العدد 916 صدر بتاريخ 17مارس2025
الفن قادر على تشكيل وعى الأجيال والسمو بالأمم لتصل إلى أعلى مراتب ممكنة، وهو عمل إبداعى يختلط فيه الواقع أحيانًا بالخيال، ويقدم من خلاله الكاتب أو المخرج رؤية ما حول الفكرة أو الواقع أو الأحداث التاريخية، وفى مسألة تقديم التاريخ أو السيرة يختلف نهج التناول لها بين الوثائقية أو التعليمية التى يبدو هدفها واضحًا من اسمها، وبين الأعمال الدرامية التى يتم اللجوء فيها للتاريخ أو السير كنموذج لترسيخ أفكار ما فى وعى الجمهور بشكل بتسليط النظر على نقاط أساسية مهمة وفق رؤية مقدمها بغية إفادة المتلقى، وهى تحث المشاهد على التفكير والبحث فى ثنايا الموضوع المطروح لفهمه أو معرفة حقيقته، ومن آثاره الإيجابية تفعيل قدرة النقد للجمهور، فالسير الذاتية فى الأعمال الفنية الدرامية لم يكن تناولها فى حد ذاته غاية بقدر ما يكون توظيفها للتأكيد على مقولة أو رأى أو طرح قضية ما، فهى لا تنقل التاريخ، ومن يرغب فى معرفته فليبحث وليقرأ مصادره حتى يقف على حقيقته بنفسه دون وسيط، فالأعمال الدرامية - ومنها المسرح - فنون قادرة على إحداث التغيير فى الوعى والثقافة والقيم والأخلاق، وهى جديرة بالاهتمام وخاصة فى عصرنا الحالى والذى يتطلب طرح كثير من الأفكار والقضايا الشائكة من خلالها.
ومؤخرًا شاهدت مسرحية “الأرتيست” التى قدمها على مسرحه مركز الهناجر للفنون، وهى من إنتاج البيت الفنى للمسرح، والتى قدمت لأربعة مواسم أخرها كان فى يناير الماضى، وقد سمعت عنها قبل أن أشاهدها، وكتب عنها عدد من النقاد، ولم تتوافق الظروف معى لرؤيتها، وقد حرصت على مشاهدتها بمجرد الإعلان عن إعادة عرضها فى موسمها الرابع فى يناير الماضى، وسبق لها فى موسمها الثالث أن شاركت ضمن عروض المهرجان القومى للمسرح فى دورته الأخيرة، وقد حصدت جوائز التمثيل نساء، منها جائزة أفضل ممثلة دور أول لبطلة المسرحية “هايدى عبدالخالق”، وأفضل ممثلة دور ثانٍ لـ”فاطمة عادل”، وأفضل ممثلة صاعدة لـ”ياسمين عمر”، وهى مسرحية تقدم رؤية خاصة عن مسيرة الفنانة الكوميديا الراحلة “زينات صدقى”، من تأليف وإخراج “محمد زكى”.
“زينات صدقى”؛
ابنة الإسكندرية، المولودة فى 4 مايو 1912، والتى حلت ذكرى وفاتها الـ46 مع بداية مارس الحالى، حيث رحلت عن عالمنا فى 2 مارس عام 1978 عن عمر ناهز الـ66 عاما، فنانة كوميدية اشتهرت بتلقائية الأداء وخفة الظل، قدمت خلال مسيرتها الفنية مجموعة من الأدوار الكوميدية التى سجلت بها بصمة بارزة جعلتها أيقونة للكوميديا بتاريخ السينما المصرية، قدمت عددًا من الأعمال يصعب حصره - ربما تحاوز الـ350 عملًا - منها (شارع الحب، معبودة الجماهير، ابن حميدو، دهب، إسماعيل يس فى الأسطول، إسماعيل يس فى البوليس، الأنسة حنفى، العتبة الخضرا..”، بدأت حياتها الفنية خلال ثلاثينيات القرن الماضى، ضمها نجيب الريحانى لفرقته لتشارك فى معظم مسرحياته وقتها، أول أعمالها الموَّثقة فيلم “بسلامته عايز يتجوز- 1936” وآخر ظهور لها بالمسرح كان عام 1965 فى مسرحية “أنا وأخويا وأخويا” أمام “محمود المليجى” من إخراج “عبدالمنعم مدبولي”، وآخر ظهور لها بالسينما فى فيلم “بنت اسمها محمود” عام 1975.
النص المسرحى؛
“الأرتيست - زينات صدقى” واحدة من كثيرين من فنانى الزمن الجميل الذين لم يحظوا ما يستحقونه من تقدير، وهى واحدة ممن عانوا خلال مسيرتهم؛ بسبب اختيارهم الاشتغال بالفن، خاصة فى سنواتها الأخيرة التى عاشت العوَّز والفقر بسبب نكران وجحود الوسط الفنى لها، ولقد تنبه “محمد زكى - مؤلف/ مخرج” العرض للحظة مضيئة بأواخر حياتها، لحظة اتصال الرئيس الراحل “أنور السادات” بنفسه على “زينات” ودعوته لها ليكرمها فى “عيد الفن”، ولحضور فرح ابنته، فتفرح بذلك، وتقف طويلًا أمام دولاب ملابسها لتختار فستانًا تحضر به، ولكنها تكتشف عدم وجود ما يليق بالحفل، وليلتقط المؤلف تلك اللحظة الإنسانية - رغم بساطتها - ليُفجر منها حالة درامية شديدة الثراء، لينفذ منها لاستعادة ذكرياتها ليطرح من خلالها رؤيته، إذ وجد فى لحظة تكريم الدولة لها اعترافًا بقيمة عطاءها الفنى، وأنها بمثابة انتصار لها على من نعتوها بـ”الأرتيست”، ولينهى المسرحية بلقاء تليفزيونى “لزينات” مسجل تتشفى فيه ممن تبرأوا منها (نفسى قرايبى اللى كانوا بيتبرأوا منى يشوفونى، اللهم انصر الفنانين على أهاليهم اللى مبيعترفوش بالفن)، وليختار “المخرج/ المؤلف” الأغنية الشهيرة للفنان “إسماعيل ياسين” (عينى علينا يا أهل الفن يا عينى علينا) لينهى عرضه بها، بما يؤكد بأنه يطرح قضية اختار لها “الست زينات” لتكون نموذجًا لغيرها من الفنانين ممن عانوا من المجتمع؛ بسبب عملهم بالفن.
شارك فى التأليف “أسماء السيد”، ولقد أصاب الكاتبان باختيارهما لحظة بداية النص، كذلك الاكتفاء ببعض ملامح سيرة “زينات صدفي” وعدم الاسراف فى تفاصيلها وعيًا بأن العمل لا يقدم تاريخًا لحياتها، وهذا الوعى منحهما حرية التصرف بالإضافة والحذف، وبتأليف أكثر من خط درامى فرعى لا وجود له فى حياة الفنانة الراحلة، بما يعمل على إبراز الرؤية الفكرية للمسرحية، ومنها قصة الحب التى ربطت بين ابن شقيق “زينات” الذى يعيش معها وبين ابنة صديقتها، أيضًا علاقة خادمتها بخادمها القديم، وأعتقد أيضًا تفاصيل شخصية الشقيق من نسج خيال المؤلف، وبعض تفاصيل أخرى لجأ إليها لزوم الحبكة.
لم يكن طموح النص مجرد طرح سيرة ذاتية لفنانة للتعاطف معها، بتوقفه أمام محطات من حياة “زينات” منذ طفولتها واستعراض معاناتها من أسرتها التى رفضت عملها بالفن، وتنكرهم ومقاطعتهم لها، وكذلك لم تكن قضية معاناة أهل الفن ونظرة المجتمع وفقط، وأن ركز عليها بإبراز ازدواجية موقف المجتمع بين حب للفن للاستمتاع به وبين التقليل من شأن من اتخذه مهنة له، وما “زينات صدقى” هنا إلا نموذج للتعبير عن كفاح الفنان وتضحياته من أجل فنه، لم يقف طموح النص عند هذا فقط، إذ إنه فى ذات الوقت - فى إطار رسالته - يعرض لقضية ذكورية المجتمع هادفًا إلى نصرة قضية المرأة بشكل عام، والفنانة منهن بشكل خاص.
وعلى سبيل تعميق الدراما وتقوية بناء الشخصية لـ”زينب محمد مسعد” - الاسم الأصلى لزينات - عمل النص على إبراز الأثر النفسى المترتب على قرار اختيارها الحر للاشتغال بالفن، بتعرضها خلال حياتها لسلسة طويلة من الفقد، زادت من قسوة وحدتها تباعًا فى مسيرة تمسكها بحلمها وإصرارها عدم التخلى عنه، بدء بفقدها للاستقرار حين تم تخيريها بينه وبين الفن، فكان الفقد الأول لبيت الأسرة، ومن بعده بيت الزوجية مرتين، ثم كان الفقد بالرحيل” بموت الأم، ثم موت خيرية رفيقة رحلتها، ثم فقد السند حيث أبيها الذى رفض حلمها، وأخيها الذى فقدته مرتين الأولى لحظة صفعه صغيرًا حين كان مدافعًا عن حلمها، وكبيرًا عند تحوله وتبنيه موقف الأب، كذلك فقد الأضواء، وفقد دعم الوسط الفنى فى كبرها، وفقد الثروة، وفقد كل من خادمها وخادمتها بعد فقرها، وفقد الفساتين التى كانت تزهو بها فى الحفلات، بما كان من كل ذلك من أثر نفسى عليها، وان حاول المؤلف أن يعادل ذلك الفقد بالراديو “مبعث الذكريات” ليمنحها السلوى من خلال غناء أم كلثوم ليمنحها دفء ذكرياتها وتحقيق أحلامها، وأيضًا بعض من تذكروها؛ “خياط الفنانين” و”الخادم والخادمة” اللذان أعادها لأداء مشاهد من أدوارها بما يشعرها ببعض من حلمها الذى حققته، كما لم تفقد إكمال هذا الحلم بأن تتخذ من ابن أخيها امتدادًا لها، لقد فقدت أشياء كثيرة لكنها لم تفقد حلمها.
الإخراج؛
ارتكز مخرج “الأرتيست” على ثلاثة عناصر أساسية، هى؛ نص مسرحى محكم البناء، سينوغرافيا صممت بحرفية لعبت الإضاءة فيها دورًا مهمًا، أداء تمثيلى اعتمد فيه على صدق المعايشة والحركة المسرحية البسيطة، وقد وُّفق فى توظيفها مع كل عناصره الإخراجية لخدمة رؤيته الإخراجية، فنجح فى تقديم عرضًا اتسم بالدفء الإنسانى، اعتمد فيه بشكل أساسى على التمثيل، مع لجوئه لاستخدام مقاطع من أغانى الزمن الجميل فى النقلات بين المشاهد للمساعدة على تحقيق المعايشة للفترة الزمنية لموضوع العرض بما يجعلنا نحَلِّق مع نوستاليجا تلك الفترة، لنتذكر أعمالها الفنية القديمة ونستعيد معها فنانين الذين طالما استمتعنا بفنهم الذى بات جزءًا من ثقافتنا وصار لهم وجودًا فيها.
استفاد من تكنيك “الفلاش باك” المزدحم بكثير من مشاهد النص، بل و”الفلاش باك داخل الفلاش باك” فى المشهد الذى عاد فيه لذكرياتها مع الخياط، ومنه إلى ذكرياتها مع شقيقها، وقد نجح فى تنفيذ هذا التداخل بين الأزمنة بسلاسة، ولم تؤثر على إيقاع الأحداث، حيث كان هذا الاستخدام يتفق ومتطلبات الدراما، والسياق النفسى للشخصية، كما يحسب له تطعيم المشاهد ببعض الكوميديا وخفة الظل بما يتفق وطبيعة الشخصية المحورية وروح الممثلين الشباب، عدم مجازفته بالانسياق لإغراءات الفذلكة الإخراجية التى قد لا تتسق مع السياق العام للحالة، وقد كانت من أشد اللحظات إشعاعًا ذلك المشهد الذى جسده شقيق “زينات” - الذى كان داعمًا فى صغره لحلمها وتعرض للصفع من أبوه - لنشاهده يلبس شخصية أبوه فى صفعه لابنه مكررًا نفس ما تعرض له قديمًا، فى لحظة تظهر قوة سلطة المجتمع وجمود القيم وصعوبة تغير السلبى منها إذ لا تسقط مع الزمن، بما يكشف واقع عدم تحرر المجتمع من الجمود رغم التقدم.
وفى ذات الوقت يؤخذ على المخرج اسهابه فى بعض تفاصيل كان لها أثرًا سلبيًا على الإيقاع، مما كان يستوجب تكثيفها، ومنها مشاهد السطوح التى طالها الاسترسال فى الحوار الذى طال بما أثر على الإيقاع أحيانًا، بالإضافة إلى أنها تبعد بنا عن الموضوع الأصلى خاصة وأنها حكاية فرعية، كذلك، مشهدى “زينات وشقيقها وأبوها” و”شقيقها مع أولاده” لإبراز استمرار توارث تقاليد التصدى لحلم الأبناء بغية استنساخ الأجيال، إلا أنها كانت بحاجة إلى تكثيف لتكرر المضمون.
السينوجرافيا؛
استوعب مصمما الأزياء “أميرة صابر– محمد ريان” الفترة الزمنية للأحداث، فعبرا عنها فى تصميمهما ملابس الشخصيات، وتحديد الألوان المتوافقة مع المواقف المختلفة، كما برع “أبوبكر الشريف” فى توظيف الإضاءة ما بين الإنارة فى حاضر الشخصية، وبؤر الإضاءة مع عمق الذكريات التى تتداعى لزينات بما يتفق والحالات النفسية لكل مشهد، كذلك اللحظة الخاصة التى تتكرر مع “زينات” بانبعاث الضوء تجاه الجمهور فى كل مرة تفتح فيها دولاب ملابسها ليبدو الدولاب وكأنه آلة عرض سينما تبدو منه زينات كخيال ظل يأخذنا معه لذكرياتها كمدخل تنفذ منه لبدء كل مشهد تتذكره.
نجح مصمم السينوغرافيا “فادى فوكيه” فى توظيف مساحة الفراغ المسرحى، وخلق خصوصية للمناطق على خشبة المسرح، معتمدًا على ديكور ثابت لمنزل “زينات”، عبر به عن البعد الداخلى النفسى وكذلك البعد الاجتماعى لها، وذلك بلغة فنية بليغة “سلُّم، سطح، حوائط عُلقت عليها براويز لصوَّر جميعها لها دلالات ترتبط بذكريات الشخصية، صالة بها (أريكة، كرسى هزاز، تليفزيون، راديو)، غرفة نوم ودولاب، ونجح من خلال مفردات الديكور الواقعى فى خلق عالم نفسى له دهاليز تنقلنا من خلالها إلى ذكريات الزمان الماضى حيث الأماكن المرتبطة بها (بيت الأسرة القديم الذى عبر عنه بسرير وصورة معلقة للأب، محل بسيط للخياط بمكان شعبى، مكان معادل لأضواء الشهرة وامتلاء الدولاب بفساتين متنوعة وعالم السينما، شارع، كباريهات، لبنان) وقد حقق كل تلك الانتقالات المكانية فى نعومة وسلاسة رغم ثبات قطع ديكور بما لا يؤثر على إيقاع العرض، الأمر حقًا يستوجب التحية الخاصة لـ”فواكيه”.
الأداء التمثيلى؛
جاء الأداء التمثيلى كأكثر عناصر العرض تميزًا، بما استحق التقدير لجميع فريق العمل، وفى المقدمة منهم الفنانة القديرة “هايدى عبد الخالق” التى وعت صعوبة تجسيد شخصية محبوبة لها سماتها الخاصة المحفورة بذاكرة الجمهور، ما يترتب عليه صعوبة الانفلات من سطوة الشخصية بما قد يصعب معه تحقق الرسالة الأساسية لمضمون النص، فكان الاستلهام لروح شخصية “زينات صدقي” مع عدم التقليد لها هو السبيل الأمثل، وهو أمر يستلزم وعيًا فنيًا عاليًا وتدريبًا مرهقًا اجتازته، حيث عايشت الشخصية وأبعادها النفسية وأحوالها، واستشعرت تكوينها الجسدى وطبيعة حركتها، فاستوعبت معاناتها، الأمر الذى ميز أداءها بالصدق الذى كان جواز نفاذها إلى قلوب المتفرجين الذين أحبوا الشخصية وتعاطفوا معها.
ولقد كان للبناء الجيد بالنص لشخصية البطولة الثانية أثره فى منح مساحة للإجادة فى الأداء التمثيلى لـ”فاطمة عادل” - التى تجيد الغناء أيضًا - فى أدائها لدور “خيرية” رفيقة “زينات” التى شاركتها حب الفن ومعاناة رحلة الكفاح، وتميز أيضًا كل من “محمود الغندور” و”ياسمين عمر” اللذان أتقنا دوريهما، حيث كانا بمثابة خط درامى ثان صاغه مؤلف النص ليكون موازيًا لسيرة “زينات”، من خلال قصة حب بين “ابن شقيقتها وابنة خيرية”، وبشكل عام؛ تفوق فريق التمثيل الذى تكون من مجموعة من “الشباب” تلك السمة التى أضفت على إيقاع العرض الحيوية، والتنافسية فيما بينهم، أدوا أدوارهم باحترافية عالية فتميزوا جميعًا؛ “إبراهيم الألفى، إيهاب بكير” شقيقها فى مرحلتين عمريتين، “مارتينا هاني” ابنة شقيها، “احمد الجوهري” الخياط، “محمود حلوانى، ريم مدحت” السفرجى والخادمة، “ياسر أبو العينين” الأب، “عبد العزيز العناني” البواب، “فيولا عادل” الأم، هذا؛ ويستوجب توجيه التحية للفريق المعاون، ماكياج «إسلام عباس»، أفيشات «أحمد الجوهر»، مساعدا الإخراج «أحمد شبل ومروة حسن»، مخرج مساعد «محمود حلوانى»، المخرجان المنفذان «ياسر أبوالعينين وخالد مانشى».