المنظور الحلقى وبنية التواصل الوجدانى للحكى فى طعم الخوف

 المنظور الحلقى وبنية التواصل الوجدانى للحكى  فى طعم الخوف

العدد 931 صدر بتاريخ 30يونيو2025

رٌغم إشارة د. على الراعى فى كتاباته لحداثة الفن البريختى فى البيئة العربية، فإنه نوه لوجود أسس قديمة له تظهر فى الفرجة الشعبية، متمثلة فى التوجه للجمهور وكسر الإيهام داخل الإطار الشكلى للحلقة والسامر والحكى، ولأن هذه النوعية من المسرح تهتم نسبيا بالتفاعل الجماهيرى اللحظى، فقد رسخت لجذب فئة مُعينة من المُخرجين لديهم القدرة على التعامل فى هذا الاتجاه باحترافية شديدة وتقديم عروضٍ مميزة منها التجربة النوعية لفرقة بنى مزار “طعم الخوف” تأليف إبراهيم الحسينى وإخراج غريب مصطفى.
وغريب تحديدا وضع بصمة جيدة فى مسرح الثقافة الجماهيرية بتلك النوعية من العروض رغم قلة مشاركاته، وأخرها “كيد البسوس” والتى حصل بها على جائزة لجنة التحكيم الخاصة فى المهرجان الختامى لفرق الأقاليم العام الماضى، تناول “غريب” نص “طعم الخوف” تحت عباءة السهل الممتنع، فعند جلوسك لمشاهدة العرض من بدايته ستعتقد للوهلة الأولى أنك ستترك المشاهدة وترحل بعد عشر دقائق على أقصى تقدير وحتى استمرارك لهذه المدة الصغيرة ما هو إلا مجاملة للفرقة بحضورك، فالمكان بطبيعته لا يبشر حتى بإقامة حفلٍ مدرسى فى قرية نائية، وهذا ليس طعنًا فى ماهية انتقاء المكان والتى تعود طبعا لأسباب إدارية وأمنية وبروتوكولية متفق عليها، بعيدًا عن متطلبات الرؤية الإخراجية والتى تتجرد سماتها بالطبع فى عنصر واحد وهو ساحة متسعة يصلح فيها بناء حلقى الشكل “نصف دائري» لجلوس الجمهور؛ ولكن هنا ساحة تتوسط “حوش” مجلس مدينة بنى مزار.. الحالة العامة للمنظر، سيارات مجلس المدينة وخلاطات عديدة للبناء الإسمنتى وموقف مُصغر لعربات الكسح... إلخ.. عند رؤيتنا للمكان سنتيقن أن المخرج فى تناوله سيعتمد حتما - فى تحقيق التواصل مع الجمهور- على الجانب “الإدراكي” والذى يتبنى فيه مخاطبة العقل وهو أسلم الطرق الإخراجية لمواجهة ضعف الإمكانيات المتاحة؛ ولكن حدوث العكس يؤكد على أن هناك مخرج لديه أدوات ورؤى يواجه بها تلك الصعوبات.. فماذا فعل؟

تضافر لغة النص الأصلى مع اللهجة المحلية لبناء إيقاع منضبط
    على الجانب الموازى للإدراك كآلية للتواصل الجماهيرى أهملها المخرج عن عمد؛ ليقبل تحديا مغايرا كان هناك جانب آخر وهو الارتكاز على تحقيق «الأثر» اللحظى للمشاهد من خلال آلية “التواصل الوجداني” وهو كما ذكرنا يصعٌب تنفيذه فى ظل تلك الأجواء المكانية الخاصة بالعرض؛ لكنه استغل «عنصر الحكي» ليكون له رأى آخر.
فمن اللحظة الأولى التى بدأ فيها العرض انخرطنا تماما مع الأحداث والتى كانت تُسرد ببساطة متناهية وتُجبرنا على التركيز داخل بؤرة الدراما بكل عناصرها وتسحبنا من الإطار العام لمكان العرض بسياراته ومبانيه وأدواته إلى دمجنا بالحدوتة، وهذا يجعلنا نسأل أنفسنا..
 كيف نجح الحكى فى الربط بين الممثل والمتلقى وجدانيا؟
هل تكفى قدرة الممثل فى الإقناع لعمل ذلك؟
هل ضبط الإيقاع وحده كفيل بخلق عالم دلالى فى عقل المُشاهد؟
 فى الحقيقة أساس كلُ تخيل رسالة قوية بذرتها كلمة، وهى فى الأًصل أداة فى يد صانعها وحاكيها
ولأن المخرج على وعى كامل بذلك فلقد هيأ النص للطرح بلهجة الممثل الأصلية، وهذا حتى يكسر حواجز اللغة القاهرية بين العرض والجمهور المنياوى والصعيدى، وهو أمر لا يُستهان به فعليا، فواقع التكلم بلهجة المكان تعطى قابلية كبيرة لعمل ترابط قوى مع الجمهور والذى يسعد فعليا بسمع الحكاية بلهجته، وينجذب إليها ويشاهدها للنهاية وهو ما يحافظ على إيقاع العمل منضبطا، ولا أخفيكم سرًا أن “الأفيهات” عندما تلقى فى عروض الحكى والفرجة الشعبية بلهجة الجمهور تجد صدى “كوميديًا» كبيرًا، عكس إلقائها باللغة القاهرية وعلى سبيل الذكر سب بطل العرض “جابر” زوجته “مريم” فى شجار كوميدى قائلًا: يا «مجِيملة” يا “مجِيملة” بكسر الجيم، وأصلها يا مقملة، أى أن برأسك وشعرك حشرة “القمل»، وقد لاقى استحسانًا كبيرًا وضحكًا متواصلًا.
بالنسبة للغة النص الأصلية فيمكننا القول بأن قوة اللغة فى سرعة وصولها للمتلقى، وهذا ما أقدم عليه “الحُسيني” فى نسجه للحوار المجرد من الزوائد والمبنى على سرعة الإيقاع حتى يُشكل إطارًا واضحًا وبسيطًا للحكى، فمنذ أن بدأ العرض باقتحام “جابر” ذلك المواطن البسيط لأحد المساجد المعروفة فجرًا وصعوده على المئذنة عنوة لُيعلن مظلمته كى يسمعه السلطان ووصولًا إلى تشابك الأحداث ومحاولة الولى التفرقة بين “جابر” وزوجته الجميلة “مريم” ليمتلكها هو، فنحن كنا أمام حوار بسيط ومُعبر ومٌشبع باللهجة المحلية لبيئة الجمهور “المنيا”.

التجسير بين الفكرة المٌجردة للنص وتراثية الفلاح الفصيح
لم تتشابه بشكل مُطلق أو حتى نسبى حدوتة الفلاح الفصيح الإهناسى البلدة وبين “جابر القماح” الشخصية المحورية فى «طعم الخوف» لكن ما عصف برءوسنا تجاه هذا التلميح فى الحدث جاء من خلال بناء جسر فكرى بينهما بواسطة الكاتب إبراهيم الحُسينى فقام على أساس مُجرد للفكرة.. فالأول “الفلاح الفصيح” لديه مظلمة وجابر القماح لديه مظلمة أيضا، الفلاح الفصيح جذب انتباه الحاكم بفصاحته فى الشكوى المكتوبة فتركه ولم ينصفه حتى يكرر الشكوى فيستمتع بقراءته وفصاحته فى الشكاية و”جابر القماح” جذب الحاكم ببلاهته فى شكواه الشفهية فأمر الوزير بتركه ليستمتع بخفة ظله على حد قوله “سيبه يا وزير يتكلم ويحكى ده مُسلى جدا”، هاتان الفكرتان رسما فى عقولنا أثناء المُشاهدة قراءة توقعيه لما قد يحدث من تطور للأحداث لكن تفرعت فكرة نص “طعم الخوف” بعيدا عن الحدوتة التاريخية للفلاح الفصيح بشكل يجعلنا نتسأل، هل قصد المؤلف ذلك؟ أم مجرد مصادفة؟ أو هى مجرد فكرة طافت بعقولنا فقط ولا علاقة لها بتأصيل وتأسيس الخطوط الدرامية للنص؟

الممثل وتلقائية الصورة المسرحية فى السينوغرافيا الارتجالية
ولأن الفرجة فى «طعم الخوف» ينسجها التداخل المُنتظم بين جميع العناصر، فلا يمكن أن نبنى رأينا عن السينوغرافيا من خلال رؤية “الديكوريست” وحده، المخرج كان له رأى فعلى شارك معه وقد ظهر جليا فى بنية المشاهد وتكوين الصورة المسرحية، فتفريغ أرضية ساحة العرض من الشكل «الباروكي» المبنى على تزيين المكان بالمستويات والمتويفات صانعة “السمترية” والبانورامات المرسومة يؤكد ذلك.. فالأرضية خالية تمامًا إلا من مجموعة “بوفات” صغيرة مفرغة مثبت عليها أقمشة شفافة على شكل مثلث أو قل شراع مركب، خلفها قماشة سوداء بانوراميه كبيرة أعطى توظيفهم المتكرر -والذى لم ينضب طوال العرض- مداليل كثيرة (ستائر لكرسى العرش/ غرفة نوم الوالي/ المسجد/ حجرة سجن...إلخ) ولأن وظائف الممُثل فى عروض الفُرجة الشعبية تنتهج مهام زائدة عن وظيفته فى باقى الأشكال المسرحية بوصفه “راقص/ مطرب/ حكاء” فقد ملأ المخرج حيز الفراغ بجسد الممثل مُعشقا بالموتيفات الديكورية، وأكملها بالتبئير الضوئى «زوم» المُدلل باللون المُناسب لكل حالة، فمثلا فى مشهد أراد الوالى عشعوش أبو يوسف أن يُسمع «مريم» شهادة زور من الأعيان مفادها أن زوجها يسعى لطلاقها والمشهد لم يوجد به سوى «مريم» والوالى و”الجواري” فتحولت الجوارى للأعيان والرجال مجازا عندما سحبن قطع القماش المثلثة من “البوفات” وتم برمها سريعا ووضعها على أنوفهن وكأنها “شنب” وهن يجيبن “هى دى الحقيقة” واستكمل ذلك مرارا وهو يُضفر الديكور والممثلين فى تكوين المشاهد، وعلى سبيل التكملة لم تكن ألوان المثلثات القماشية المُثبتة على البوفات الخشبية نتاج تصميم عشوائى فقد كانت لها دلالات مقصودة فمثلا فى مشهد السجن قام السجان بوضع “موتيفتين” بجوار بعضهما عليهم مثلثات قماشية شفافة تكشف خلفها عن خيوط سوداء تراصت بتوازى لم نفهمه من بداية العرض؛ إلا فى لحظة استخدامه و”جابر” يجلس خلفه، وهو يكلم السجان لنكتشف أنه بالفعل داخل حجرة سجن.. الممثل بشكل عام فى هذا العمل هو الركيزة الأساسية التى عول عليها المخرج وكان واضحا أن جميع الممثلين بلا استثناء أو مجاملة بذلوا جهدا كبيرا فى البروفات، حيث ظهر هذا فى انعدامية الأخطاء المسرحية رغم أن هذه النوعية من العروض معروف عنها ذلك، أيضا الانضباط المسرحى كان عنوانا أساسيا للعرض “اللاكالوسي” أقصد بالطبع دون كواليس تذكر. والأهم هو أن جميع “الجراندات” والممثلين كبار السن فى العرض يمكن أن يبدلوا الأدوار ولا نشعر أن ذلك أثر بالسلب على الأداء التمثيلى للشخصيات كذلك الشباب الصاعد حتى لو بدلوا أدوارهم سويا فإن العمل سينجح أيضا، كما نجح بتوزيعة المخرج للشخصيات، وهذا يدل على جاهزية جميع الممثلين الكبار بخبراتهم للعب كل الشخصيات والممثلين الشباب بمواهبهم لتقديم جميع الأدوار.

 أزمة التمسك بالدائرية حفاظًا على الحالة
جاء العمل المسرحى «طعم الخوف» فى مُجمله وجبة مسرحية رائعة للجميع وفى رأيى لم آخذ عليه سوى تمسك المخرج بكسر الإيهام من خلال الدائرية فقط “أقصد أنه بدأ بتقديم الممثلين للعرض بشخوصهم الحياتية وبملابسهم الكلاسيكية”، ولم يتطرق لهذا التوظيف داخل نسيج العرض أو بالأدق لم يستمر عليه، وإن كان لديه منطق قوى نجح فى تحقيقه واعترف بذلك وهو الحفاظ على العمل كحالة مُتدفقة وجدانيًا، كما ذكرنا من قبل وحتى لا يشوبه كسر للإيقاع لكن هناك أمرين مهمين لم يدخلا حيز الاعتبار، الأول هو مراعاة منهجية الطرح الدرامى كـ»فرجة شعبية» فى التواصل المباشر من خلال “الحكى الخارجي” طوال العرض مع الجمهور لتحقيق الأثر المرجو من شكل الفرجة، والثانى هو محو الاخطاء السينوغرافية للممثل، فلقد رأينا شيخ المسجد يرتدى ساعة والوزير بنطلون جينز حديث تحت العباءة الملحمية... إلخ، وهذا فى نظرى ليس مبررًا ما دام الخروج عن النص ومخاطبة الجمهور لم تستمر طوال العمل، ما دون ذلك أشد على يد كل طاقم العمل المخرج والمؤلف والممثلين والديكوريست حتى الشاعر الدرامى الكبير الذى أبدع فى ثقل الدراما وحمل معها أعباء إيصال المعنى بأقصى الطرق فبدأ أول العرض بمقطع غنائى درامى من “النوعية التعويضية” ليعوض عن مشهد كامل تم حذفه تخطى ثلاث ورقات مضمونة رغبة “الفلاح” فى الأذان بدلًا من “المؤذن» ورفض الأخير عبر عنها بكلمات مكثفة أجاد وأبدع فى إيصالها كحالة وفكرة ملحن العرض.


شر يف شجاع