العدد 911 صدر بتاريخ 10فبراير2025
شهدت مدينة «الإسكندرية» عروس البحر الأبيض المتوسط خلال الفترة من (19-21) يناير 2025م، مهرجان مسرحي نوعي خاص بذوي الاحتياجات الخاصة تحت شعار «الحلم المصري» وهذا الملتقي الفني والثقافي الرائد والهام تنظمه وزارة الشباب والرياضة المصرية فيما يعد مبادرة ملهمة من العجيب والمدهش أنها تقام منذ ستة سنوات بلا إعلان أو إعلام في إطار المسابقات الأدبية والفنية المتنوعة التي تحرص علي إقامتها وزارة الشباب والرياضة المصرية والتي تشمل كافة الأجناس الأدبية والأنشطة الفنية بين مواطني جمهورية مصر العربية من ذوي الاحتياجات الخاصة ويقام المهرجان تحديدا في المدينة الشبابية بأبو قير وهي بما حققت من تطور بفعل الاستمرار والتراكم أصبحت تجربة هامة وملهمة ورائدة لا علي المستوي المحلي فقط وإنما علي الصعيد العربي والدولي إذ اتجه إليها المنظمين بدعم وتوجيه مباشر من رئاسة الجمهورية المصرية كي تحقق جانب من أحلام معاقي مصر ممن تجاوز عددهم الخمسة عشر مليون نسمة وبديهي أن يشتمل هذا العدد الكبير علي نسبة معقولة من الموهوبين لا في المسرح فقط وإنما في كافة الآداب والفنون التي يتم تنظم مسابقات فيها لمشارك الهواة والموهوبين وسميت (الحلم المصري) لأن مصر منذ ما قبل الميلاد تسعد بإسعاد هؤلاء المهمشين المقهورين، وقد شارك في هذه الدورة المهرجانية سبعة عروض جيدة وتستحق التأمل والاهتمام والتقدير لما أظهره صناعها من فهم لماهية المسرح وعناية بالعناصر والتفاصيل وهو أمر مفرح ويستحق التسجيل والتدوين لكي نملك في قادم الأيام سجلات لمراحل تطور وتقدم مسرح ذوي الهمم علي الصعيدين المصري والعربي.
شارك ذوي الاحتياجات الخاصة سواء كانت حركية أو بصرية أو فكرية «ذهنية» أو سمعية بالتمثيل المسرحي في هذه العروض وهو أمر يجبر المخرج أو قائد الفريق أو المدرب بلغة الشباب والرياضة علي البحث عن فريق من المعاقين لكي يقدم بهم العرض ثم يقوم بتدريبهم علي التمثيل وتعليمهم خصوصية العناصر المسرحية وهو ما ينطوي علي مضمون نفسي بأن هؤلاء المهمشين تم اختيارهم للتعبير عن أنفسهم وعن الآخرين وهو ما يشعرهم بأن لهم قيمة وأهمية وأنهم ليسوا كائنات متطفلة ولا عالة علي المجتمع كما كان الحال في أزمنة سابقة وسبب لهم العزلة والحياة بعيدا عن أعين الناس ولذا حتي هذه اللحظة من التاريخ الإنساني لا تجد من المعاقين بالشوارع والأماكن العامة إلا النذر اليسير الذي لا يتناسب مع العدد الحقيقي لهم وبناءا عليه تم ولأول مرة تقدير ذوي الهمم لأن قادة العروض المسرحية يبحثون عنهم لإخراجهم من دائرة الفقد والهجر والإهمال ووضعهم في بؤرة التركيز ومحور الاهتمام والتقدير والإحترام مما يكسبهم الثقة بالذات والاعتداد بالنفس وهذا أفضل علاج نفسي لذوي الاحتياجات الخاصة المعرضين أغلب الوقت لنوبات الألم والضغوطات النفسية بسبب الاختلاف وفيما جري دعم كبير لأرواحهم المعنوية وصحتهم النفسية التي يتلفها قلة العمل وندرة النشاط وقد شارك في هذه الدورة المهرجانية عروض مختارة ومتنوعة تناقش قضايا هامة لكتاب مسرحيين مصريين معروفين لكي تضمن وجود نصوص جيدة ترتفع بمستوي الثقافة المسرحية للمشاركين وهذه العروض هي:
- مسرحية (الأستاذ) لسعد الدين وهبة:
شاركت فرقة «الإسماعيلية» لذوي الاحتياجات الخاصة بهذا العرض من تأليف الكاتب الشهير صاحب المحروسة وكوبري الناموس وسكة السلامة وغيرها من النصوص التي أضاءت مسرح الستينيات “سعد الدين وهبة” وأغلب ممثلي هذا العرض من الشباب الأشقر أو عدو الشمس ذوي البشرة شديدة البياض أو “الأمهق” هذه الصفة الوراثية المقترنة بضعف شديد في الإبصار خصوصا في الضوء الشديد ولذلك أدرجوا ضمن ذوي الاحتياجات البصرية برغم أنهم ظاهريا لا يبدو عليهم ذلك، وفي تعاطيهم للمسرحية التي تحكي عن أستاذ استعانت به المملكة لكي يبحث لها عن علاج لما أصاب أهلها من ألم سببه الصمم إذ لا يسمع أي منهم قرينه وفي سعيهم للخروج من هذه الحالة يكتشف لهم الإستاذ علاجا للصمم لكن آثاره الجانبية أنه يجلب «البكم» أي أنهم يفقدون القدرة علي الكلام، وهي دراما تدعوا إلي الرضا بالمتاح والقبول بالموجود وبالرغم من انضباط الفريق من حيث الحركة والأداء إلا أن الرسالة النهائية للمسرحية شابها بعض التوتر والغموض بسبب أجهزة الصوت التي لم يناسبها سرعة أداء الممثلين مما جعل الصوت الناتج غير مفهوم أغلب الأحيان كما شاب العرض شيء من التوتر والارتباك في نهايته نتيجة لعدم اهتمام المدرب بتنظيم التحية الختامية للمسرحية كجزء غير منفصل من العرض المسرحي الذي يجب أن نهتم فيه ببراعة الاستهلال وحسن الختام ولكن كل شيء يمكن التغاضي عنه أمام الرغبة الصادقة في خلق مهرجان مسرحي لذوي الهمم ونحن نشخص الداء بحثا عن دواء.
مسرحية (أصحاب الغار) محافظة الشرقية:
شاركت محافظة الشرقية في هذه التظاهرة المسرحية الرائدة بمسرحية قصيرة من مسرحيات الكاتب المسرحي الكبير «علي أحمد باكثير» الذي اشتهر بمسرحياته القصيرة ذات الصبغة التربوية والتعليمية والمسرحية تستند في معالجتها علي حديث صحيح عن ثلاثة رجال فروا إلي غار بالصحراء ليحتموا به من العواصف والأمطار والرياح العاتية التي من فرط شدتها دفعت صخرة عملاقة إلي السقوط عند فوهة الغار الذي انسد عليهم وحبسوا فيه وظمنوا أنهم مهما فعلوا ميتين بمحبسهم إذ أنهم في الصحراء ولن يسمعهم أحد لينقذهم مما هم فيه وفكروا أن ما أودي بهم إلي ما هم فيه ما أرتكب أحدهم من ذنوب ومعاصي فتعاركوا فيما بينهم بسبب ذلك وظن كل واحد منهم بأن ذنوبه وأفعاله هي ما أدت به إلي ما هم فيه ثم فكر واحد منهم أنه لن ينجيهم مما هم فيه إلا أن يذكر كل واحد منهم عملاً صالحاً ذكر الله فيه، وهنا يذكر كل منهم عملا صالح عمله لوجه الله يقول في خاتمته «اللهم إن كنت تعلم أني فعلتها ذلك ابتغاء مرضاتك فاذح عنا الصخرة» حتي يفتح الغار ويخرجون بسلام من موت محقق ما كانوا ليفلتوا منه إلا بعون الله وقد شملت هذه التجربة المسرحية ذوي احتياجات بصرية وحركية وبان فيها أجمل مظاهر التكافل بين هؤلاء الموهوبين حيث الحركي يساعد البصري علي الرؤية والبصري يدعم الحركي في الحركة فيحمله بقوة وإخلاص عند الحاجة ولذلك كان المكفوفين في هذه التجربة المسرحية يتحركون فوق خشبة المسرح بإتقان وثقة وتجلت في العرض واحدة من أهم مظاهر التكافل والتضامن بين الفئات المختلفة من ذوي الاحتياجات الخاصة وهي تجربة لطيفة أري أنها من أبرز وأهم عروض المهرجان.
مسرحية (الفلوس) كفر الشيخ:
المسرحية مأخوزة عن نص (العرائس) لصلاح عبدالسيد والذي يناقش فيه سطوة المادة عندما تتحكم في الناس بسبب الفقر والجوع الذي يستغله ثري القرية المدعو «قارون» لمحاولة شالسيطرة علي الناس بتحويلهم إلي دمي يعبث بها من أجل تحقيق أهدافه فيدعوا أهالي القرية إلي عشاء من أوراق البنكنوت مؤكدا لهم أن كل شخص سيحصل علي قدر من الأموال يساوي ما يتناوله في عشاءه لينظر هل يستجيب الأهالي إلي دعوته وأكل الأوراق كما تفعل بعض الحيوانات أم أنهم سوف يتمسكون بإنسانيتهم ويرفضون ذلك العرض المقحف برغم ما يمرون به من ظروف مادية قاسية في إشارة إلي ضرورة التمسك بالإنسانية في مواجهة طغيان المادة علي مقدرات الحياة وهذا العرض من بين أكثر العروض تميزا بالمهرجان من حيث الانضباط والالتزام بالدخول والخروج فوق منصة المسرح الأمر الذي يوضح ما تتمتع به هذه الفرقة من خبرة جيدة بالعمل المسرحي نتيجة مشاركتها المستمرة في جميع دورات المهرجان.
مسرحية (غرفة لا نوافذ) الإسكندرية:
وهي من تأليف (يوسف عز الدين عيسي) وتنافش قضية حياة ما بعد الموت من خلال مجموعة من الموتى متبايني الأبعاد والخبرات يلتقون للمرة الأولي في مكان مجهول لا يعرف فيه أي منهم الآخر ولا يعرفون كيف ولا متي وصلوا إلي هذا المكان منهم شخص عاشق للموسيقي يلعب علي آلة “الكمان» التي يحملها طول الوقت ولكنه ليس كمان تقليدي، وإنما هو كمان ملفق من عظام الموتى يعزف عليه ألحان غير مسموعة وها هم يتداولون فيما بينهم حول الأسباب التي أدت بهم ألي ما هم فيه يبحثون عن حقيقة وضعهم المؤلمة التي تأبي عقولهم أن تستوعبها وهي أنهم محبوسون في غرفة لا نوافذ لها كغرف الموتي (القبور) التي يدفن فيها الناس بعد ترك الدنيا ولكن فكرة أنهم موتي لا تستهويهم فيحاولوا تجاوزها شاغلين أنفسهم بما يلهيهم عنها ما أمكنهم الهروب حتي يأتيهم ضيف جديد وإذا بهذا الضيف الوافد يرتمي في أحضان إحدي السيدات التي سرعان ما تعرف إنها ابنتها فتستقبلها في حب وحنان بعد ذلك تموت هذه الزميلة موتتها الأخيرة لأنه علي حد تعبير النص وأهم مقولاته أن المرء يموت مرتان الأولي عندما يموت الموت الذي نعرفه ولكن ذكره لا ينتهي إذ يبقي بذاكرة الحياة من خلال أولاده الذين يندفع إلي إنجابهم بغريزة حب البقاء حتي يموت أولاده فيموت موتته الأخيرة كما ماتت زميلتهم بموت ابنتها التي ستموت بدورها بموت أبناءها وهكذا يناقش العرض من منظور فلسفي فكرة الموت والحياة وقد شارك في هذا العرض أيضاً عدد كبير من ضعاف البصر والمكفوفين ورغم ذلك لم يكن لديهم أخطاء حركية تذكر نتيجة فهم ويقظة واهتمام مدربيهم وكان العرض في مجمله مترابط ومنضبط وواجهة مشرفة لذلك المهرجان المسرحي النوعي.
مسرحية (حواديت النصر) بورسعيد:
شاركت محافظة بورسعيد الباسلة في هذا المهرجان المسرحي بمسرحية هامة من تأليف الكاتب والناقد المسرحي المصري الراحل «محمود عبدالله» وفيها رصد تجربة شخصية عاشتها هذه المحافظة الوطنية التي تحملت وحدها عبئ الدفاع عن مصر في معارك عسكرية مصيرية بين الفدائيين والمستعمرين ولذلك لدي أهلها حكايات كثيرة في الدفاع عن الأرض والعرض ومحاربة العدو المستمرة والتضحية بالنفس والجهد في سبيل الوطن وقد رصد المؤلف حكايات حقيقة من أفواه أبطال حقيقين صاغها الكاتب البورسعيدي مسرحياً وزينها ببعض الأشعار فصارت إحتفالية مسرحية غنائية إستعراضية وطنية وقدمت هذه البطولات التي مرت عليها عشرات السنوات في قالب غنائي استعراض شعبي تعكس حالة الاعتزاز بالنفس التي يحيا فيها دائما المواطن المصري البورسعيد الذي يتميز بحس وطني عالي وكذلك حس إنساني كبير لأن هذه المحافظة من أقدم المحافظات التي اهتمت بمسرح ذوي الاحتياجات ولذلك بدت المسرحية جيدة ومبهجة ولطيفة ومختلفة رغم قالبها الجاد عن الأنواع السابقة والتي كانت أغلبها مسرحيات مأساوية وجميعها رغم موضوعاتها المتباينة تتوقف قليلا وتتأمل طويلا موضوع الحبس كلما وجدت مدخلا له بالدراما وكأنها في اللاشعور تعكس الحالة النفسية والميزاجية لصناعها ممن تحول بينهم وبين أحلامهم الإعاقة.
مسرحية (خالتي صفية والدير) محافظة أسيوط:
شاركت فرقة أسيوط لذوي الهمم في المهرجان بهذه المسرحية المأخوذة عن رواية شهيرة بنفس الاسم للروائي الشهير «بهاء طاهر» وهي نوع مسرحي مختلف إلي حد ما عن المسرحيات السابقة لأنها من أصل روائي وقد اعدها للمسرح الكاتب المسرحي الشهير (سعيد حجاج) وهي تتحدث عن «صفية» الفتاة القروية الجميلة التي تحب في حياء وصمت ابن عمها الذي يدعي «حربي» والذي بدوره يتجاهل هذا الحب ولا يبالي بمشاعرها تجاهه وإنما يسعي في زواجها من «الباشا القنصل» ولا تنجح كافة جهودها في إعلان حبها له الذي يظل يتمادى في تجاهله إلي أن يتحول هذا العشق إلي كره كبير يجعلها تحاول النيل منه لتحاول إظهار أنها تبرأت من حبه الذي للأسف لا يغاردها حتي الموت لأن الأنثي لا تنسي أبدا من هجرها وأهملها، وهذا النوع من التقاليد والعلاقات عندما تصبغ بالصبغة الجنوبية تكتسب مزيداً من النجاح والمصداقية ولذلك قدمت أسيوط عرضها بشكل طيب ومشرف في هذا المهرجان الرائد الذي تكاتفت أجهزة وزارة الشباب لإظهاره بهذا المظهر المحترم من حيث المسرح المعد لاستقبال عروض الفرق وتوفير الإقامة والإعاشة لكافة المشاركين لكي يتم تبادل المعرفة والثقافة والخبرات حيث يسعد ذوي الاحتياجات الخاصة بلقاء بعضهم لأنهم أصحاب هم واحد ويتواصل أبناء هذه الفئات مع أصدقاءهم وذويهم من كافة محافظات مصر الرائدة السباقة إلي تفعيل مسرح الإعاقة ولذلك نتوجه بكل الشكر إلي كافة الأجهزة المعينة بهذا النشاط الهام الذي لم تقم به جهة ذات صلة كوزارة الثقافة التي كانت من الأولي بها أن تقدم هذا الدعم الفني والثقافي لأبناء مصر من ذوي الاحتياجات الخاصة وهذا نشاط جديد ومختلف ليس علي المستوي المحلي فقط بل علي المستوي الدولي ولذلك نتمني أن تقود مصر بحكم ريادتها مهرجان دولي خاص بذوي الهمم لدعم المواهب الحقيقة وهواة المسرح من هذه الفئات المهمشة كما نقترح من خلال الخبرات العملية والتجارب الميدانية أن يسمح بمشاركة عدد محدد من غير ذوي الاحتياجات للمشاركة في هذه العروض لكي يكمل بعضهم بعضاً كما بالحياة بحيث لا يشعر المعاق بأنه وحيدا في دنيا المسرح، ولأنه ليس من الحكمة أن نجعله يشعر بالعزلة والتفرقة والنفور والوحدة مجددا وسوف يترتب علي ذلك مزيدا من التكاتف والتواصل بين جميع فئات المجتمع بما اصطلح علي تسميته (الدمج) لأنه لا أحد يعيش وحده في هذه الحياة لا المعاقين يعيشون وحدهم ولا غيرهم يحق له أن ينفرد بالحياة ولما كان المسرح هو الحياة وجب أن تضم منصته الجميع، وسيكون من نتائج ذلك في المستقبل القريب أن يستعان بذوي الهمم في تمثيل أدوارهم في بالعروض التقليدية بدلاً من يمثل أحدهم دور كفيف يمثله شخص كفيف بالفعل حتي يكون صادق وأمين في التعبير عن الشخصية المكتوبة فيعبر عن نفسه بصورة أصدق مما لو قلدها غيره كما يجب أن يجهز المسرح بحيث لا تكون هناك صعوبة في صعود ذوي الاحتياجات الحركية بمقاعدهم المتحركة إلي منصة التمثيل ولا يكون هناك مشكلة في تحرك ذوي الاحتياجات البصرية وهكذا لكي نجعل مهمة هؤلاء الأبطال من فرسان التحدي في اقناعنا بعروضهم المسرحية أكثر يسراً وسهولة لأجل مستقبل أفضل للجميع.