العدد 918 صدر بتاريخ 31مارس2025
يعتبر الفنان الموظف هو الركيزة المنسية فى المسرح حيث يواجه الفنان المسرحى تحديًا دائمًا بين الحاجة إلى الاستقرار المالى ومتطلبات الإبداع الفنى. وبينما يعتمد بعض الفنانين على المشاريع الحرة والمواسم المسرحية، يظل “الفنان الموظف” عنصرًا أساسيًا فى استمرارية المشهد المسرحى، خاصة داخل المؤسسات الثقافية مثل البيت الفنى للمسرح، البيت الفنى للفنون الشعبية والاستعراضية، والهيئة العامة لقصور الثقافة، وغيرها من الجهات التى توفر للفنانين فرص عمل دائمة. فهل يمكن اعتبار هذا النموذج ضروريًا لدعم المسرح؟ وما تأثيره على جودة العروض والعملية الإبداعية؟
إن الفنان الموظف ركيزة لاستمرارية المسرحى، حيث يتيح نظام التوظيف للفنان المسرحى فرصة تقديم أعماله بانتظام دون القلق بشأن مصدر رزقه، ما يساعد على تحقيق عدة أهداف:
1. ضمان استمرارية الإنتاج المسرحي: وجود فنانين متفرغين داخل الفرق المسرحية التابعة للدولة يضمن استمرار العروض، حتى فى الفترات التى يعانى فيها المسرح التجارى أو المستقل من ركود.
2. نقل الخبرات للأجيال الجديدة: الفنان الموظف غالبًا ما يكون أكثر استقرارًا، ما يسمح له بتدريب الشباب والمساهمة فى خلق أجيال جديدة من المسرحيين.
3. تحقيق العدالة الثقافية: عبر انتشار الفرق المسرحية فى المحافظات، يمكن للفنانين الموظفين تقديم عروض فى أماكن قد لا تصلها الفرق المستقلة بسهولة.
4. إتاحة الفرصة للتجريب الفني: وجود راتب ثابت يخفف الضغوط المالية عن الفنان، ما قد يمنحه حرية أكبر فى خوض تجارب فنية جديدة دون الخوف من الفشل التجارى.
ورغم ما يتيحه هذا النظام من استقرار، فإنه يحمل بعض التحديات التى قد تؤثر على الإبداع:
1. الروتين والبيروقراطية: ارتباط الفنان بمؤسسة حكومية قد يحد من حريته الإبداعية، حيث يخضع لنظم إدارية قد لا تتماشى مع طبيعة العمل الفنى.
2. ضعف الحوافز المادية: غالبًا ما تكون الرواتب ضعيفة مقارنة بحجم الجهد المبذول، مما يدفع بعض الفنانين للبحث عن أعمال إضافية، وهو ما يؤثر على التفرغ للمسرح.
3. خطر الجمود الفني: بعض الفنانين الموظفين قد يقعون فى فخ التكرار، خاصة إذا لم تُتح لهم فرص حقيقية للتطوير والتدريب المستمر.
لكى نحافظ على إبداع الفنان الموظف لتحقيق التوازن بين الاستقرار والإبداع، يجب اتخاذ بعض الخطوات، مثل:
تحسين الرواتب والمزايا لضمان حياة كريمة للفنان دون الحاجة للبحث عن أعمال إضافية.
تشجيع الإنتاج الفنى المستمر عبر وضع خطط للعروض المسرحية وعدم الاكتفاء بالعمل الإدارى.
توفير فرص تدريب وتطوير داخل المؤسسات الثقافية، سواء عبر ورش عمل أو بعثات فنية.
إتاحة الحرية للتجريب الفنى بحيث لا يكون الفنان الموظف محصورًا فى أنماط محددة من العروض.
مما سبق نستطيع أن نقول انه يبقى الفنان الموظف عنصرًا ضروريًا فى المسرح، حيث يسهم فى ضمان استمراريته ونقل الخبرة للأجيال القادمة، لكن لضمان بقائه عنصرًا مبدعًا وليس مجرد منفذ للأوامر، يحتاج هذا النظام إلى تطوير مستمر كى يتحول الفنان الموظف إلى نموذج أكثر حداثة ومرونة يدعم الإبداع دون أن يفقد مزاياه.
فالفنان المسرحى الموظف ليس مجرد ممثل يظهر على الخشبة، بل هو العمود الفقرى الذى يحافظ على استمرارية العروض، يشارك فى البروفات المكثفة، يدرب الأجيال الجديدة، ويساهم فى إثراء المشهد الثقافى. على مدار عقود، كان هذا الفنان هو الجندى المجهول الذى يقف وراء نجاحات العروض المسرحية، ورغم ذلك، يواجه اليوم أزمة اقتصادية خانقة نتيجة تجميد مكافآته منذ أكثر من 17عامًا، (منذ ان قام د. أشرف زكى برفعها عندما كان رئيسا للبيت الفنى للمسرح) فى مقابل ارتفاع غير مسبوق فى الأسعار وتكاليف المعيشة.
ويرجع الفضل فى إقرار مكافآت التميز للفنانين من أجل تقدير جهودهم وتمييزا لموهبتهم إلى الفنان القدير عبد الغفار عودة (رحمه الله) عام 1995 حينما أقرها كلائحة ملزمة بالبيت الفنى للفنون الشعبية والاستعراضية حفاظا على كرامة الفنان الموظف وتشجيعا له لضمان بذل الجهد واستمرار عمله بمسرح الدولة دون ان يلتفت لإغراءات العمل بالدراما التليفزيونية. ومن بعده وفى عامى 2000/2001 أقرها كلائحة الفنان القدير/ محمود الحدينى فى البيت الفنى للمسرح حينما كان رئيسا له، بعد ان كانت تصرف وتقدر من قبل تبعا للتقدير الشخصى، حتى جاء الفنان القدير/ د. اشرف زكى بعدها بسنوات (حوالى عام 2007) ليسهم فى رفع قيمة المكافآت بمقدار 1000 جنيه لكل فئة.، وتم مساواة البيوت الفنية فى قيمتها المادية. وقد أصابها الجمود منذ ذلك الحين وحتى الآن.
فى ظل اقتصاد يشهد قفزات جنونية فى أسعار السلع الأساسية، تجاوز الدولار حاجز 50 جنيهًا، وارتفاع تكلفة المواصلات والكهرباء والمياه، بقيت مكافآت الفنانين المسرحيين ثابتة، لا تتناسب مع الواقع الاقتصادى الحالى. والأسوأ من ذلك، أن المسئولين فى الهيئات المسرحية يلجأون إلى التعاقد مع فنانين من خارج المؤسسات بمبالغ خيالية، بينما يُترك الموظفون يتقاضون الفتات، وكأنهم لا يستحقون تحسين أوضاعهم المالية رغم مجهودهم المستمر على مدار العام. وعندما يطالبون بحقوقهم، يكون الرد المعتاد: «لديكم راتب شهرى يعوضكم”، وكأن هذا الراتب كافٍ لمواجهة التضخم الجنونى الذى يضرب البلاد.
لقد تحولت مكافآت الفنانين إلى عبء مالى على الفنان نفسه، وذلك للأسباب التالية:
1. الأجور المجمدة فى مواجهة اقتصاد ملتهب:
منذ أكثر من 17 عامًا، لم تتغير منظومة الأجور والمكافآت للفنانين المسرحيين، بينما شهد الاقتصاد المصرى تحولات ضخمة.
ارتفع سعر الدولار من أقل من 6 جنيهات فى 2008 إلى أكثر من 50 جنيهًا فى 2025، مما أدى إلى تضاعف أسعار جميع السلع والخدمات، بينما ظلت أجور الفنانين كما هى.
لم تعد المكافآت المسرحية تمثل أى دعم حقيقى للفنان، بل أصبحت لا تكفى حتى لتغطية تكاليف الانتقال إلى المسرح لحضور البروفات والعروض.
2. المواصلات تلتهم الدخل قبل استلامه:
الفنان المسرحى ليس موظفًا تقليديًا يجلس فى مكتب، بل يحتاج إلى التنقل المستمر لحضور البروفات والعروض، مما يعنى نفقات يومية مرتفعة على المواصلات.
الفنانون الذين يضطرون إلى السفر بين المحافظات يعانون من تكاليف مضاعفة، حيث أصبحت أجرة التنقل الواحدة تلتهم جزءًا كبيرًا من مكافآتهم الضئيلة.
3. فواتير الحياة اليومية تتجاوز الدخل:
تضاعفت أسعار الكهرباء والمياه والإيجارات والسلع الأساسية بشكل غير مسبوق، ما جعل الفنان المسرحى الموظف غير قادر على توفير احتياجاته الأساسية.
بعض الفنانين اضطروا للبحث عن وظائف إضافية أو اللجوء إلى الاقتراض، رغم أن العمل المسرحى وحده يجب أن يكون كافيًا لتأمين معيشتهم.
4. المكافآت لا تعكس الجهد المبذول:
العمل المسرحى ليس مجرد أداء على الخشبة، بل يتطلب أسابيع أو شهورًا من التحضيرات، البروفات اليومية، والإرهاق الجسدى والنفسى.
فى النهاية، يحصل الفنان على مكافأة لا تغطى حتى تكاليف انتقاله إلى المسرح، ما يجعله يعمل تحت ضغط نفسى ومادى هائل.
كما نجد أنه توجد ازدواجية المعايير، حيث تتوفر الملايين للمتعاقدين وتلقى الفتات للموظفين. فبينما يتقاضى الفنان المسرحى الموظف مكافآت متواضعة، تفاجأ الأوساط المسرحية بتعاقدات ضخمة لفنانين من خارج المؤسسات بمبالغ خيالية. حيث تُبرم الهيئات الإنتاجية عقودًا سخية مع فنانين متعاقدين، بينما يُترك الفنانون الموظفون بلا أى تحسين فى أوضاعهم المالية. هذه السياسة تعكس تمييزًا واضحًا ضد الفنانين الدائمين، الذين يتم تجاهل حقوقهم لصالح أسماء يتم استقدامها بعقود ضخمة. والحقيقة ان حجة المرتب الشهرى غير عادلة، حيث يبرر المسئولون ضعف المكافآت بأن الفنان الموظف لديه راتب شهرى، وكأن هذا الراتب يعوضه عن الفرق الضخم فى الأجور بينه وبين الفنانين المتعاقدين. فى الواقع، هذا الراتب أساسى ووظيفى، وليس مكافأة على الجهد الإبداعى الذى يقدمه الفنان فى المسرح. فى المقابل، يحصل الفنانون المتعاقدون على مكافآت ضخمة رغم أنهم لا يعملون طوال العام مثل الموظفين، مما يخلق بيئة غير عادلة داخل المنظومة المسرحية.
والسؤال المحير فعلًا: لماذا يغضب المسئولون من الفنان الذى يشير إلى ضرورة رفع المقابل المادى الذى يتقاضاه؟ حيث اذكر أننى منذ عشر سنوات اثناء عملى فى أحد العروض تحدثت مع المسئول مباشرة عن ضرورة رفع قيمة حوافز البروفات، وللأسف لم أواجه من رفضا فقط بل غضبا شديدا وإساءة فى العلاقة بيننا حتى الآن، رغم أنه كان سابقا من أقرب أصدقائي!
فإذا نظرنا لكيف يتم التعامل مع الفنان المسرحى فى دول العالم الأخرى؟
نجد انه فى أوروبا وأمريكا، يحصل الفنانون المسرحيون على أجور تعكس تكلفة المعيشة، بالإضافة إلى بدلات انتقال، تأمين صحى، وتعويضات مالية عند المشاركة فى العروض.
حتى فى بعض الدول العربية، تم إصلاح أنظمة الأجور للفنانين المسرحيين بحيث يحصلون على رواتب تتماشى مع تكاليف المعيشة الفعلية.
فى مصر، لا يزال الفنان المسرحى يعمل فى ظل لوائح مالية قديمة لم يتم تحديثها منذ عقود، رغم أن الظروف الاقتصادية تغيرت جذريًا.
بعد أن أصبح الفنان الموظف فى المسرح المصرى ضحية لتجاهل إدارى وأزمة اقتصادية خانقة، ما هو الحل لإنقاذ الفنان المسرحي؟ يمكن تلخيص الحل فى النقاط التالية:
1. تعديل نظام المكافآت وربطها بالتضخم
يجب أن تتم إعادة تقييم أجور الفنانين المسرحيين بشكل سنوى بحيث تتماشى مع معدلات التضخم والزيادات فى تكلفة المعيشة.
2. إقرار بدل انتقالات للفنانين
يجب توفير دعم مالى لتغطية تكاليف انتقال الفنانين إلى المسرح، خاصة فى ظل ارتفاع أسعار المواصلات.
3. تحديث اللوائح المالية
يجب مراجعة أنظمة المكافآت القديمة، بحيث تعكس الواقع الاقتصادى الحالى، ويتم تحسين أجور الفنانين بما يتناسب مع مجهودهم.
4. وقف التمييز فى الأجور بين الموظفين والمتعاقدين
يجب إعادة النظر فى سياسة التعاقدات بحيث لا تكون هناك فجوة ضخمة بين أجور الفنانين الموظفين والمتعاقدين من الخارج.
لا بد من تطبيق مبدأ العدالة فى توزيع الأجور، بحيث يتم منح الموظفين المسرحيين حقوقًا مالية تتناسب مع مجهودهم المستمر.
وأخيرا هل يتحرك المسئولون لإنقاذ المسرح؟ فلم يعد بإمكان الفنان المسرحى الموظف تحمل المزيد من الإهمال والتجاهل. فهو يعمل لأشهر طويلة، يبذل جهدًا هائلًا، ثم يحصل على مكافآت لا تكفى حتى لتكاليف انتقالاته اليومية، بينما يتم تخصيص الملايين للمتعاقدين من خارج المؤسسات.
المسرح لن ينهض دون فنانيه، والفنانون لن يستمروا فى العطاء إذا ظلوا يتقاضون أجورًا لا تتناسب مع مجهودهم. إذا لم تتحرك الجهات المسئولة لإصلاح هذه المنظومة المتهالكة، فسنجد أنفسنا أمام انهيار حقيقى للمسرح المصرى.
فهل يستجيب المسئولون أم يظل التجاهل حتى تنهار هذه المنظومة بالكامل؟