رواد المسرح العراقى الحديث واستخدام الموروث الشعبى

رواد المسرح العراقى الحديث واستخدام الموروث الشعبى

العدد 918 صدر بتاريخ 31مارس2025

يتمتع المسرح العراقى بتاريخ غنى يعود إلى قرون مضت، مع مزيج فريد من الفولكلور التقليدى والتأثيرات الحديثة. لعب رواد المسرح العراقى دورًا حاسمًا فى تشكيل المشهد الثقافى للبلاد، مستخدمين الفولكلور كمصدر للإلهام والإبداع. سنتعمق هنا فى السياق التاريخى للمسرح العراقى، ونستكشف الأحداث الكبرى والشخصيات الرئيسية وتأثير استخدام التراث الشعبى فى المسرح العراقى، مع ذكر أمثلة من المسرح العراقى المعاصر. وسوف نقوم أيضًا بتحديد وتحليل الأفراد المؤثرين الذين قدموا مساهمات كبيرة فى مجال المسرح العراقى، ومناقشة الجوانب الإيجابية والسلبية والتطورات المستقبلية المحتملة.
يعود تاريخ المسرح فى العراق إلى بلاد ما بين النهرين القديمة، حيث كانت العروض المسرحية جزءًا لا يتجزأ من الاحتفالات الدينية والثقافية. تأثرت هذه الأشكال المبكرة من المسرح بشدة بالأساطير والفولكلور والرمزية، حيث تركزت العروض غالبًا حول موضوعات الآلهة والإلهات وأساطير الخلق والروايات الملحمية. خلال العصر الذهبى الإسلامى، أصبحت بغداد مركزًا للتميز الثقافى والفكرى، حيث لعب المسرح دورًا مهمًا فى حيوية المدينة. عُرف الخلفاء العباسيون برعايتهم للفنون، ما أدى إلى إنشاء المسارح والمكتبات ومدارس الفنون فى بغداد والمدن الكبرى الأخرى. فى العصر الحديث، تطور المسرح العراقى ليعكس المشهد الاجتماعى والسياسى المتغير للبلاد. شهد القرن العشرين ظهور جيل جديد من ممارسى المسرح الذين سعوا إلى الجمع بين تقنيات سرد القصص التقليدية والموضوعات والأساليب المعاصرة. تم استخدام المسرح العراقى كأداة للتعليق الاجتماعى والمعارضة السياسية والحفاظ على الثقافة، حيث يعتمد الفنانون على الفولكلور لإنشاء عروض مقنعة ومثيرة للفكر.
من أهم الأحداث فى تاريخ المسرح العراقى كان تأسيس المسرح الوطنى العراقى عام 1971. وتم افتتاح المسرح بعرض مسرحية (قيس وليلى) وهى قصة حب مأساوية لها جذور فى الفلكلور العربي. أصبح المسرح الوطنى العراقى مركزًا للتميز المسرحى، حيث يستضيف عروض المسرحيات الكلاسيكية والمسرحيات الموسيقية والأعمال التجريبية.
حدث رئيسى آخر فى تاريخ المسرح العراقى كان تأسيس مسرح المقالات (مسرح الأفكار) فى عام 1980. اعتمدت هذه المجموعة المسرحية المبتكرة على الفولكلور العربى والشعر والأدب لإنشاء عروض رائدة تتحدى الأعراف المجتمعية والأيديولوجيات السياسية. لقد مهد مسرح الأفكار الطريق لجيل جديد من الكتاب المسرحيين والممثلين العراقيين لاستكشاف وتجربة أشكال مختلفة من رواية القصص. لعبت العديد من الشخصيات الرئيسية أدوارًا محورية فى تطوير المسرح العراقى، مستخدمة الفولكلور كمصدر للإلهام والإبداع. أحد هؤلاء الشخصيات هو الكاتب المسرحى الشهير (سعد الله ونوس)، الذى عُرضت أعماله فى المسارح فى جميع أنحاء العالم العربي. اعتمد ونوس على الحكايات الشعبية والأدب الكلاسيكى والقضايا المعاصرة ليبتكر مسرحيات قوية ومثيرة للفكر لاقت صدى لدى الجماهير حتى يومنا هذا.
ومن الشخصيات المؤثرة الأخرى فى المسرح العراقى هو المخرج (جواد الأسدى)1، الذى كان له دور فعال فى تعزيز تقنيات السرد القصصى التقليدى والفولكلور فى المسرح المعاصر. غالبًا ما تتميز إنتاجات الأسدى بتصميمات متقنة وأزياء ملونة وموسيقى حية، مستمدة من الفولكلور العراقى لخلق تجارب غامرة وجذابة للجمهور. وبرزت أسماء كبيرة ولامعة فى عالم المسرح العراقى الحديث مثل الفنان الكبير يوسف العانى، الذى وظف الموروث الشعبى فى العديد من مسرحياته، كما اعتاد على اللهجة العراقية فى العديد من اعماله العالمية المترجمة إلى اللغة العربية. كانت مسرحية (البيك والسايق) المستوحاة من مسرحية (السيد بونتيلا وخادمه ماتى) للكاتب الألمانى الكبير برتولت برشت، كانت هذهِ المسرحية خيرُ دليل على استخدام وتوظيف الموروث الشعبى العراقى فى المسرح. ومن الأسماء الكبيرة الأخرى الفنان الكبير سامى عبدالحميد، وطه سالم، وعونى كرومى، وجعفر السعدى، وغيرهم. وكان رواد المسرح العراقى قدْ انتبهوا إلى أهمية توظيف الفلكلور فى العرض المسرحى، وكانت لهم فى هذا المنحى العديد من التجارب المهمة. وقد أسفر ذلك الاستخدام الأمثل للفلكلور العراقى الغنى بموروثه الشعبى إلى نتاجات فنية كبيرة، ومساهمات على مستوى عالٍ من الإتقان فى الأداء المسرحى، وكذلك فى تمكن الممثلين بأداء ما يناط بهم من أدوار تخدم وتثرى العملية المسرحية على أكمل وجه.

لجأ أكثر كتاب المسرح فى منتصف الستينيات الى الهروب من الواقع والرجوع الى التاريخ والاسطورة الشعبية بسبب صعوبة ايجاز النص من قبل دائرة الرقابة وبالتالى حاول الكاتب المسرحى أن يرمز ويعطى دلالات أيقونية صعبة الفهم وإذا ما اتجه الى الواقع فهو بمثابة اسقاط فرض، حيث يخطئ التشخيص ويسطح الاحداث ويجعل القضاء والقدر هو الأثر الاساسى بدلًا من تناول تناقضات المجتمع وتحليله موضوعيًا. فالمشكلة الرئيسية التى أرقت كتاب المسرح هى أنهم كتبوا عن واقع سريع التغيير سريع التبديل بأساليب فنية هى الأخرى سريعة التبديل، لذلك لجأ كتاب المسرح نحو التعبير عن الواقع المرير للدول العربية المجاورة والهيمنة الصهيونية الساعية الى اضطهاد الشعوب وبخاصة الشعب العربى الفلسطينى مع عدم الاكتفاء بذكر الحالة وانما تسجيلها وتحليلها كمسرحية (الخرابة) لـ(يوسف العانى) التى أدان فيها الصهيونية؛ ما جعل الكثير من المسرحيين العراقيين يراجعون أفكارهم وأساليبهم، وبدأوا وكأنهم يقدمون إدانة لأسلوبهم وطرق تعبيرهم السابقة ولأول مرة يبدأ الفنان بفهم معنى أن يكون المسرح تسجيليًا.
وبعد عام 1968 وحدوث التغيرات والتحولات الجوهرية فى بنية السلطة الحاكمة، حدث تحول فى مجال الكتابة المسرحية تماهت مع تطلعات بعض الكتاب وتوجهاتهم الفكرية والسياسية بإعطاء دلالات ورموز صعبة الفهم وعبروا بطريقة مغايرة عبر ما طرحته هذه التغيرات، ومن هذه التحولات:
اتجاه بعض المؤلفين الى المسرحية التى تستلهم التراث الشعبى والتاريخ القومي.
الاهتمام بكتاب العالم الثالث، كالكاتب البرازيلى (جولهيم فيجويردو) و(جورجى) و(برشت).
ظهور النصوص المعدة للأطفال، وقد اعتمد الكتاب على النصوص الاجنبية حينًا، وعلى الحكايات الشعبية حينًا آخر.
الاتجاه بصورة متزايدة الى احلال اللغة الفصحى محل اللغة الدارجة (العامية).
أما فى مرحلة (السبعينيات) فأقل ما يمكن أن يقال (إن مسرحًا رسميًا عليه شيماء الجد قد أنشئ على يد أساتذة نشطين وتلامذة مشبعون بروح المسرح، فيهم من يعد نفسه للإخراج وفيهم من يعد نفسه للتأليف المسرحى على أسس وقواعد أكاديمية أخذت منحًا (تجريبيًا) متأثرة بنظرية التغريب (البرشتية) وواقعية (ستانسلافسكي)، كما يؤكد ياسين النصير (ظهور تيارات جديدة فى مسرح اللامعقول العبثى والوجودى، وبالأخص بعد قدوم عدد من كتاب المسرح العراقى من خارج الوطن مثل (يوسف العاني) الذى عاد من (المانيا) و(قاسم محمد) من (موسكو) و(محسن العزاوي) من (جيكوسلوفاكيا) و(سعدون العبيدي) و(سامى عبدالحميد) من (لندن).
حيث بدت كتاباتهم أكثر رصانة بسبب الخبرة التى اكتسبوها من تجاربهم خارج القطر، فبرز عدد من المسرحيات كمسرحية (الخرابة) و(المفتاح) لـ(يوسف العاني) ومسرحية (النخلة والجيران) لـ(قاسم محمد) التى استلهم فيها التراث القصصى العراقى، كما استلهم التراث الأدبى العربى فى (بغداد الازل بين الجد والهزل) والموروث الشعبى فى (كان ياما كان) و(مقامات الحريرى) و(مجالس التراث) كما كتب الاديب (محيى الدين زنكنه) عددًا من المسرحيات كمسرحية (السؤال).
بدأ كتاب المسرح فى (الثمانينيات) بشحذ همم المواطنين وإدامة الحماس فى نفوسهم وفق تسميات (مسرح المعركة) أو (مسرح الحرب) أو (المسرح التعبوى) أو (المسرح المقاتل) أو (المسرح العسكرى)، وحقيقة الأمر أن الانشطة المسرحية الجادة فى ذلك الوقت قد ضعفت إلى حد ما واستبدلت بأعمال مسرحية كتبت بلغة سهلة وسلسة وقريبة من اللهجة (العامية) المتداولة، وذلك (للتخفيف عن هموم الشعب العراقى وإنعاش وضع الفنان المادى الذى ساء بسبب عدم الاستقرار، الذى كان سببًا فى تردى الظاهرة المسرحية فى الثمانينيات ومنها تفشى ظاهرة (المسرح الشعبى)، حيث اقتربت النصوص التى كتبت فى اجواء المعركة من المباشرة والعجالة بقصد إيصال الفكرة بأسلوب مباشر وبسيط يُمكنُ أن يُفهمَ بشكل سريع، وهى حالة استثنائية لم تكن سائدة فى زمن السلم لكنها قُبلت فى أجواء الحرب، وقد تم تبرير شيوع هذه الحالة فى اطار متطلبات التعبئة العامة (فالظرف آنذاك يتطلب) كما يقول يوسف العانى، بحيث تكون الأعمال هى الإسراع، وليس الانتظار والتأمل، وكان على الكاتب المسرحى أن يلهث وراء الزمن الراكض فى ساحات القتال وملاحقة الانباء السريعة التى تأتى عبر الراديو والتلفاز. ليكون حاضرًا ومعبرًا عن كل ما يدور فى الواقع الحياتى وتكون كتاباتهم متنفسًا لهموم الناس والحاجة الى (خلق جو من المرح والتسلية التى يجب أن تشيع فى نفوس الذين يعودون الى اهلهم وذويهم بعد أيام الحرب الموجعة والمعاناة المتعبة). لذلك كانت هنالك نصوص مسرحية كوميدية استهوت العاملين فى المسرح الشعبى كمسرحية: الخيط والعصفور - لمقداد مسلم، ومسرحية مملكة الشحاذين - لصباح عطوان، وكذلك مسرحية نديمكم هذا المساء - لعادل كاظم.
ومن جانب آخر برزت هنالك عدد من النصوص المسرحية التى عكست واقع الحياة الجديد كموضوعة الأسر والحرب وانعكاساتها على الأسرة والمجتمع، مثل مسرحية: حكايات العطش والأرض والناس - لقاسم محمد، ومسرحية الغائب - لفاروق محمد
توجه كُتاب المسرح فى مستهل (التسعينيات) الى تناول موضوعات ذات طابع حزين (بكائية)، تعبر عن افرازات واقع الحصار المفروض على العراق، كما أن تيار المسرحية الاستهلاكية ظل ملازمًا مع تخريب مباشر للذائقة الجمالية، ونتيجةً لذلك غاب العديد من رموز المسرح العراقى مع غياب التعددية فى النصوص المسرحية، ومن جانب آخر (برز هنالك عدد من المؤلفين الشباب التى تميزت كتاباتهم المسرحية بأسلوب مختلف من خلال مسرح تجريبى لا يرتاده إلا النخبة ومن هؤلاء الكتاب (عبد الكريم جمعة) و(عباس الحربي) و(عقيل مهدى). وقد كان للكاتب والمخرج المسرحى دورًا بارزًا فى مجال التجديد المسرحى، وكذلك نظرية الجمال فى المسرح. وكان ينظر له كمجدد الذى أستطاع المزج بين تجربته الدراسة والواقع التجريبى الذى عاشه مخرجًا وممثلًا وأستاذًا أكاديميًا فى كلية الفنون الجميلة فى جامعة بغداد.

هوامش
1 - جواد الأسدى هو واحد من أشهر المخرجين والممثلين المسرحيين العراقيين. ولد فى بغداد عام 1947. تخرج من أكاديمية الفنون الجميلة فى بغداد عام 1972. حصل على شهادة الدكتورا فى صوفيا، بلغاريا عام 1983.


بهاء محمود علوان