العدد 911 صدر بتاريخ 10فبراير2025
على الرغم من جدية الأحداث إلا أنها تدور في قالب فانتازي، من خلال تضفير أحداث حرب طروادة مع ما تم تسميته بالربيع العربي الذي أطاح باستقرار بعض الدول العربية وأدى إلى تغيير أوضاعها السياسية التي بالطبع تؤدي إلى انهيار المنظومة بالكامل وإعادتها، فتغيرت الخريطة الثقافية، التعليمية، الاجتماعية والدينية...الخ كل ما يتعلق بشئون البلاد.
فمن المعروف أن حرب طروادة من أشهر الأساطير الإغريقية، وهي حرب استمرت لمدة عشر سنوات بين الإغريق وأهالي مدينة طروادة، وسبب الحرب هو خطف ملكة إسبارطة هيلين من قبل باريس الذي كان واقعًا في حبّها، وعلى إثر ذلك تم إطلاق ألف سفينة معلنة قيام الحرب، حيث حكاية التفاحة والثلاث ربات فعندما منعت الإلهة ايزيس من حضور حفل زفاف باليوس وثيتيس انتقمت بقذف تفاحة ذهبية مكتوب عليها «إلى أجمل واحدة»، أثناء الحفل فادعت ثلاث آلهات (هيرا، أفروديت وأثينا) بحقهن بالتفاحة، واتفقن أن أول غريب يمر من الطريق هو من سيكون الحَكَم، ليمر باريس ويحتكم فيما بين الربات، فحكم لصالح أفروديت التي وعدته بإعطائه أجمل النساء، وبالفعل أوفت الربة أفروديت بوعدها لباريس، فحدثته أن هنالك ملكة تدعى هيلين هي أجمل النساء، وجاءها الخاطبون من كل أرجاء الأرض، إلا أنها لم توافق إلا على ملك طروادة وهي امرأة متزوجة، فذهب باريس سريعًا إلى هيلين وجعلها تقع في حبه، وبادلها الشعور نفسه، واختطف باريس هيلين التي وافقت على الهروب معه وترك زوجها، ولما علم أهالي الإغريق بهذا الأمر جن جنونهم، وقد اعتبروا أن الطرواديين قد خطفوا الملكة هيلين، وسرقوا شرف أهالي الإغريق بهذا الفعل، وقام الملك منيلاوس زوج هيلين بإعداد جيش كبير لاستعادة زوجته، وقد حاصر الملك مدينة طروادة في نهاية الأمر لمدة عشر سنوات، وبالرغم من هذا لم يستطع الملك الانتصار على المدينة، وفي السنة الأخيرة من وقوع الحرب، انسحب أفضل وأشجع مقاتل للإغريق، مما جعل الإغريق يقعون في خيبة أمل كبيرة بعد طرد أشجع المقاتلين لدى الإغريق من قبل قائدهم، فهجمت قوات طروادة على الإغريق وأعادوهم إلى سفنهم، ولكن رجوع المقاتل الإغريقي في اللحظات الأخيرة بعد معرفته بمقتل صديقه الذي انتقم له، وقد أصيب باريس بجروح كبيرة، وعادت هيلين إلى زوجها، واستطاع الإغريق الدخول إلى داخل مدينة طروادة، من خلال حصان طروادة الذي ظنّ الطرواديّون أنه سيجلب لهم الحظ بالرغم من إنذار ألكساندرا العرّافة لهم، وبهذا استطاع الإغريق فتح أبواب طروادة وإيقاع الهزيمة بها.
قامت مسرحية «لعنة طروادة» الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، على اقتباس أحداث حرب طرواده، بجانب تفاصيل أخرى من خيال المؤلف الذي نجح في نسج حوارات وتفاصيل جديدة لم تكن في أحداث حرب طروادة، فقد كون توليفة من الآلهة (زيوس كبير الآلهة، هيرا زوجة زيوس، بوسيدون إله المحيطات، هاديس ملك العالم السفلي، أبوللو إله التنبؤ والشعر والموسيقى، أثينة ألهة الحكمة، أفروديت ربة الرغبة، آريس إله الحرب، ديونيسوس إله الخصب والخمر، آرتميس إله الصيد والغابات، إريس رسول هيرا إلى البشر) وأبطال الأساطير من البشر(كاسندرا، بريام، هيكتور، باريس، أورفيوس، بجماليون، سيزيف، أريستايوس، نركسوس) في محاكاة جديدة لهذه الأساطير بما يخدم فكرته الأساسية التي بنى عليها المسرحية، ألا وهي لعبة الإسقاط السياسي على ما حدث من تفاصيل عديدة عقب ثورات الربيع العربي وما تلاها، فمن خلال الآلهة الذين يحكمون العالم من مكانهم «الأوليمب»، يصدر قرارًا بعزل الملك بريام الذي يحكم طروادة بعد أن كبر في السن وترك شئون الحكم لأولاده -ومن سياق الحوار يتبين أنهم قاموا بعزل كرونوس والد بريام والذي كان قبله- ويضعون مكانه ملكًا آخر لا يمكن أن يتخذ قرارًا بمفرده من دون الرجوع إلى والده.
في الجهة الأخرى نجد حوارات الملك بريام ووزيره وولديه هيكتور وباريس وتفاصيل كثيرة يتبين من خلالها أن بريام هذا ما هو إلا انعكاس لصورة أحد الرؤساء السابقين وولديه، حيث تصب تفاصيل واقعة التفاحة وخطف هيلين عليهما، وهاتان الواقعتان تحديدًا هما أكبر رابط بين القصتين حرب طروادة ولعنة طروادة، فهي تكشف عن بعض ممارسات سياسية وأخلاقية قد وقعت بالفعل.
بنفس القصر نجد دخول الرئيس الجديد «سيزيف» الذي سبق أن أشرت إليه، وتتوالى الأحداث التي تجعل من النص كوميديًا بالفعل، فبينما نقرأ نتذكر أحداثًا بعينها سبق أن ضحكنا عليها فشر البلية ما يضحك، وأخيرًا نركسوس الذي جاء به مجلس الآلهة - بعد عزل سيزيف- والذي أمر بهدم سور المدينة رغم وجود الأعداء خارجه، وكذلك المنازل والمكتبة لبناء أكبر معبد، ودخول حصان طرواده وإعادة الحرب والتفاصيل نفسها (حرب طرواده).
ويتجلى ذكاء المؤلف في اختيار الشخصيات، فلم تكن مجرد أسماء بل أن كل اسم له تاريخ وشخصية معروفة تتوافق مع الدور الذي اختاره له، فكان بريام وهو بالفعل ملك طرواده أثناء فترة الحرب، وأبناءه: هيكتور المتهور والذي يتعامل بعنجهية ولا يحترم الآلهة ولا يهمه مصلحة الشعب، باريس صاحب مغامرة نسائية كبرى أدت إلى حرب كبيرة استمرت عشر سنوات، سيزيف الذي يقضي عقوبة العمل غير المجدي والمتكرر طوال الوقت بلا هدف، نركسوس النرجسي الذي يبني المعابد بأحجار سور المدينة الذي يحميها من الأعداء المتربصين بها، ويهدم المنازل التي تأوي الشعب والمكتبة وهو رمز شديد الخطورة عن التشريد والتجهيل المتعمد للشعب، من أجل بناء المعابد التي ستهدم أيضًا بفعل الحرب القادمة، كذلك شخصيات الآلهة فكل منهم يتصرف حسب تخصصه.
النص بجانب هذا الإسقاط الذي وظف بحرفية عالية جدًا تحسب للمؤلف، والذي عبر من خلاله عن وجهة نظر ألا وهي أن لهذا العالم مجلس إدارة هو المالك الحقيقي لشئون البلاد، فالرئيس الحالي والسابق أبناء الإله زيوس والأسبق والده، أي أن المصدر واحد والذي سيكون الولاء له طوال الوقت ومن يخالف التعليمات يُعزل فورًا، وهو يعين ويخلع ويغير كيفما يشاء، مبررًا ذلك بأنها مطالب الشعب، على الرغم من أن الشعب مهمش تمامًا وغير موجود بالنص على الإطلاق، وفي هذا الصدد جاءت عبارات منها: (احذر يا ولدي أن تغضب الآلهة، فهم يملكون مصائر البشر ولا يمكن أن تحكم طروادة دون إرادتهم)، (كيف يحكم هيكتور طروادة وهو لا يحترم مالكيها).
تكمن الكوميديا في مواقع أخرى من النص من خلال حوارات الآلهة في اجتماعاتهم، فنجد الإله الأعظم زيوس الذي يحكم الكون يخشى زوجته التي لا تتورع أن توجه له اللوم وتنهره أمام المجلس الذي يرأسه، كذلك غيرة النساء من بعضهن التي تظهر بوضوح في حواراتهن، على الرغم من كونهن آلهة.
بجانب الاقتباس فهناك تناص أيضًا بالنص مع نص بجماليون لتوفيق الحكيم من خلال اعتماده على الأساطير الأصلية وتوظيفها بما يخدم فكرته ورؤاه السياسية والفكرية، مع الاستعانة ببطل نص الحكيم «بجماليون» وتوظيفه في الأحداث بما لا يغير من طبيعته وشخصيته، كذلك عدم وجود جالاتيا، حيث ذهب بجماليون لإحضارها قبل أن يعثروا عليها ولم يعد، فنص الحكيم انتهى بفقدانها مما يعني مدى تأثير نص الحكيم على المؤلف الذي يعلم جيدًا أن جالاتيا لم تعد موجودة بينما هو يكتب هذا النص.
كما أن دلالة الملابس والألوان تلعب أدوارًا جوهرية، فمن المعروف أن الملابس تعبر عن زمان ومكان الأحداث، كما تعبر عن طبيعة الشخصيات، ولعلها العنصر الأبرز في المسرحية، فهي تلعب دورًا مهما في إنشاء دلالات العرض، كما تساهم من خلال التغيرات التي تطرأ عليها في إبراز التحولات الدرامية في الشخصيات والأحداث، وقد أكد جلال الشرقاوي في كتابه «الأسس في فن التمثيل والإخراج» على عنصر الملاءمة، حيث يجب أن تكون الملابس ملائمة للشخصيات من حيث أبعادها الفسيولوجية (النوع والشكل والملامح الشكلية)، والسوسيولوجية (التعليم والديانة والعمل والطبقة الاجتماعية)، والسيكولوجية (مزاج وميول الشخصية والمعايير الأخلاقية)، وهنا نجد المؤلف قد خالف هذه القواعد بإعادة توظيف الملابس التي لا تعبر عن الشخصيات ولا عن المرحلة، فنجد الملك بريام ووزيره وأولاده بدلاً من أن يرتدون الملابس الإغريقية التي تعبر عن تلك المرحلة حيث كانت ملابس النساء والرجال تتكون من قطعتين رئيسيين: سترة وعباءة، فنجدهم يرتدون ملابس عسكرية تشبه ملابس النبلاء، وهنا قد انتقل المؤلف بالمسرحية من طروادة في هذا العصر إلى عصر آخر حيث الحكم العسكري في بعض الدول العربية، كما جعل لون بدلة بريام أزرق وهو لون البحر الذي تضيع فيه الذكريات وتختفي المعاني حيث انتهاء صلاحيته للحكم، كذلك الآلهة جعلهم ينتمون إلى نفس المكان ونفس الزمان حيث يرتدوا بدلات عسكرية مختلفة الألوان هذه الألوان تعبر عن طبيعة كل إله، وغالبا سيتم توزيع الألوان على الآلهة حسب تخصصاتهم حين ينتقل النص إلى خشبة المسرح، وقد وضع غرابًا على كتف زيوس ليدل على التشاؤم مما هو قادم، أما الطاووس الموجود على ظهر فستان هيرا، فهو فقط للتأكيد على أنها هيرا، فالأسطورة تقول أن هيرا ولدت من ذيل الطاووس، ولإضفاء هيبة وبعد جمالي لزوجة كبير الآلهة، وكان بديهيًا أن ترتدي أفروديت فستانًا يظهر مفاتنها لكونها ربة الرغبة، أما سيزيف وحارسه أريستايوس الذي يشبهه تمامًا فملابسهما عبارة عن جلباب وفوقه معطف وعلى رأس كل منهما عمامة، وهنا إيديولوجية مختلفة تمامًا وعبور ثقافي آخر نحو زمان مختلف ومكان مختلف أيضًا، فهما وكل من معهما يمثلون الفكر الإسلامي المتشدد، والذي حكم مصر وبعض الدول العربية عقب ثورات الربيع العربي، وهكذا عبَرت الملابس عن الأفكار والتيارات المختلفة الموجودة بمجتمع النص.
النص يتميز بالحبكة الجيدة، وبساطة الحوار على الرغم من عمقه الذي يظهر في تعدد دلالاته، والذي يعبر بدقة عن طبيعة كل شخصية ودورها الحقيقي من الشخصيات الأسطورية، كما أنه لا ينتمي إلى التراجيديا الكلاسيكية، حيث سماته مختلفة تمامًا فلا يوجد بطل تراجيدي ولا حدث، لكن به سقطة درامية أدت إلى نهاية مأساوية وهي سقوط طروادة في يد الإغريق، لكن في هذه المرة لم يدخلوها من الأبواب، بل دخولها بعد هدم السور بتعليمات نركسوس، على الرغم من أنه لم يكن البطل.
كما يتميز أيضًا بعدم الإطالة أو التكرار أو أي شئ ممن يمكن أن يصيب القارئ بالملل، كذلك قصره فهو يقع في (70) صفحة من القطع الصغير، كما أنه مليء بالرموز والدلالات التي تعبر عن طبيعة الشخصيات بالنص وكذلك الشخصيات الأخرى التي يتم عليها الإسقاط، كالملابس والحركة وبعض العبارات والتي تظهر بوضوح شديد في حوارات «سيزيف»، وتمسكه بهيلين التي اعتبرها حقًا مكتسبًا، حسب هذه الإيديولوجية فأموال الأعداء غنيمة والنساء جواري.
ويتضمن إرشادات كثيرة تساعد المخرج وتسهل عملية العرض على خشبة المسرح، كما أنه يحتمل العديد من القراءات المختلفة التي توضح جوانب أخرى كثيرة، مما يدل على ثرائه.