأفراد تواجه مصيرًا واحدًا، وتحوي داخلها حكايات بعدد أفراد المجموعة، يطرح من خلالها فكرة تكتمنا على خوف بداخلنا عن أفعال ارتكبناها، نتكتم عليها ونهرب من مواجهتها، وهذا في حقيقته “حاجة تخوف”، ورغم أن الخوف شعور إنساني طبيعي وصحي، إلا أن المبالغة فيه تؤثر سلباً على النفس بما قد يعوقها عن التقدم والانطلاق للمستقبل، وعلينا أن نتأمل ما بداخلنا وألا نتجاهله بالاعتراف بما نهرب منه ومواجهته، حتى نتخلص منه بما يسمو بنا ويدفعنا للإقدام على الحياة وتحقيق السعادة.
وقد هيأ “جلال” مكان العرض ليكون بدون منصة تمثيل بحيث يكون المتفرج في نفس مستوى الممثل، وألغى المسافة بين جمهور المشاهدين والممثلين ليكونوا جميعا ضيوفا بالبيت الذي تجرى به الأحداث، وقد عمد في تصميم سينوغرافيا المكان إلى معايشة الجميع للأجواء، أعين مرسومة على الحوائط، طغيان للون الأسود وبعض الأحمر المكان، ملابس حداد للشخصيات، اضاءة خافتة، إضافة لجملة “أنا ما عملتش حاجة” كجملة محورية تبدأ بها كل لوحة، وجملة “لأ عملنا المهم ما نعملش كده تاني” التي تنتهي بها مجموعة العرض للتأكيد على أهمية الاعتراف بالخطأ، وفي هذا مباشرة قد تعد مرفوضة في عروض المسرح بشكل عام، إلا أنه قد يكون مقبولاً في مشاريع التخرج التي تحكمها أهداف محددة.
ولوعي المخرج بطبيعة عروض المسرح التي تختلف عن طبيعة عروض التخرج من حيث الهدف الأساسي للثانية، من استعراض لموهبة الممثلين وقدراتهم، واتاحة الفرصة لجميع المتدربين للظهور بشكل يسلط الضوء فيه على كل منهم ويبرز ما اكتسبوه من مهارات، فلقد اعتمد على شكل اللوحات المتتابعة، التي قد تطول بمدة العرض، وهو يعي تماماً لهذا - خاصة مع تكرار تأكيد اللوحات على مقولة واحدة – بما يتعارض مع التكثيف أو يبعث على تسرب الملل للجمهور، لذا؛ ولأنه يعمل على تحقيق المتعة الفكرية والجمالية للمشاهدين، لجأ للتنوع لكسر الملل، التنوع في التيمات المختلفة في كل لوحة، التنوع في المواهب التمثيلية، التنوع في حالات الدراما بين الكوميديا والتراجيدي والميلودراما، الاعتماد على حيوية الشباب وسرعة إيقاع الأداء، كذلك سرعة الانتقال من لوحة إلى أخرى، بما يحقق الأثر التراكمي لدى المشاهد، مع التزام فريق العمل بدقة التنفيذ لكافة عناصر العرض والانضباط التام على خشبة المسرح.
ازدحم عرض “حاجة تخوف” بمجموعة من الفنانين المتميزين ممن لديهم قدرة على التعبير عن دراما وأفكار العرض، حيث ضم العرض - بالإضافة للمتدربين بالدفعة - عدد من خريجي دورات سابقة كعناصر خبرة، وأجاد الجميع، ومنهم؛ “شريف إسماعيل وشاهندة على” في لوحة المطعم، “خلود خالد وباسم الجندي” لوحة فقد الزوج، “منة حمدى” مشهد الفنانة التى ابتعدت عن الأضواء، “محمد حسين” في دور العريس الذي يخاف من الارتباط، “محمد سراج” في لوحة “الشاب الذى يتكسب من السوشيال ميديا”، ومعه “محمد إبراهيم” في لوحة “الصعيدى المتمسك بالتقاليد ويرفض الإغراءات”، “أحمد حسام وشريف حليم” بمشهد دار المسنين، “نهى نبيل وحبيبة النادي” في مشهد الجدة والطفلة، ومعهم “مى حمدى ونورا نبيل”، وباقي الفريق (محمد نديم، اشرف مهدى، نادر جودة، محمود جراتسى، محمد حسيب، هبة كامل، يحيى محمود، مي حمدي، شريف رجب، أسماء غنيم، نانسي السمري، مدرونا سليم، أحمد خليل، جهاد أشرف، سلمى هاني، نزار سيف، هبة السويسي، حبيبة زيتون، مجدي حمزة، لقاء الصيرفي، عمر أسامة، شيماء بن عشا، مصطفى منصور، أية سليمان، أمنية سيد، عمر لطفي، شيماء عصمت، مارك نادي، مريم محروس، محمد القرشي، نسمة نور الدين، منار عمار، دنيا حلمي، ومن فريق العمل ممن شاركوا في صناعة العرض؛ “محمد نديم وهبة كامل” الأزياء، “محمد سراج ومارك نادي” الإعداد الموسيقى، “أشرف مهدي ومحمد كريم ونادر جودة” الديكور، تحت إشراف مصمم الديكور “محمد الغرباوي”، وبقيادة تنفيذية للمخرج المنفذ (علا فهمي) تميمة نجاح عروض “جلال”.