«بلاى Play».. كوميديا دى لارتى بواقع مصرى

«بلاى Play»..  كوميديا دى لارتى بواقع مصرى

العدد 915 صدر بتاريخ 10مارس2025

تعتبر كوميديا دى لارتى/كوميديا المحترفين أو المرتجلة شكل من أشكال المسرح الكوميدى الإيطالى التى ظهرت فى منتصف القرن السادس عشر، تعتمد بشكل أساسى على فن الارتجال؛ اى تقديم المشاهد دون الاستناد إلى نص كامل مسبق وإنما إلى هيكل يحدد الخطة العامة للحدث وملامح الحبكة. ذلك ما خطى عليه عرض «بلاي» الذى قُدم على مسرح الغد، تأليف (سامح مهران) إخراج (محمد الشافعى).
تدور الأحداث حول فرقة مسرحية تستعد لتجهيز عرضها للموسم الجديد، تواجه تحديات بسبب غياب مؤلف ومخرج الفرقة، يتفقون أن أقدم أعضاء الفريق سيتولى تلك المهام، يتم اقتراح نصوص مشهورة مثل (هاملت، ماكبث، عطيل، المومس الفاضلة)، يقطع عليهم فرد الأمن البروفة ويخبرهم بأن يقدموا عملًا مفيدًا يمس المجتمع، ويقتنعوا بهذه الفكرة ويقرروا تطبيقها على غرار كوميديا دى لارتى فى تقديم حالة ارتجالية من خلال الخط العام الذى نسجه مخرج الفرقة (جلال عثمان) لواقع أسرة مصرية فى المجتمع.
الأب (عبدالتواب) الذى يعود من الغربة بعد سنوات من العمل، حريص على أمواله الذى يجد فيه تعويضًا عن كفاحه وشقاءه فى الحياة . والزوجة التى تعانى من هذا الحرص الشديد لدى الزوج وترى أنه يجب أن يعوضها هى والأبناء عن سنوات الوحدة والغربة التى عاشوها بدونه. الابن (منسى) وله نصيب من اسمه فيُرى على أنه فاشل يفتقر إلى الطموح، ينظر إلى الهجرة على أنها ملاذه الوحيد من تلك الحياة. والجد الذى يعانى من الوحدة يعيش مع زوجته المتوفية فى خيالاته. والجارة اللعوب الإنتهازية (هدى) فعندما يعلم عبدالتواب بأنها أرملة يعقد معها صفقة الزواج من أجل الاشتراك فى عضوية النادى على عضويتها مقابل مبلغ من المال، لكن يموت عبدالتواب قبل أن يطلقها فترث مع الأم والابناء بصفتها الزوجة الثانية.
من العتبة الأولى للعرض يحيلنا صناع العمل أننا أمام «play» لعبة مسرحية فمن بداية العرض وبالاتفاق الضمنى مع المتلقى أننا داخل لعبة فيدخل الممثلين من بين الجمهور ومن الكواليس بشخصياتهم الحقيقية وأننا فى بروفة فى مسرح الغد؛ ليصبح المتلقى جزءًا من اللعبة يشاركهم فى كل صغيرة وكبيرة وساعد ذلك إحاطة الجمهور النصف دائرية لمنطقة التمثيل.
اعتمد العرض على تقنية المسرح داخل مسرح فى اللعبة المسرحية، من خلال تقديم عالمين؛ العالم الواقعى (الفرقة المسرحية) والعالم المتخيل (عالم الأسرة) بالإضافة إلى عالم ثالث من بعض الجمل من نصوص كلاسيكية (شكسبير والمومس الفاضلة لسارتر) التى تتماهى مع اللحظة الدرامية للشخصية فى العالم المتخيل، حيث تكون هذه اللحظات امتدادًا للشخصيات الكلاسيكية أو أنهم يروا فى هذه اللحظات مرآة لحالهم فى المجتمع، فيتداخل الواقع مع الخيال والكلاسيكى مع المعاصر، فالممثل فى العالم الواقعى يحاول أن يسقط همومه من خلال اللحظة المتخيلة، هذا ما يظهر جليًا فى تلك اللحظات الحوارية لشخصيات شكسبير بصفتهم فى الأساس ممثلين فأصبحت أداة لكشف معاناتهم.
ربطت شخصية حارس المسرح مستويات الواقع والخيال حيث يقوم بقطع الحالات الارتجالية من الحين والآخر ويقدم تعليقات ساخرة فى إطار كوميدى؛ بسبب ثقافته وفكره المحدود عن الفن والمسرح. فوجود الحارس عمل على مستويين؛ مستوى جمالى من خلال إضفاء جو من الكوميديا، ومستوى فنى فأثناء دخوله من الحين والآخر وحديثه مع أحد أعضاء الفرقة، أتاح الفرصة لبقية الفرقة فى التجهيز للمشهد التالى وارتداء ملابس الشخصيات المتخيلة، ما ساهم فى سير العرض بإيقاع منضبط بعيد عن الرتابة.
ولأننا فى حالة لعبة مسرحية جعلتنا (دينا زهير) من خلال الديكور نعيش داخل هذه اللعبة، حيث قسمت القاعة إلى مستويين؛ مستوى العالم الواقعى (مكان البروفة) ومستوى للحالة الارتجالية (العالم المتخيل)، يتم التنقل بينهم بسلاسة بسبب اختيار البازل كشكل عام للمنظر المسرحى وتركيب وتفكيك بعض الموتيفات ببعضها لتشكيل مكان الحدث سواء مكان البروفة فى العالم الواقعى أو منزل الأسرة والديسكو فى العالم المتخيل، وكان يتدلى من أعلى القاعة لوحة مرسومة عليها لعبة الدومينو لتعزيز فكرة اللعبة واستغلت كمادة فيلمية للتعبير عن حالة الوحدة التى يعانيها الجد فنشاهد عليها خيالاته وكأننا داخل عقله.
إضاءة (عز حلمى) من أبرز العناصر التى فصلت بين مستويات اللعب، فإنارة صالة المسرح بالكامل تدل على العالم الواقعى للممثلين والبروفة، وأثناء الحالات الارتجالية الخاصة بعالم الأسرة المتخيل تكون إنارة خاصة وإظلام الجزء الخاص بالجمهور حتى يتماهى مع أفراد الاسرة، وبؤر خاصة مع اللحظات الحوارية للكلاسيكيات التى كانت تؤدى بالفصحى للتأكيد على فكرة ربط هذه الكلاسيكيات باللحظة المعاصرة.. بالإضافة أنها عبرت عن أماكن مختلفة مثل الديسكو بألوانه المتعددة وأمواج البحر فى خيالات الجد والتركيز على المونولوجات الخاصة، مثل مونولوج الأم والابن من خلال البؤر التى كانوا يسيرون عليها من بين الجمهور لكى يلتحم مع معاناة الشخصية فالأسرة ما هى إلا انعكاس لحالة المتلقى الذى قد يجد نفسه فيهم.
الملابس الإكسسوارات عامل أساسى فى عملية اللعبة، فكانت واقعية معبرة عن وضع الشخصيات وحالة التحول من شخصية إلى أخرى. أما الأداء التمثيلى؛ من المعروف أن كوميديا دى لارتى تعتمد على الأقنعة والشخصيات النمطية ولكل شخصية قناع خاص بها مثل (أرلكينو، بنتالوني، زاني، بولتشينلا، كولومبينا...)، لم يخطوا عليهم العرض بالشكل المتعارف عليه، فلو أردنا تقريب شخصيات العرض بشخصيات كوميديا دى لارتى سنجد شخصية حارس المسرح (على كمالو) هى الأقرب لشخصية أرلكينو التى نجح (كمالو) فى تقديمها، ذلك الخادم والمهرج الذى يقدم الكثير من الكوميديا والتخفيف الهزلى بمجرد ظهوره على خشبة المسرح، وهو ما شاهدناه مع حارس المسرح والاقنعة التى كان يرتديها من مشهد لآخر التى تناسبت مع صفاته الساخرة محدودة المعرفة.
أما بقية الشخصيات فكانت واقعية حتى تعبر عن قضايا الأسرة المصرية بشكل يتماشى مع الجمهور ولا يشعر معاها بالإغتراب فالمتلقى قد يجد نفسه فى أحد هذه الشخصيات، لكنها لم تتخل عن الأقنعة -ليست أقنعة دى لارتى بالفعل- بل أقنعتنا نحن البشر التى نواجه بها الآخرين الأمر الذى يأخذنا لفلسفة أعمق التى تحدث عنها «بيرانديلو» فى ثلاثيته الشهيرة المسرح داخل مسرح التى يطرح من خلالها مسألة أى العالمين أشد حقيقة؟ عالم الواقع أم عالم الخيال؟ ليثبت من ثلاثيته أن عالم الخيال أصدق من عالم الواقع، أى أن العالم المتخيل يظهر الشخصية على حقيقتها ويخلع عنها القناع الذى تظهره للآخرين، وهذا ما يظهر من خلال العرض فى الفرقة المسرحية، وأنه تظهر مشكلاتها الحقيقية من خلال عالم الأسرة الوهمى فيصبح الوهم حقيقة والحقيقة مجرد وهم.
ولأن الارتجال يعتمد فى المقام الأول على أداء الممثلين فوفق المخرج فى اختيار ممثليه فكل شخص فى مكانه؛ بسبب قدرتهم العالية على الارتجال وساعد ذلك التناغم بينهم، فنجحت (عبير الطوخى) فى التعبير عن الأم المصرية الموجودة فى كل منزل بجانب النقيض الآخر لشخصية (مرمر أبيض) فتاة الديسكو مما أبرز إمكانياتها التمثيلية وقدرتها على التنقل، كذلك (جلال عثمان) فى دور المخرج والأب الحريص و(أحمد نبيل) فى دور الابن، (إيمان مسامح) فى دور الجارة، (وليد الزرقانى) مشعل صديق الإبن الذى يجره إلى الفشل.
استطاع المخرج (محمد الشافعى) أن يقدم لنا عرضًا دسمًا طوع فيه كوميديا دى لارتى بطابع مصرى تمتزج فيه الكوميديا والسخرية، الواقع والخيال وربط الكلاسيكيات بواقعنا المعاصر.


محمد خالد