«الفندق».. على الحافة بين الحياة والموت ومسرح يطهر الروح ويعيد اكتشاف الذات

«الفندق».. على الحافة بين الحياة والموت ومسرح يطهر الروح ويعيد اكتشاف الذات

العدد 935 صدر بتاريخ 28يوليو2025

 العرض لا يستند فقط على نص «فندق العالمين» «لايريك ايمانويل شميت» بل يشكله الدراماتورج «فادى نشأت»، ويخضعه لعملية ولادة جديدة لينتج مسرحًا لا يحاكى الواقع بل يحرّض على إدراكه بعمق مختلف ويكسر الحواجز بين الوعى والغيبوبة، بين الحضور والغياب، وبين المسرح كفن والمسرح كأداة تشريح للذات الإنسانية هنا العرض لا يدور حول الشخصيات بوصفها أدوات درامية بل حول الإنسان بصفته سؤالًا معلقًا على حافة الحياة والمسرحية تقدم تجربة مزدوجة (نفسية وفكرية) تُحرّك المتفرج كما لو أنه أحد قاطنى هذا الفندق الغريب، المُقام فى منطقة رمادية لا تنتمى لزمن أو مكان.. فضاء يتنفس مع كل شخصية ويتحول وفق أزماتها ويُعيد تشكيل ملامحه عبر صمتها وأسئلتها لا عبر الحوارات وحدها.. لقد نجح العرض فى تقديم عالم الفندق المكان الفاصل ما بين الحياة والموت كواقع درامى داخلى.. فـ«الفندق» هنا ليس مكانا فعليًا بل كيان غامض يجمع الأرواح المعلقة.. يجمع شخصيات انسلخت مؤقتًا عن أجسادها إثر لحظات فاصلة اما حوادث، صدمات، انقطاعات وجودية.. فالمكان ذاته متقلب كأنه صدى لكل شخصياته يتسع حينًا ويضيق حينًا آخر بقدر ما تتأرجح مصائرهم بين العودة والإنطفاء.. حيث اختار أن يشرح العمل الأصلى ويصنع بنية درامية خاصة للعرض فأعاد دمجه بأفكار جديدة بإضافة شخصية مثل «أوسكار» من عمل آخر لشميت «أوسكار والسيدة الوردية» فبدا أن الهدف ليس فقط توسيع الحكاية بل تفكيك التمركز حول الفرد ولصالح مجموعة من التفاعلات النفسية ودمج العمق الفلسفى مع حساسية البناء الدرامى كل شخصية تصبح مرآة للأخرى ترتد أزماتها على الآخرين بل وعلينا نحن كمتفرجين وقائم ذلك على تفجير ذات الشخصيات من الداخل لا عبر الصراع الخارجى بل هناك انكشاف متبادل.. صدام بين ما يعتقده المرء عن نفسه وما تكشفه له العزلة النفسية والمواجهة القسرية مع احتمالية الفناء. يمكن القول إن «الفندق» ليس عرضًا بالمفهوم التقليدى بل طقسًا مسرحيًا روحيًا يحمل فى طياته قوة التطهير والترنح يقود المتفرج إلى داخله كما لو كان أحد النزلاء لا يقتصر دوره على مجرد الفرجة بل البحث عن دور المسرح لفحص الذات قبل أن يكون وسيلة ترفيه.. إنه عرض لا يُنسى لأنه لا يعتمد على التذكر بل على الإحساس الغائر فى مناطق اللا وعى.. «الفندق» مسرحية لا تقدم حكمة بل تثير الشك وتجعل الإنسان متورط وقلق ومتأمل فى تفاصيل الحياة.. الديكور لـ “محمد فتحى» جاء بشكل مشابه للفندق ولكن بلا ملامح واضحة لا تشير إلى شىء محدد لكنها تقول كل شىء عن هذه النقطة ما بين الحياة والموت.. الجدران ليست جدرانًا بل انعكاسات.. مجرد دلالات لحالة مؤقتة (استقبال فى فندق بلا ملامح وبلا زمن بوجود ساعات بلا عقارب لا توضح الزمن وأسهم واشارات.. مصعد ينقل الشخصيات إلى هنا.. ومن هنا الى المصير الذى يحدده القدر أما الملابس لـ«سماح نبيل»، والتى استطاعت مع الديكور خلق عالم خاص بالمكان بكل ما به من ملامح مرئية مثل الفندق ولكل شخصية تكوينها.. والإضاءة تتنفس مع المشهد وتختنق معه ككائن حى الضوء الأبيض لا يعنى فقط البرودة بل الغياب والموت.. فيما يأتى الأحمر كمحاولة خافتة للعودة إلى دفء الحياة وانتقال الإضاءة من الإضاءة العامة الى اضاءة ذاتية الشعور للمشاهد التى تعرض ادق المشاعر الخاصة وبشكل شبه ضبابى ليحقق ذلك.. (الفيديو مابينج) لـ«محمد المأمونى» لم يكن مجرد استخدام عادى بل تكملة للذات إذ عرضت الخلفيات ما لا يُقال وأظهرت ما لا يُفصح عنه فى الحوار. هذه التقنية خدمت الانفعالات الغريزية والمخاوف الدفينة وكأنها إسقاطات ناتجة عن لاوعى الشخصيات تعبر عما يدور داخلهم بشكل فاضح واستخدمه المخرج مكمل للديكور فى المصعد عند انتقال الشخصيات.. أما عن الاشعار لـ«سامح عثمان»، والتى كونت مع النص الحوارى نسيجًا متكاملًا عبر من خلال كلماته باللحظات السعيدة التى يعيشها الانسان فى أصعب اللحظات المتأزمة ما بين الحياة والموت.. والموسيقى لـ«زياد هجرس» تُحدِث تغييرًا كيميائيًا فى إدراكنا تخاطب اللا وعى لا تُعلّق على المشهد بل تخلقه مجددًا وتعيد تشكيل حالة سعيدة معبرة عن حالة الشخصيات بالرغم ما فى الشخصيات من وجع وتقلبات وحيرة واستخدمت بشكل واعٍ جدًا.. وظهرت الحالة التمثيلية بأداء جماعى متكامل (كل بجسد مُعلّق بين انفعال وانطفاء) ممثلون وممثلات لم يؤدوا أدوارًا بل أعادوا رسم ملامح إنسانية مشتركة فى منطقة ما بعد الألم تجلّت فى مقدرتهم على الإمساك بحالة «المعلّق» تلك المساحة الصعبة بين أن تكون حيًا بالكامل أو ميتًا بالكامل واستطاعوا تجسيد التردد، التخبط، حالات النفى والاعتراف دون اللجوء إلى المبالغة والأداء جاء ناعمًا لشخصيات تتفاعل أحيانًا كأنها لا تعرف من تكون أو كأنها تحاول أن تتذكر نفسها عبر الآخر وهذا التوجه من التمثيل الخارجى إلى الأداء الداخلى هو ما منح العرض قوته الشعورية والشاعرية فى نفس الوقت وجعل من كل جملة بسيطة سؤالًا ومن كل صمت نداء.. وظهرت مقدرة كل من (أسماء عمرو) فى دور «الدكتورة اكس» الشخصية المحورية الوسيط.. التى ابدعت بالأداء الواثق والمؤكد بالحركة والاتزان وأحيانا فى اظهار العاطفة بينها وبين الاخرين.. والطفل (ادم وهدان) فى دور «اوسكار» هذا الطفل العالم بكل ما يدور حوله وعالم بمصيره المحتوم منذ البداية وبالرغم من ذلك فهو يتعامل بكل شفافية وثبات ..(محمد هانى) والعراف «راد جابور» الذى يبدو انه عالم بكل الأمور وفقده لابنته هو سبب تغيير حياته وأدى دوره ببساطة وحس كوميدى واضح ..(شريهان قطب)» مارى” الخادمة التى تتعامل بوضوح وحب لكل الشخصيات وتعاملها مع اوسكار كالسيدة الوردية ..(احمد شرباش) فى دور “مستر ديلبك» المتسلط الوصولى المحب للمال والرشوة للوصول لكل ما يريده يدعى التدين لإخفاء حقيقته (أسماء عمرو) إحساس وأداء مليء بالحيوية والحركة.. (منة بكر) وادق المشاعر التى عبرت عنها وهى تؤدى دورها ومشينا معها على حبل المشاعر والاحاسيس وهى تحكى عن ماضيها فى السيرك وسقوطها من فوق الحبال.. والمفاجأة المبهجة.. (إيمان الناقر) “لورا” والتى أدت ازدواجية الاقبال على الموت (بالأمراض التى تعانيها) والحياة (بالغناء والرقص والبهجة).. (محيى الدين يحيى) «چوليان بورتال» القادم لهذا المكان ولا يؤمن بشيء وبحثه عن حقيقة الوجود وارتباطه وجدانيا بلورا ليتحول بمشاعر الحب ويرى الحياة بشكل آخر.. استطاع المخرج محمد طايع أن يقدم رؤية إخراجية متكاملة بكل العناصر الفنية وحوّل العرض إلى تجربة شعورية نابضة مخاطبا حواس العقل والروح معًا واعتمد على «المسرحة الداخلية» حيث كل عنصر فنى يخدم الحالة الشعورية الكلية لا الشكل الجمالى فحسب.. بل إن المسرح هنا مختبر لإظهار الكوامن الإنسانية لكل شخصية فتعرض ما بداخلها من مخاوف أو تتعامل وتتحد وتتماس مع شخصيات أخرى ومع مشاعر المشاهد لتأكيد وجوده طرفًا فى المأزق لا مجرد متلقى لما يعرض أمامه بل يحس ويشعر بكل ما فيه.  


صلاح فرغلي