سر اللعبة المسرحية قراءة عميقة ومتنوعة للمسرح الشرطى

سر اللعبة المسرحية  قراءة عميقة ومتنوعة للمسرح الشرطى

العدد 917 صدر بتاريخ 24فبراير2025

لعلًّ العنوان الرئيسى لهذا الكتاب يدفعنا أن نتساءل: ماذا يعنى (الشَرطى) فى المسرح؟
ففى مقدمته يجيب المؤلف الدكتور مؤيد حمزة، قائلًا: «اتجاه فنى فى عملية الإبداع المسرحى ظهر وتبلور فى نهاية القرن التاسع عشر -بداية القرن العشرين كنقيض للمسرح الواقعى وتحديدًا الطبيعى فى المسرح”، وهذه الإجابة تتوالى تشخّيصًا وتفصيلًا عبر سرد المؤلف وقائع عروض مسرحية وشهادات كتّاب ونقّاد ومخرجين مسرحيين من جميع العالم.
وربما عنوان الكتاب الفرعى (سر اللعبة المسرحية) يعطينا مفتاحًا واحدًا للدخول إلى جوانية هذا (السر) لكن نحتاج إلى مفاتيح اخرى يضعها الكاتب الدكتور حمزة بين أيدينا ونحن نقرأ فصول الكتاب الثلاثة وبما تسرد عن تجربة المسرحى فيسفولد مايرهولد المتأسسة عبر البحث والتحدى والإكتشاف والإبتكار.
يبدأ الفصل الأول بمنح القارئ اول المفاتيح عبر مقولة لفولتير (سر القدرة على بث الملل يكمن فى قول كل شىء)، وهذه المقولة تٌقرِّب القصيدة أو تجعلها توأم المسرح، فكلاهما يٌفرغان من “نشوة” الحضور والفعل والتأثير حينما يعتمدان على سرد او (قول كلّ شىء) مباشرة ودفعة واحدة، ولكنهما-القصيدة والمسرح- سوف يشعّان بطاقات التفاعل واثارة التساؤلات والجمال والمعرفة حينما ينشعلان بسبر عمق ودلالات (كل شىء) وليس قوله ولذلك (اعتبر مايرهولد بأن غلبة التيار الادبى على المسرحى فى اى عصر من العصور شكّل دليلا على انحطاط المسرح ص30) ومثلما يذكر حمزة بأن رفض مايرهولد لطغيان (التيار الأدبى على المسرحي) كان مرافقًا لتثمينه لنصوص شكسبير كونها تملك (عنصر المسرحة) والذى يعنى الفضاء المفتوح والمؤدى صوب المزيد من التأويل والتنويع فى القراءات وطرح المقترحات الفكرية والبصرية، وهذا التوجه المايرهولدى يراه الكاتب حمزة صحيحًا لأن شكسبير (انطلق للكتابة المسرحية من رحم المسرح)، وهنا يمكن أن نقف ونشير إلى الكثير من النصوص “المسرحية” العربية قد كانت تفتقر إلى (عنصر المسرحة) أو يتسيّد فيها العنصر الفكرى الذى يبثها الكاتب بطريقة تتعارض او لا تتوالم أو تختلف مع رؤية المخرج-رغم تبنيه فكر الكاتب- وقراءته للنص وربما تٌعرقل إنطلاق زخم التخييل لديه وهو يريد بناء المشهديات البصرية.
ومع توالى قراءة فصول كتاب “المسرح الشرطي” تؤكد مضامينه بأنها ليست أكوام من المعلومات والأحداث والشخصيات والمواقف والآراء، إنها فى جوهرها فريدة فى تحريض القارئ على طرح التساولات، ومنها:
هل يمكن، يستطيع، يؤسس المسرحى فضاءً فرجويًا يمزج فيه الواقعى بالشرطى؟!
هل المشهديات الفنتازية المٌمتعة، المٌبهرة فى (الألعاب والمٌناظرات والمٌظاهرات ) تٌعتبر من أبعاد ومستلزمات وطقوس المسرح الشرطى؟!
إذا توقفنا عند التساؤل الثانى فإننا يمكن أن نقول ما ذهب اليه المؤلف بأن (هذه الفعاليات تٌنفذ أصالة وليس نيابة مثل ما يحدث فى العرض المسرحى نصًا وإخراجًا و تمثيلًا) ومع التساؤل الأول أطرح بعضًا من ما قمت به فى عروضى المسرحية، وفيها حاولت تأسيس تداخل بين المشهد الواقعى والمشهد الشرطى، بين الحدث اليومى والحدث المتخيل أى الشرطى.
ففى عرض (الوردة الحمراء، الدامية»1») الذى كتبتٌ وأخرجت أحداثه بمنطق شرطى ولكن بمعلومات واقعية تشير إلى وجود وحياة وقصائد شاعر اسمه فائق بيكه س وإلى حضور ووجع وحلم مناضلة اسمها ليلى قاسم، وللعلم أن ليلى أول امرأة يٌنفذ فيها حكم الإعدام فى تاريخ العراق!
ليلى قاسم وفائق بيكه س يلتقيان فى فضاء العرض ولكن لم يلتقيا فى الواقع، فقد عاشا ورحلا عن الدنيا فى زمنين مختلفين ومتباعدين، وهنا حاولت تأسيس معادلة تداخل الشَرطى بالواقعى بشكل لا تٌفرِق بينهما لأننى حاولت سردهما بصريًا عبر مشهديات مٌطرزة بحلم الانسان فى الحرية وبناء حياة خالية من القهر والموت والطغاة وهذا ما نراه يبدأ به فائق بيكه وهو يلقى قصيدة يحاول بصورها الشعرية العذبة تخفيف من خوف وهواجس ليلى قاسم، هنا لحظة القاء القصيدة واقعية لكنى أمزجها بطقس فنتازى، مٌتخيل، شرطى عبر البدءبمشهد حديقة مليئة بالزهور الملونة والنباتات الخضراء والفراشات التى يلاحقها فائق بيكه س وليلى قاسم، وهما يغنيان تلك القصيدة مع نقر الدفوف والمطر المتساقط.
وفى عرضى المونودراميين المتعاقبين (أسئلة الجلاد والضحية «2») و (منيكانات «3») مشهديات سيناغرافية تتداخل فيها وما بينها الوقائع بطقوس شرطية، فمثلًا فى العرض الأول نجد |الضحية| يسرد يوميات حياته، وهو داخل زنزاته ولكنه سرده يتحول إلى الفعل البصرى ونشاهد الأرجوحة التى صارت مكان تعذيب وقهر وفق المنطق الشرطى قد أرجعت اصولها الواقعية كأرجوحة باحة البيت يتمرجح عليها الضحية وهو يدخن بفرح كبير، فيما نشاهد فى العرض الثانى الضحية تندفع من زنانتها لنجدها فى شارع ما تروى ما يحصل فيه من انفجار مرعب، قتلى وجرجى وانين، وإذا نرى الضحية قد وضعت نفسها بين المصابين وإذ بها حامل تصرخ من إصابتها ومن حالة مخاض تنتهى وينتهى هذا المشهد الشرطى ببكاء وليد تمتزج معه الموسيقى السعيدة.
إن محاولاتى فى تأثيث مشهديات شرطية أخذت نبضها من عشقى للتخييل لم تمنعنى من اختيار وقائع حياتية بعضها كانت متوفرة فى نصوص الكتّاب وقسم منها استمدها من يوميات أنية أعيشها أو يعيشوها الآخرون بذلك كنت أنوى مغادرة تجارب مسرحية مهمة لأساتذتى ولمخرجين مسرحيين عرب شاهدت عروضهم فى العديد من المهرجانات المسرحية، فى هذا السياق توقفت -مستفيدًا من- عند اجتهادات المبدع الروسى فيسفولد مايرهولد (ولدت تجربته تحت عباءة ستانسلافسكى ومن ثم نزع هذه العباءة، بل رماها خلفه ومشى فى توجهه، المسرح الشرطى) مثلما يقول الكاتب الدكتور مؤيد حمزة.
ولكن هل يعنى وضع المؤلف جانبًا والاكتفاء بتبنى الفكرة الجوهرية من نصه؟!
أعتقد لا يمكن التخلى عن كاتب النص المسرحى ولا مبرر فى دعوات ما تسمى بـ (موت الكاتب) لكن يمكن التناغم مع مايرهولد الذى يقول عنه الدكتور حمزة إنه (نقل المسرح فى روسيا صوب فضاءات أكثر فعالية وتأثيرًا والتفاعل مع المتلقى ورفض رفضًا قاطعًا فكرة أن يكون المخرج مجرد مترجم لأفكار الكاتب...ص 70-71)، ويمكننا ان نتسائل أيضًا:
وهل يعنى اختيار “المسرح الشرطى» الإغراق فى الحلول البصرية المٌبهرة والمٌمتعة؟!
ولعل الكاتب مؤيد حمزة يجيب عن هذا التساؤل وهو يتحدث عن مايرهولد رغم شغفه فى إيجاد “فضاءات جديدة” للعرض فإنه يؤكد أن (المسرح المستقبلى يجب ان يعود إلى ذلك البدائى، التعقيد يجب أن يترك مكانته للتبسيط.. ص 80)، وقد كتبت فى ورقة بحثى التى قدمتها فى مهرجان القاهرة التجريبى للمسرح | الدورة 30، حول إشكالية الانزلاق فى مٌتعة المقترحات البصرية والسقوط فى افخاخ اغوائٍها التى تٌبهر ولكن لا تترك دلالات جمالية وبصمات معرفية.
وعبر فصوله الثلاثة يتناول الدكتور مؤيد حمزة مفهوم “المسرح الشرطى» بدقة ودراية كاتب معرفى،أى عبر قراءة عميقة له ولمساراته المتنوعة ولحلوله البصرية المختلفة والغنية بالدلالات والأساليب وهذا المفهوم نادرًا ما جرى الحديث عنه أو الكتابة عن مساراته النظرية والتطبيقية مع أنه أصبح -أى المسرح الشرطى- اليوم انشغالًا حيويًا ومؤثرًا وضروريًا فى التوقف عندما (اسماه مايرهولد “سر اللعبة المسرحية” خاصة بالنسبة للمسرحيين المبدعين الذين لا يرغبون التخندق تحت العباءة المسرحية المستهلكة.
....................................................................................
هوامش
1- الوردة الحمراء عرض مسرحى قٌدم فى احدى دورات مهرجان أربيل للمسرح
2- أسئلة الجلاد والضحية تأليف الكاتب العراقى صباح الأنبارى،عرض مسرحى قدمته فى مدينة تورنتو -كندا


فاروق صبري