«يمين فى أول شمال» النفاذ إلى الجمهور عبر صدق الأداء والواقعية السحرية

«يمين فى أول شمال»   النفاذ إلى الجمهور عبر صدق الأداء والواقعية السحرية

العدد 934 صدر بتاريخ 21يوليو2025

«يمين فى اول شمال»؛ هل تصلح تلك الجملة عنوانا جاذبًا لعرض مسرحى؟ هكذا توارد السؤال على ذهنى عند قراءة بوستر العرض على واجهة مسرح السلام بشارع القصر العينى، فهى جملة نستحضرها من مواقف للمصريين البسطاء، يتم الرد بها على شخص يسأل عن مكان ما، لتبث له الطمأنينة أو تكون بمثابة بادرة تفاؤل بأنه على الطريق الصحيح، فالسائل هنا شخصية تائهة تريد من يرشدها، وعندما يأتيها الرد المصحوب بإشارة باليد: (يمين فى أول شمال) تنفرج أساريره ليهدأ، أعتقد أن تلك هى التيمة الرئيسية للعرض، وأن هناك كثيرون من البسطاء يعيش بالهامش فى حاجة لجبر الخاطر، ولمن يطبطب عليه، يشعره بأهمية وجوده فى الحياة، وهنا؛ أنتبه إلى أن عنوان المسرحية وحده يعد قراءة فعلية للشارع المصرى، أو هو حدوتة مسرحية.
حضرت الليلة السادسة عشرة من مسرحية «يمين فى أول شمال» بقاعة يوسف إدريس بمسرح السلام، وعلى مدى 70 دقيقة استمتعت بمشاهدة عرض حميمى خالص المصرية، يلامس جوهر الإنسان ويمس وجدانه، من نوعية العروض التى تسهم فى تشكيل الوعى، وأظن أن المواطن بحاجة إلى مثل تلك النوعية التى تغوص فى تفاصيله الإنسانية الخافية كى يستعيد توازنه النفسى.
«يمين فى أول شمال» تأليف «محمود جمال الحديني»، تخرج من كلية تجارة جامعة عين شمس دفعة 2001، كاتب ومخرج، بدأ نشاطه الفنى من بوابة المسرح الجامعى، وهو مبدع شديد المصرية، منتمى لجيله، يجيد التفاعل مع الواقع المعاش وأحداثه، والتعبير عن معانة أبناء جيله ومشكلاتهم، يغوص فى التفاصيل الإنسانية ليؤرخ عبر نصوصه للواقع ولما يجرى به من أحداث متلاحقة لها أثرها البالغ على المواطن المصرى، مما يجعل من نصوصه - بما تقدمه - تراثًا لأجيال قادمة، وهو ككاتب يعد من أبرز كتاب المسرح فى الألفية الثالثة، حققت نصوصه نجاحات واسعة بعروض كل من مسرح الهواة والدولة، كتب ما يزيد على 35 نصًا مسرحيًا، منها «سجن اختيارى، 1980 وانت طالع، بيت الأشباح، هنكتب دستور جديد، سينما 30، يوم أن قتلوا الغناء، بيت روز، ابليس، البروفة، اليوم الأخير، روح الصورة، شارع 19، يمين فى أول شمال)، وقد حصد خلال مسيرته التى تقترب من ربع قرن على الكثير من الجوائز فى مجال التأليف، منها؛ جائزة الدولة التشجيعية فى التأليف المسرحى عام 2013، وجائزة ساويرس، وجائزة التأليف بالمهرجان القومى للمسرح ثلاث مرات، وغيرها الكثير من الجوائز بمهرجانات المسرح العربى والثقافة الجماهيرية والجامعة والمسابقات المختلفة.
وهو يجيد التعبير عما يحيط بنا، ليعيد اطلاعنا عليه من خلال زاوية تمنحنا الرؤيا من منظور خاص، وفى مسرحية «يمين فى أول شمال» اختار لحظة مسرحية - قلما اتخذها مؤلفًا محورًا أساسيًا لعمله - ليتخذ منها لحظة كاشفة تعرى الواقع، يتسلل خلالها لحياة البسطاء ممن تم اقصاءهم عن متن الحياة ليعيشوا بهامشها، يدور العرض حول موظف يسعى لإسعاد زوجته قبل خضوعها لعملية قلب، ولكنه لضيق اليد لا يستطيع أن يشترى لها شيئًا، ولأنها مدمنة مشاهدة للمسلسلات؛ ينتهى إلى دعوة أحد الشياب بمجرد علمه أنه يعمل بالتمثيل، يدعوه كضيف غير متوقع لها كمفاجأة تسعدها، وليكتشف أنه ممثل مغمور غير معروف يعانى التهميش ويسعى للحصول على فرصة ليخرج من منطقة الظل إلى الوجود، وتحدث المفارقات.. وليفجأ بتعرفها على اسمه..، ليأخذنا العرض إلى مناطق إنسانية صادقة، لمشاعر زوج يعمل خلف شباك التذاكر يسعى لتوفير ما يكفى قوت يومه بعيدا عن أى مظاهر للحياة أو الشعور بالسعادة، ومشاعر زوجة لا تنجب وتعانى الوحدة ولا تجد ما يؤنس وحدتها، تترقب مجرد سماع كلمة من الزوج كمبادلة للمشاعر؛ حيث اعتاد الصمت، ثلاثتهم لا يشعر بوجوده ولا يجد لنفسه مكانًا فى الواقع، إلا أن الموقف الى يجمعهم أتاح فرصة لكل منهم ليطبطب على الأخر بكلمات تطمئنه، ويشعر بوجوده، يشعر كل من الزوجين بمشاعره تجاه الآخر، وأن (مفيش دور كبير ومفيش دور صغير، كل واحد نجم فى حياته).. ويناشدا الضيف وجوده معهم أكبر وقت ممكن، فيصرح لهما (أول مرة فى حياتى حد يمسك فيا عشان أقعد معاه)، فترد عليه الزوجة (ان شاء الله بكرة ربنا يكرمك وتبقى نجم النجوم كمان).
«يمين فى أول شمال».. إخراج عبد الله صابر، الذى يبهرنا برؤاه الحميمية كمخرج، وهو خريج المعهد العالى للفنون المسرحية، دفعة 2021، لم يكن طموحه الإخراج، فهو ممثل متميز لا خلاف عليه، إلا أنه تنبه لملكة الإخراج لديه فترة دراسته بالمعهد، مخرج يتفاعل مع موضوعات الشرائح البسيطة بالمجتمع، يغوص فى عوالم مهمشة غير مطروقة، ملتقطًا لحظات مهمة فى حياة غير مرئية لا يلتفت إليها أحد، حيث يرى من الأهمية أن يطلع المجتمع عليها، ومن أعماله أذكر؛ مسرحية «سالب واحد» التى تدور أحداثها حول شخصية ذات إعاقة ذهنية وجسدية، وقد شارك بها فى أكثر من مهرجان، منها مهرجان المعهد العالى للفنون المسرحية، والدورة الـ14 من المهرجان القومى للمسرح المصرى، والدورة السابعة من مهرجان «الحرية المسرحي» وحصد عنها الكثير من الجوائز، «كذلك مسرحيته موضوع هذا المقال، التى شاركت بمهرجان نقابة المهن التمثيلية، وتحمس لإعادة إنتاجها كل من الفنان “محسن منصور” مدير فرقة المسرح الحديث، والفنان “هشام عطوة” رئيس البيت الفنى للمسرح، والتى تشارك فى دورة هذا العام من المهرجان القومى.
حملت الرؤية الإخراجية لـ»عبدالله» بصمة واضحة، تجمع بين عمق الإحساس والمشاعر الإنسانية، وبين بساطة الصورة والأداء، ليشكل منهما فى فضاء قاعة العرض حالة من الواقعية السحرية التى لا تلامس حياة الشخصيات التى يؤديها الممثلون فقط بل وحياة المتفرجين الموجودين بالقاعة، قدم المخرج عرضه بأسلوب بسيط يهمس - من خلاله - بمقولته برفق لجمهوره المتواجد بالقاعة، قدمه فى قالب كوميدى وعيًا منه بإمكانية توظيفه كمرآة تعكس ما بداخلنا لتطالعنا بملامحنا من الداخل، وليفجر من خلال ذلك كثير من الأسئلة الوجودية بحياتنا، ليتطرق عبر عرضه لموضوعات «الصمت الزوجى، معاناة معيشة الموظفين، معاناة شباب الموهوبين»، مرورًا بـ»نوستليجا زمن الفن الجميل» التى ترد المتلقى لأعماق ذاته لتزيد من تفاعله مع العرض.
نجح المخرج فى توظيف تقنية «المسرح داخل المسرح» بالدخول والخروج منها فى انسيابية ودون تمهيد أو تعقيد، وكذلك منح الممثلين مساحة للارتجال المصاحب لعفوية الأداء والمعايشة للشخصية، كذلك اعتمد على صدق الأداء كأداة للنفاذ إلى الجمهور.
جاء ديكور «باسم وديع» واقعيًا، اهتم فيه بالتفاصيل الدقيقة التى تعكس بيت الأسرة المصرية البسيطة، صالة منزل متواضع مزدحم ببعض المفردات؛ قطع أثاث، ثلاجة، كاسيت قديم، صور على الجدران لممثلين، باب شقة، بعض أدوات تشير لمدخل المطبخ، ستار على اليسار يؤدى إلى غرفة النوم، مع تفاصيل كثيرة تصنع فضاءًا يُبرز العالم النفسى للشخصيات التى تعيش فيه، والذوق العام لها ولاهتماماتها، بل ولمحدودية طموحها، فكانت مدخلًا ناجحًا فى النفاذ إلى العرض، وهى فى ذات الوقت - التفاصيل الدقيقة - كانت عاملا مساعدا للممثلين على معايشة الشخصية، بل ومساعدًا على معايشة المتفرج نفسه - المتواجد داخل القاعة - بما يعمّق من شعوره بالانتماء للمكان والالتحام بالأحداث.
اتفقت إضاءة «أحمد طارق» مع بساطة الحالة العامة، فخلت من أى فذلكة أو خدع، وركزت على إضاءة المساحات النفسية قبل المكانية، وواكبت لحظات التوتر والمنولوجات الفردية، مع استغلال لمبات صالة البيت - نجفة وأباليك - فى الإضاءة، ما حافظ على حالة التلقى، هذا؛ وتكشف موسيقى «مروان خاطر» عن قراءته الجيدة للنص ولشخصياته، فجاءت من نسيج الحالة المسرحية، معبرة عن الشخصيات، ومواكبة للأحداث، تتسلل من حلة إلى حالة، ومن شخصية لأخرى دون ضجيج، وقد كانت حاضرة بقوة فى مشاهد التمثيل داخل التمثيل والغناء.
نصل إلى محطة التمثيل، أربعة من الممثلين من خريجى أكاديمية الفنون جسدوا الأدوار، بأداء يغوص فى تفاصيل شديدة الإنسانية، وأجواء شديدة المصرية، لا تغيب معه عن وجهك البسمة طوال العرض فى مقاومة منها لمنع الدمعة الحبيسة بالعين كى لا تزرف، أداء اعتمد على الصدق، والتركيز التام.
جاء أداء «عبدالله صابر» لدور «عمرو» الممثل المغمور، مثالًا للسهل الممتنع بعيدا عن التعقيد، وبملامح وصوت معبرين الشخصية، مع قدرة على التصاعد الدرامى وفق تطور الأحداث، واتسامه بالحضور والاحترافية كمشروع نجم للمستقبل فى التمثيل.
الفنان «إيهاب محفوظ» خريج صيدلة جامعة أسيوط، والتحق فى 2014 بالمعهد العالى للفنون المسرحية وتخرج فيها فى 2019، جسد بإتقان دور الزوج «عبد القادر» معبرًا بكل ما لديه من أدوات عن الحالات المختلفة بين خوف وفرحة، حزن، يتسم بالحضور والعفوية وخفة الظل والكوميديا، وهو يجمع فى أدائه - غير مقلدًا - بين إمكانيات الراحلين «محمد الشرقاوى وخالد صالح».
الفنانة «أمنية حسن» تخرجت في كلية الطب جامعة عين شمس، التحقت بالمعهد العالى للفنون المسرحية وتخرجت منه العام الماضى، تملك طاقة فنية كبيرة، وتتسم بالحيوية والحضور وخفة الظل، ترقص وتمثل وتغنى، تفوقت فى أدائها لدور «نورا» الزوجة، وقد أجادت التنقل بسلاسة بين الحالة والحالة دون أن تفلت منها الشخصية، تتحكم فى انفعالاتها بشكل كبير، وتجيد الأداء الميلودرامى والكوميدى، ممثلة موهوبة تتماس إمكانياتها مع كل من النجمتين «عبلة كامل وسما إبراهيم».
ويبقى الممثل الرابع، «طارق راغب» الذى قام بدور «عامل الديلفري» وهو يتمتع بخفة الظل، ولديه مقومات الممثل الكوميدى، هذا وتجدر بنا الإشادة بفريق بكواليس العرض أحمد مجدى الدعاية، مساعدا الإخراج محمد خالد وريم مختار، المخرج المنفذ بسنت على، إذ كان لهم دور مهم فى انضباط إيقاع العرض وسلاسة الانتقالات بين المشاهد، ليخرج العرض بشكل يخلو من الارتباكات.


ناصر العزبي