النقد المسرحي السري والمجهول في مصر(26) نجيب سرور وآه يا ليل يا قمر!

النقد المسرحي السري والمجهول في مصر(26) نجيب سرور وآه يا ليل يا قمر!

العدد 931 صدر بتاريخ 30يونيو2025

مخطوطة مسرحية «بستان الكرز» تأليف «أنطون تشيكوف» - وتحمل رقم «887» - ترجمها «نجيب سرور»، وأراد «مسرح الجيب» - التابع للمؤسسة المصرية العامة لفنون المسرح والموسيقى بوزارة الثقافة والإرشاد القومى – عرضها على الجمهور، فتقدم بالترجمة إلى الرقابة عام 1964 من أجل استخراج تصريح بتمثيلها. وبالفعل نالت الترخيص المذكور فى آخر صفحات المخطوطة، وجاء فيه الآتى: «لا مانع من الترخيص بتمثيل هذه المسرحية على أن يراعى الآتى: حذف العبارة الواردة صفحة 25، وإخطار الرقابة بمواعيد التجربة النهائية والعرض العام الأول للمسرحية». وبهذا نالت المسرحية الترخيص بعرضها تحت رقم «4» بتاريخ 16/1/1965.
وبالعودة إلى الحذف المطلوب من قبل الرقابة فى «ص25»، وجدناه قول إحدى الشخصيات «جاييف» عندما قال بصوت منخفض كما لو كان يخطب: “أيتها الطبيعة الرائعة.. أنك تفيضين بسناء أبدى.. إنك جميلة ولا مبالية.. أنت يا من ندعوك أمنا توحيدين فى داخلك الحياة والموت.. تبنين وتهدمين». ومن الواضح أن الرقابة حذفت هذه العبارة بسبب ترجمتها من قبل «نجيب سرور» كونها تعكس إيديولوجية نجيب سرور فى هذه الفترة! والدليل على ذلك أن ترجمة حديثة للمسرحية نفسها قام بها «أبوبكر يوسف» ونشرتها مؤسسة هنداوى عام 2017، جاءت فيها هذه العبارة هكذا: “جايف (بصوت خافت، كأنما يلقى): أيتها الطبيعة الساحرة، أنت تتوهجين ببريق خالد، رائعة ولا مبالية، أنت التى نسميك أمنا، تجمعين بين الوجود والعدم، أنت تعيشين وتدمرين”. وأظن لا فرق بين الترجمتين، بل هناك فرق فى اختيار بعض الكلمات والمترادفات!
هذه كانت بداية تعامل الرقابة مع نجيب سرور، وهى بداية هادئة لم تتعدّ حذف عبارة واحدة، رغم أنها عبارة مترجمة لنص ألفه تشيكوف، ولم يؤلفه نجيب سرور! لكن بعد أكثر من عامين، وتحديدًا بعد نكسة 1967 بشهرين تمامًا وفى يوم 5/8/1967، تقدمت هيئة الإذاعة والمسرح والموسيقى بوزارة الثقافة والإرشاد القومى - إلى الرقابة - بنص مسرحية «آه يا ليل يا قمر» من تأليف «نجيب سرور» - المحفوظ تحت رقم «691» - من أجل الترخيص بعرضها على الجمهور. وجاء فى الصفحة الأولى من مخطوطة المسرحية الآتى:
«مسرحية «آه يا ليل يا قمر» مأساة شعرية فى ثلاثة فصول، تأليف «نجيب سرور». «الإهداء»: إلى ولدى الغريب.. الدراما مش حصل وهايحصل إيه.. الدراما.. إزاى.. وإمتى.. وفين.. وليه؟ «ن.س».. «الشخصيات»: بهية، أمين، الأم، الأب، غريب، الشيخ، كورس، فلاحون، عساكر، نساء. «المكان»: تدور أحدث الفصل الأول فى قرية بهوت. وتدور أحداث الفصلين الثانى والثالث فى بور سعيد. «الزمان» 1950.
نالت هذه المسرحية تصريحًا بالتمثيل تحت رقم «194» بتاريخ 21/8/1967، أما نص التصريح المكتوب على آخر صفحة من مخطوطة المسرحية فجاء فيه الآتى: لا مانع من الترخيص بتمثيل هذه المسرحية مع مراعاة تنفيذ الملاحظات فى الصفحات الآتية: 7، 22، 23، 24، 42، 47، 48، 54، 64، 69، 79. وأن يتم التنبيه قبل بداية التمثيل إلى أن أحداث المسرحية تجرى قبل الثورة وتعريف الجمهور بذلك كلما أمكن خلال عرض المسرحية.
وبمراجعة الصفحات المنصوص عليها فى الترخيص، وجدت فى «ص7» تدخلًا رقابيًا باستبدال تعبير «آخر نغنغة» بكلمة «جميلة» عند وصف إحدى شخصيات المسرحية لسورتى «يونس وهود» فى القرآن الكريم. وكذلك حذف عبارة «دى مضرة» لعدية ياسين! وفى «ص22» حذفت الرقابة قول الكورس: “اللى يتعب يتغلب” ورد الأب: “البلد تعبت خلاص”! وحذفت الرقابة أيضًا الحوار بين أمين والكورس «ص23»: “الكورس: يعنى إيه؟ أمين: سعد زغلول قالها كلمة.. كلمة حكمة. الكورس: هيه إيه؟». وحذفت الرقابة أيضًا جزءًا من أقوال الكورس لأمين «ص24» عند التعليق على رجال الحرب، والجزء المحذوف جاء فيه: “الجبان دايمًا بيهرب.. زى أرنب.. وأنت أرنب؟». وفى «ص42» حذفت الرقابة جزءًا من كلام أمين لبهية وهو سكران يحاول إقناعها بشرب الخمر المعتقة من ثمانين سنة ومصنوعة فى لندن – رامزًا لفترة الاحتلال الإنجليزى – واصفًا إياها بالبنج المتمثل فى مقولة «الجلاء التام أو الموت الزؤام»!! وحتى يقنعها بشرب الخمر قال إنها مشروب الملوك والبشوات والبهوات والذوات!! ثم جاء الجزء المحذوف رقابيًا وفيه جاء الآتي: “سعد زغلول ألف رحمة ونور عليه.. كان بيشرب منه دايمًا.. كان بطل.. كلنا أبطال بننسى لما نسكر.. ولا قولى كلنا أبطال بنسكر.. لما ننسى.. طب وأنا ما نسيتش ليه؟ ولا يمكن لسه ما سكرتش كفاية أبقى ناسى ولا فاكر.. ولا إيه.. حظرى.. فزري». كما حذفت الرقابة قول أمين فى «ص48»: “سعد زغلول قالها كلمة.. كلمة حكمة.. قال مافيش فايدة وسكت». وحذفت الرقابة «ص64» قول الكورس ورد أمين هكذا: «كورس: يا قلة البخت فى أولادك يا مصر. أمين: يا أمة.. يا أم الدنيا يا منكوبة دائمًا بالخيانة”. وحذفت قول المرأة «ص69»: “دارنا وسيعة وبابها كويس.. يا ميت ندامة صبحت بلا ريس»! وآخر حذف قامت به الرقابة «ص79» قول العسكري: “حد يقدر على الحكومة؟”.
هذه هى الأقوال المباشرة والصريحة التى حذفتها الرقابة من النص وراقبت عدم ذكرها فى العرض على الجمهور، وكلها عبارات تؤكد نفسية الكاتب من هزيمة 1967، وتشير صراحة إلى أسباب الهزيمة، رغم محاولة الكاتب التستر وراء التاريخ والرموز العديدة، لدرجة أنه حدد الأحداث بعام 1950 أى أيام الملكية! لذلك نصت الرقابة صراحة بتأكيد ذلك فى تصريحها - السابق ذكره - قائلة: “إن يتم التنبيه قبل بداية التمثيل إلى أن أحداث المسرحية تجرى قبل الثورة وتعريف الجمهور بذلك كلما أمكن خلال عرض المسرحية”! وهنا نأتى إلى نقطة مهمة، وهى أن المسرحية لم تُصور، ولكن نصها نُشر وهو الذى نعتمد عليه، وللأسف الشديد أغلب الدارسين اعتمدوا على النص المنشور معتقدين بأنه ألقى على الجمهور كما هو منشور، وتأثر الجمهور بهذه الجرأة والثورية عند نجيب سرور، ولكن للأسف ما حذفته الرقابة من أقوال، وما اشترطت على المخرج تنفيذه بأنه يؤكد قبل العرض وفى أثناء تمثيله بأن الأحداث وقعت عام 1950 أى أيام الملكية، وقبل ثورة 1952. وهذا الأمر لا يُحسم الآن إلا بمراجعة العرض إن كان تم تصويره تصويرًا شخصيًا، أو حضر العرض شخص مازال حيًا ليحكى لنا، أو أن كاتبًا كتب عن العرض وما فيه حينها، مقارنًا بين ما ألقى وما حذف.. أو الفرق بين النص والعرض! وهذا أمر أتركه لباحث جاد يقوم بهذه المهمة، ويُضاف إلى ذلك مهمة أخرى لمقارنة النص المنشور بالنص المخطوط ربما يجد هناك اختلافات أو تغييرات كون النص المخطوط أسبق من المنشور بعدة سنوات، مرت بها أحداث سياسية واجتماعية كثيرة على البلد وعلى المؤلف «نجيب سرور»!
ومما يؤكد أن النص المخطوط الذى بين أيدينا يختلف – بعض الشيء – عن النص المنشور، أن المسرحية المخطوطة كتبها نجيب سرور بعد هزيمة يونية 1967 وتأثر بها تأثرًا كبيرًا كان واضحًا فى النص وخصوصًا فى الأجزاء المحذوفة رقابيًا.. ولكننى وجدت وثيقتين لتقريرين رقابيين لنص آخر للمسرحية قدمته إلى الرقابة عام 1983 - أى بعد 16 عامًا – كلية الفنون التطبيقية بجامعة حلوان من أجل التصريح بتمثيله. وأغلب الظن أنه النص المنشور والمتداول، مختلف عن النص المخطوط، لا سيما فيما أرادته الرقابة منذ البداية وهو أن أحداث المسرحية تحدث فى العهد الملكى وقبل اندلاع ثورة 1952! فهل هذا يعنى أن «نجيب سرور» رضخ للسلطة وأعاد كتابة المسرحية بما يتوافق مع رغبة الرقابة، بل ورغبة الجهات السياسية وقتذاك؟! هذا ما أظنه حدث ويحتاج إلى جهد من الباحثين مستقبلًا لإثباته! والآن نذكر ما جاء فى التقريرين:
التقرير الأول كتبته الرقيبة «شكرية السيد» يوم 1/3/1983، وفيه ذكرت ملخصًا للنص قائلة: تنتظر بهية عودة ياسين، ولكن الانتظار يطول فقد قتل ياسين.. يتقدم أمين صديق ياسين للزواج منها.. يتم الزواج وتنتقل بهية من قرية بهوت إلى بور سعيد حيث يعمل الزوج فى كامب الإنجليز.. وهنا ينتقل النضال من نضال اجتماعى ضد قوى الإقطاع (وهو الذى قتل ياسين بسبب) إلى نضال وطنى ضد جنود الاحتلال الإنجليز فوق أرض مصر.. ويحاول أمين أن يخرج من المشكلة بإغراق نفسه فى احتساء الخمر، لكن يا له من هروب مؤقت، لينطلق أمين لينضم إلى صفوف الشعب المناضل ضد الاحتلال وخونة القصر، وتشتد ضربات الفدائيين، لكن يد القدر والطغيان تضرب من الخلف، فتحترق القاهرة الجميلة، ويموت الآلاف وتنتشر الجثث ويعم الدمار ورائحة الحريق، ويموت أمين ضمن الكثيرين، وينكسر قلب بهية للمرة الثانية، فزوجها الأول ياسين مات بيد الإقطاع، والثانى أمين مات بيد جنود الاحتلال والسراى، وفى النهاية ترى بهية رؤيا جميلة هى بمثابة الفجر الجديد لمصر، وتنتهى أحداث هذه الملحمة الشعرية التى تحمل فى طياتها طابع المأساة.
وتنهى الرقيبة تقريرها برأى قالت فيه: “لا مانع من الترخيص بعرض هذه المسرحية عرضًا عامًا وذلك بعد حذف الملاحظات فى صفحتى 109، 120. والمسرحية تتعرض لحقبة من الزمن عاشتها مصر إبان الاحتلال الإنجليزى وبطش الإقطاع وخيانة السراى والملك ضد شعب مصر.. وكيف وقف هذا الشعب المناضل ضد كل هذه القوى يدافع عن أرضه وشرفه وكرامته وكيف كان القتال مريرًا، وكيف قتل الكثيرين وكبتت الحريات وامتدت الحرائق تهدم القاهرة الجميلة حتى أصبحت خرابًا ينعق فيها البوم.. ولكن الله حما مصر من كل سوء فكان الفجر الجديد الذى رأته بهية أو مصر فى المنام، والذى أتى بقيام ثورة يوليو الخالدة التى خلصت مصر من الإقطاع والملك والاحتلال، ولقد سبق الترخيص بعرض هذا العمل مرارًا، ولا مانع من إعادة الترخيص، مع رجاء إخطار الرقابة بموعدى التجربة النهائية وحفلة العرض الأول”.
أما التقرير الآخر فكتبه مدير الرقابة على المسرحيات يوم 2/3/1983، بدأه بقوله: “بعد الاطلاع على مسرحية «آه يا ليل يا قمر»، وبعد الاطلاع على التراخيص السابقة لهذه المسرحية آخرها ترخيص رقم «72» بتاريخ 1/3/1983”. وهذه المقدمة تبين أن هناك تراخيص كثيرة نالتها هذه المسرحية طوال 16 سنة، آخرها ترخيص صدر بالأمس، أى قبل كتابة هذا التقرير بيوم! وبعد أن ذكر ملخصًا للنص – كما جاء فى التقرير السابق – اختتم تقريره قائلًا: «لا مانع من الترخيص بها حيث إن الظروف تسمح بعرضها». وهنا نتساءل ما هى الظروف التى كانت موجودة عام 1983 بحيث تسمح بعرض المسرحية؟ وماذا فى المسرحية يجعلها عُرضه للسماح أو عدم السماح بناء على توقيت عرضها؟! والسؤال الأخير: هل معنى كلام مدير رقابة المسرحيات أن مسرحية «آه يا ليل يا قمر» مُنعت من العرض قبل ذلك؟! هذه الأسئلة كلها تقع على عاتق الباحثين مستقبلًا عندما يقارنون بين نص المسرحية المخطوط الذى قًدم عام 1967، وبين النص المنشور، أو بين النصوص التى قُدمت إلى الرقابة فيما بعد.
آخر النصوص الرقابية لمسرحية «آه يا ليل يا قمر» نص رقم «257» تقدمت به اللجنة الفنية لرعاية الشباب بجامعة عين شمس لعرضها ليلة واحدة يوم 9/3/1987 فى مهرجان التمثيل بالجامعة، من إخراج «سلامة حسن». وكتبت الرقيبة «فايزة الجندى» تقريرًا ذكرت فيه ملخصًا للموضوع، ثم اختتمته برأى قالت فيه: “تبين المسرحية أن مصر «بهية» قد قاست الكثير من استبداد الإقطاع وقسوته ومن بشاعة الاحتلال وجبروته وسط ظروف صعبة عانى فيها الشعب من الظلم والذل والاستبداد فقد رابط جيش الاحتلال على القناة وتكتلت جهود الخونة من أعوان الإنجليز والسراى الذين ضربوا نضال الشعب حتى يقضوا على الثورة، وتحقق لمصر ما كانت تحلم به من حرية واستقلال، ولا مانع من الترخيص بأداء نص «آه يا ليل يا قمر» مع مراعاة الملاحظات ص 132 و143 لما تنطوى عليه من نيل من مكانة زعيم الأمة سعد زغلول”.
أما الرقيبة «راضية السيد» فكتبت آخر تقرير رقابى، يتعلق بهذا النص، اختتمته برأى فصّلت فيه مواضع الحذف، قائلة: “مسرحية قومية تبين مساوئ الاستعمار والحكومة والملك وقتلهم المواطنين، ولا مانع من الترخيص بالنص مع مراعاة الآداب العامة والقوانين الرقابية فى الآتي: «ص83» فلاح يقدم الجوزة لياسين. «ص119» أمين يخرج زجاجة خمر من جيبه يشرب منها جرعة ثم يقدم الزجاجة إلى بهية قائلًا تاخدى كاس؟ «ص122» أمين وكلامه عن النعجة والتيس والديب. «ص140» حذفها لحديث بهية عن الكامب والعيشة الرضا. «ص143» أمين يتكلم عن ابنه قائلًا: يعنى يوم ما يخيب هايبقى رئيس وزارة”. ويؤشر المدير العام على هذا التقرير بقوله: “نُظر وقد سبق الترخيص بها عدة مرات، ولا مانع من الترخيص بها”. وجاء فى الترخيص النهائى الآتي: “سبق الترخيص بهذه المسرحية «آه يا ليل يا قمر» لرعاية الشباب بجامعة عين شمس” وهذا يعنى أن الجامعة استخرجت عدة تصاريح للنص نفسه من قبل، وبالتالى نال النص تصريحًا رقم «66» بتاريخ 9/3/1983.


سيد علي إسماعيل