مسرح الأراجوز.. قراءة جديدة في كتاب قديم

مسرح الأراجوز.. قراءة جديدة في كتاب قديم

العدد 931 صدر بتاريخ 30يونيو2025

منذ أسابيع، أهدانى الصديق العزيز، الناقد أحمد عبدالرازق أبوالعلا، كتابا كان لى هدية عظيمة لأسباب عدة. أولها أنه عن (مسرح الأراجوز)، ذلك الفن الذى أعشقه وأقوم بتدريسه منذ أربع سنوات فى المعهد العالى للفنون الشعبية ضمن مواد مسرحية أخرى. وثانيها، أن الكتاب كتبه رائد عظيم لهذا الفن، وهو الروسى سيرجى أبرازوف ونشره لأول مرة عام 1961. وقد قام بترجمته إلى العربية القدير رمسيس يونان.
 وفى مبادرة غير مسبوقة، قام الناقد أحمد عبدالرازق أبوالعلا بإعادة نشر الكتاب عبر المركز القومى للطفل وبمقدمة له هى فى رأيى دراسة مهمة عن فن الأراجوز. وقد استفدت منها استفادة كبيرة. لكنى كنت أتمنى أن تتضمن مقدمة أبوالعلا قصته مع هذا الكتاب، والتى حكاها لى وهو يهدينى إياه. فالحكاية فى حد ذاتها تستحق السرد، فهى دليل مضاف على وعى الكاتب وحرصه على إعادة نشر ما يستحق من كتب قديمة نفدت طباعتها تماما ويحتاجها بشدة وسطنا المسرحى.
قبل الدخول فى قراءة الكتاب يهمنى أن أشير إلى أن سيرجى ابرازوف هو مؤسس مسرح الدمى الحكومى فى موسكو. ويعد وبحق رائدا لهذا الفن الخاص. وُلد عام 1901 فى روسيا، وكرّس حياته لفن العرائس وابتكر فيه أساليبا مسرحية غير مسبوقة تجمع بين التقنية العالية والخيال الشعبى. ويعد “مسرح الأراجوز” هو أهم كتبه، فهو ليس تنظيرًا أكاديميًا فحسب، بل خلاصة تجربة فنية وإنسانية طويلة.
 درس ابرازوف الفن التشكيلى ومارسه قبل أن ينجذب إلى المسرح. ثم بدأ حياته الفنية كممثل فى مسرح موسكو للفنون تحت إشراف ستانسلافسكى، لكنه سرعان ما انجذب إلى عالم الدمى. ووجد فيه ما يشبه المختبر المسرحى الكامل (حركة، تشكيل، تعبير، موسيقى، سخرية، رمز ).
فى عام 1931 أسس أبرازوف مسرح الدولة المركزى للدمى فى موسكو. وقد تحول هذا المسرح بسرعة إلى أشهر مسرح دمى فى العالم. ورغم انشغاله بأنماط متعددة من الدمى، اهتم ابرازوف بشكل خاص بفن الأراجوز (الدمية القفازية).
ويمكن اعتبار ابرازوف من أوائل من مارسو فن الجروتسك فى المسرح الروسى بطريقة واعية ومنظمة. فشخصياته من الدمى كانت مزيجا من السخرية والفظاعة، بين الجمال والتشويه. وقد استخدم هذه التناقضات فى إبراز مفارقات الواقع السوفييتى، وغرابة التحولات الاجتماعية والسياسية التى شهدها القرن العشرون.
المفارقة أن أبرازوف – رغم جرأته الفنية – ظل مقبولا من السلطة السوفييتية، بل حصل على أرفع الأوسمة والتكريمات، ربما لأنه استخدم الدمى كقناع، أو لأنه كان ماهرا فى تقديم النقد بطريقة غير مباشرة وبلغة محببة للجمهور ومراوغة للرقابة.
ظل أوبرازوف يدرس ويؤلف ويخرج حتى وفاته فى 1992 وقد ترك خلفه جيلا كاملا من فنانى الدمى، لا فى روسيا فقط، بل فى العالم بأسره. وتعد مدرسته الفنية اليوم من أهم المدارس فى فن العرائس، ومسرحه لا يزال حيا بعروضه.
لهذا كله وغيره الكثير فرحت كثيرا بهدية صديقى أحمد عبد الرازق أبوالعلا وعشت مع كتاب (مسرح الأراجوز ) أياما من الاستمتاع والتعلم.

 الأراجوز.. كائن حى
كتاب “مسرح الأراجوز” ليس تأريخا لذلك الفن فحسب، بل هو تأمل معمق فى ماهيتهن من خلال تجربة اوبرازوف نفسه التى امتدت لأكثر من أربعة عقود فى مسرح الدمى الروسى. وفيه ينطلق كاتبه من سؤال بسيط الشكل عميق الجوهر وهو : لماذا يضحك الناس على الأراجوز؟ فالكتاب يقدم الأراجوز لا كدمية عبثية، بل كـ”كائن رمزي” يُجسد المقهورين والناقدين والمتمردين فى آن واحد. هو لسان الجماعة، وطفلها المشاكس، وشيطانها الذى لا يهدأ، يصرخ، يضرب، يسب، ويقلب النظام رأسًا على عقب. لكنه يفعل كل هذا داخل منطقة “اللعب”، حيث تسقط الرقابة ويستعاد الصوت الشعبى الحر.
يصل أبرازوف فى تحليله إلى أن الأراجوز، بشكله الهزلى المشوه، يمثل التجسيد الحى لفن الجروتسك. فالمبالغة فى فى الشكل (رأس كبير، أنف ضخم، عينان دائمتا الدهشة) والحركة السريعة المتشنجة والصوت المزعج الصارخ، ليست مجرد وسائل للضحك، بل أدوات لتعرية الواقع وكشف الخلل فى المنظومة الاجتماعية.
يقول أوبرازوف فى أحد مقاطع كتابه:
“الأراجوز لا يحب التوازن، بل يختار الاضطراب، لأنه لا يعيش إلا فى الفوضى التى تُظهر ما يُخفيه النظام.”
من هنا يصبح الأراجوز – فى نظر الكاتب – أقرب إلى الكوميديا السوداء منه إلى المرح البرىء، وهو أقرب إلى المهرج الساخر الذى يقول الحقيقة عبر القناع، أكثر مما هو دمية طيّعة فى يد المُحرّك.

فلسفة اللعب
من أهم الإسهامات التى يقدّمها الكتاب هى إعادة تعريف اللعب بوصفه موقفًا فلسفيًا. لا يرى أوبرازدتسوف فى اللعب مجرد تسلية، بل يعتبره شكلاً من أشكال الحرية، وساحة اختبار للأفكار، وتجربة للوجود.
فالدمى – كما يطرح فى الكتاب – تحرّر الممثل من جسده، وتُطلق الخيال من قيود الواقع، وتمنح المُتلقى فرصة للمواجهة من دون تهديد مباشر. لذا فإن الأراجوز قادر على السخرية من الملك، والتطاول على القانون، و”ضرب الظالم بالعصا”، دون أن يُعتقل أحد!

الكتاب كسيرة فنية
إلى جانب التحليل والتأمل، يُقدّم أوبرازدتسوف فى هذا الكتاب رحلة شخصية آسرة فى عالم الدمى، تبدأ من ذكرياته الأولى مع العرائس فى الطفولة، إلى لحظة تأسيسه لأهم مسرح دمى فى العالم.
نكتشف من خلال سرده كيف كان مفتونًا بحركات الأشياء، بكيفية منح الجماد روحًا، وكيف تطورت علاقته بالدمى من اللعب العفوى إلى الفن الواعى. يحكى عن أول دمية صنعها، وعن إعجابه المبكر بالعروض الشعبية، وعن الأساتذة الذين أثّروا فيه، وكذلك عن لحظات الفشل والتجريب والمجازفة.
الأسلوب الذى يكتب به مفعم بالحيوية والدفء، وكأننا نسمعه يروى لنا قصته لا يكتبها. وهذا ما يجعل الكتاب قريبًا من القلب، حتى لمن لم يخُض تجربة العمل بالدمى.
الدمية فى هذه السيرة ليست أداة، بل كائنٌ حى، رفيقُ عمر، وتوأمُ خيال. وما يرويه أوبرازدتسوف هو فى النهاية قصة حب طويلة بينه وبين خشبة المسرح... وبين قلبه وخيط الدمية.

وللترجمة تحية خاصة
النسخة العربية التى ترجمها الفنان والناقد المصرى رمسيس يونان، لا تقل أهمية عن النص الأصلى، فقد جاءت بلغة سلسة، دقيقة، تنقل روح المؤلف دون أن تقع فى الترجمات الحرفية. استخدم يونان لغة عربية قريبة من المسرحيين والمثقفين العرب، ما جعل الكتاب قابلًا للقراءة والفهم والتطبيق فى السياق العربى، خصوصًا مع ارتباط “الأراجوز” بالثقافة الشعبية فى مصر وسوريا وتونس والمغرب. ليبقى كتاب “مسرح الأراجوز” وثيقة فنية وفكرية نادرة، تجمع بين التحليل الجمالى والرؤية الاجتماعية والطرح الفلسفى. وهو من الكتب القليلة التى لا تكتفى بوصف الفن، بل تُعلّمك كيف تراه.
لكل ذلك وغيره الكثير أشعر بامتنان كبير للصديق الناقد أحمد عبدالرازق أبوالعلا على هديته القيمة التى ستعيننى فى تدريس هذا الفن الخاص والفريد.


محمد الروبي