العدد 935 صدر بتاريخ 28يوليو2025
(بيروح شتا وييجى شتا/ويهل صوت المطر ينده من الشبابيك/مين إللى حب واتنسى/ومين اللى شبا.. بيك/مطر الشتا كسا واكتسى؛ ورغم الفراق قلبى حبا.. ليك)
هناك من العروض ما قد يأسرك كمتفرج بما يصعب معه الانفلات من هذا الأسر، فيكون له تأثير على تناولها النقدى لدرجة تجعلك منحازًا لها، بما قد لا تلتفت معه لمآخذ بها، ولقد شاهدت مؤخرًا بقاعة مسرح الغد بالعجوزة مسرحية «حكايات الشتا»، واحدة من تلك النوعية التى تأسر المتفرج، بدء من فكرتها، مرورًا بالحوار فالأغانى فالموسيقى فالديكور.. ناهيك عن الأداء الذى هو حكاية فى حد ذاته، أداء مغلف بالصدق، مليء بدفء المشاعر الإنسانية.. هكذا رأيت العرض كحالة مكتملة.
المؤلف والحكايات
«حكايات الشتا” تأليف الكاتب والشاعر إبراهيم الحسينى، واحد من أهم كتاب الجيل الحالى للمسرح بمصر، تدرج فى تصاعده خلال الربع قرن المنقضى من الألفية الثالثة ليصل إلى صدارة المشهد، يعالج فى مسرحه قضايا متنوعة - وبشكل خاص ما يتعلق منها بالوجود الإنسانى - يقدمها بمعالجات فنية مدهشة، متجدد دائمًا، لا يعتمد على مصدر ثابت لأفكاره، بل تتعدد مصادره بين الواقع وبين التاريخ وبين التراث وبين الابتكار، ولا يتمسك بأسلوب ثابت فى الكتابة أو يقف جامدًا عند شكل محدد، غير ملتزم بقواعد المسرح الأرسطى، أنجز خلال مسيرته ما يقرب من 50 نصًا مسرحيًا تم نشر وتنفيذ أغلبها، ومنها “أخبار أهرام جمهورية، سابع أرض، المكحلة والياشمك، زنزانة لكل مواطن، الكونكان، سلم طالع للشمس» وأعتبر مسرحيته «حالة عشق» علامة فارقة فى مسيرته أكد من خلالها على وجوده بقوة فى المشهد المسرحى ككاتب من الكتاب المهمين والمميزين، وقد فاز بالعديد من الجوائز منها جائزة ساويرس لعام 2021م “حالة عشق”، جائزة كاتب العام سنة 2012م من جامعة هارفارد الأمريكية عن نصه “كوميديا الأحزان”، جائزة من المهرجان القومى للمسرح عن مسرحيته “ظل الحكايات”.
ومؤخرً خرج علينا “الحسيني” بنصه المختلف «حكايات الشتا» - موضوع المقال - الذى يعرض فيه لحالة إنسانية شديدة الخصوصية، يغوص خلالها فى تفاصيل دقيقة لمنطقة غير مطروقة بالنفس البشرية، كتبها بلغة حوارية تقترب من الشعر بما تتفق والموضوع وتتناغم مع الحالة، وتدور أحداث المسرحية حول سيدة مُسنة تعانى من الوحدةً تعيش فى شقة واسعة من الطراز القديم، تستدعى دائمًا ذكرياتها مع حبيب راحل لتؤنس وحدتها بتلك الذكريات، هكذا بدت الحدوتة والتى بدأت حكاياتها بقدوم خطيبين - شاب وفتاة - لشراء الشقة بناء عن إعلان للسيدة عن بيعها، ومع حوارها معهما تتفتح مسارات الذكريات، فتحكى الحكاية تلو الأخرى راسمة حالة مشوبة بالغموض مع شخوص تتبدى وتختفى كأطياف نراها تحاورهم وغالبًا يكون الحديث من طرف واحد، تكشف خلالها عن مشاعر مختلفة يغالبها الحب والحنين، ولينسج - المؤلف - صراعًا خافيًا بين الواقع والخيال عبر تداخل الأزمنة التى تتقاطع بالتنقل بين الحوار مع الخطيبين ومعاناتهم فى الواقع، وبين صاحبة الشقة التى تشدنا مع الذكريات فى الماضى، وخلال مسارات الحكى تظهر من تشاركها حب الزوج بما نلمح معها غموضًا حول حبها للزوج المتوفى، ليتكشف الخط الدرامى الأساسى للعمل، وتتكشف معه تدريجيًا طلاسم هذا الغموض عبر الحكايات، مع تغير رغبة السيدة فى بيع الشقة إلى رغبتها من يشاركها السكن بالشقة، مع محاولاتها إغراء الخطيبين بكل السبل من أجل قبولهما أنس وحدتها.. ومع نهاية العرض نكتشف أن صاحبة الشقة لم تكن زوجة وإنما كانت حبية فى الظل لم تعلن عن حبها للزوج الراحل، وأن طيف السيدة التى التقت بها هى الزوجة الأصلية، لتتفتح مسارات كثيرة للتأويل لقصة إنسانية شديدة الرومانسية، مع نفور الخطيبين من تلك السيدة التى تبين لهما أن إعلانها لم يكن إلا حيلة تستجدى بها الناس لتفضى بالحديث إليهم لملء فراغ حياتها، هى حالة نفسية تطورت مع طول الوحدة إلى حالة مرضية،
بعد فقدها لمن منت نفسها أن تعيش معه.. ولتنشأ لدينا علامات استفهام حول الشقة التى جعلتنا نتعامل معها كزوجة لصاحبها المتوفة؛ كيف آلت إليها، هل اشترتها بعد وفاته لتواصل وهماها بالحياة معه، أم أنها استغرقت فى وهمها لتنفذ عبره من خلال شرفة البلكونة لتبنى كثير من الحكايات الوهمية التى عاشتها فى حيياته بصدق مشاعرها! وليطرح العرض كثير من الرؤى الفلسفية حول الفقد والوحدة وونس الذكريات، والمخرج والعرض؛
حكايات الشتا” من إخراج محمد عشرى، واحد من المخرجين الشباب، من أبناء الباسلة، بدأ نشاطه الفنى كمدرس موسيقى وكمدرب استعراضات قبل نشاطه مع المسرح الذى بدأه عام 2006 بإخراجه مسرحية “ميلاد جديد” التى شارك بها فى ختامى المهرجان الـ16 لنوادى المسرح، وتم اعتماده بها كمخرج، وليشارك فى الدورتين التاليتين من نفس المهرجان بمسرحيتى «ملامحنا- 2007، وحلم الأجنحة 2008» وكان يعتمد بشكل أساسى على توظيف موهبته ككيروجرافى، وكمدرس موسيقى، ما أتاج له أيضًا إخراج عدد كبير من الأوبريتات ومسرحيات الأطفال، ويتنقل بنشاطه بين فرق الجهات المختلفة (قصور الثقافة، الجامعات، الشباب والرياضة) يقدم من خلالها عدد من العروض، وقد حصد عبر مسيرته التى تقترب من الـ20 عامًا على الكثير من الجوائز.
وفى «حكايات الشتا» يفاجئنا الـ”عشرى» باختياره لنص له طبيعة تختلف عن نوعية الموضوعات التى يقدمها، يختلف أسلوب تناوله عن أسلوب وشكل العروض التى سبق وأن أخرجها، ليخوض تحدى جديد مع نفسه من خلال عرض احترافى بمسرح الدولة، مع فرقة الغد التابعة للبيت الفنى للمسرح، وينجح بشكل كبير فى تحديه بتقديمه لعرض منضبط فى كل عناصره ليؤكد به تميزه كمخرج، بدء من اختياره الجيد للنص، والأشعار التى أجاد توظيفها فى ختام كل حكاية، مرورًا باختياره الصائب للعناصر الفنية التى نجح من خلالها تقديم عرضه المتميز، مع إجادته لرسم حركة الممثلين وتوظيفه للرقص التعبيرى حيث أتاح وجود الشخصية معادلة للبطلة مساحة كبيرة له كمصمم رقصات لاستغلال مهارته ككيروجرافى ليضيف للعرض بُعدًا جماليًا إضافيًا.
ركز المخرج فى تصوره على خلق حالة للتلقى ليأسر بها المتفرجين، فاستعان بمهندس الديكور أحمد الألفى الذى وضع تصوره بشكل واقعى يجعل المتفرج يعيش داخل الأحداث بالمساحة المحدودة بقاعة مسرح الغد، فوظف المكان بأكمله كصالة كبيرة لشقة من الطراز القديم، وحدد للمتفرجين أماكن للجلوس بها بما يساعدهم على التفاعل الحميمى، وقام بلف جدران المكان بالستائر والبراقع، وتظهر خلالها؛ شرفة، باب زجاجى لبلكونة، باب حجرة زجاجى، مع مراعاة أن تسمح بظهور من يتحرك خلفها، مع ظهور منفذ مؤدى للمطبخ، وكذلك باب للشقة بالقرب من مقاعد الجمهور، واتسم مصمم الديكور بالتفاصيل الدقيقة، ففرد سجادتين على باركيه أرضية الصالة «القاعة»، مع نثر قطع من الأثاث بالمكان (كراسى، أنتريه، طقاطيق، طاولة صغيرة، مكتبة ذات أرفف تحمل قطع أباجورة وأنتيكات..) مع مراعاته وجود مساحات مختلفة كأماكن للحكايات ولحركة الممثلين، كذلك اهتم بنثر بعض مفردات الاكسسوار مثل (لوحتان مرسومتان، تليفون، برواز لصورة، شماعة، تليفون، جهاز تسجيل، عود، ورد زينة..) وغيرها من المفردات التى تتصل بتاريخ الشخصية، إضافة إلى كونها تعكس الدفء على المكان، ويتفق والرؤية العامة للعرض.
وقد لجأ المخرج للإضاءة لتلعب دورًا أساسيًا فى الانتقال من حكاية إلى حكاية، كذلك من زمن إلى زمن أخر، مع استخدامه للألوان التى تتفق والحالات النفسية للشخصية المحورية وفق أحداث الحكاية المروية، وقد أجاد “عشرى» فى توظيف الإضاءة مع ألوان الأزياء لتخدم مع التشكيلات الحركية بأن حقق بها لوحات تشكيلية بصرية رائعة.
واستكمالا لطبيعة النص، أصاب المخرج فى اختياره للمبدع الأصيل “رجب الشاذلي” واحد من أهم الموسيقيين المعروفين بتفوقهم وبإمكانيته فى ألحان موسيقى دراما المسرح، ولم يخيب ظنه به، فقد كانت - الشاذلى - موفقًا بموسيقاه وألحانه الحميمية التى تمس الوجدان، وتضيف للعرض وتساعد على المعايشة المزدوجة لكل من الممثل لشخصيته، والمتفرج لتساعد فى تهيئته للتلقى، وحسنًا تعاون الشاذلى مع الموزع الموسيقى «يحيى غز”، واستعانته بالمطربة “ياسمين رجب” التى تجمع بين الحسنيين “صدق الإحساس، وحلاوة الصوت” متغنية بكلمات “الحسينى» ومنها هذا المقطع؛ (لسايا بحلم والسما وكل النجوم متنوره/ أنا ليلى حلم طويل، سكة سفر متحيرة/ بفرد ضفايرى ع الخلايق قمر، ليلة سمر/ يتجمع الأحباب ونحلم كلنا زى طفلة صغيرة).
التمثيل ولمعان نجم “هبة”
كان التمثيل فارقًا فى هذا العرض، وبشكل خاص من الفنانة “هبة سامي” التى تعد من أبرز عناصر العرض تميزًا، وأعتقد لمعان نجمها بعد مشاركتها بهذا العرض، بما لها من كاريزما خاصة تتسم بالحضور والقبول، قامت بأداء شخصية “حياة” - المركبة الصعبة – بشكل ينم عن قراءتها الجيدة للشخصية، والوعى ببنائها الاجتماعى وتكوينها النفسى، بما مكنها من التفوق بأدائها عبر التحكم فى مشاعرها وانفعالاتها وصوتها وملامحها وفق الحالات المتباينة، معتمدة على المعايشة التامة للشخصية وصدق الأداء، والسلاسة فى تنقلها من مرحلة سنية لمرحلة أخرى، وكذلك من زمن الواقع إلى زمن الماضى، وهذا كله باحترافية شديدة كان لها دورًا كبيرًا فى ضبط الإيقاع العام للعرض.
وقد أجاد جميع المشاركين فى التمثيل، حيث تألقت إلى جوارها الفنانة القديرة “عبير الطوخي” التى قدمت شخصية “هيام” التى تبدت كطيف صامت، واستطاعت أن تعبر عن كثير من المشاعر، معتمدة فى ذلك على الأداء التعبيرى بحركة الجسد وملامح الوجه، وتمكنت بأدائها أن يكون لها حضور دائم رغم مساحة الدور المحدودة، وقد أجاد معهما «مايا عصام» فى دور “ماهى» الخطيبة، بأداء متزن لفتاة عصرية، اتسم بالحيوية، وصدق التفاعل مع “حياة” والتعامل مع حالاتها النفسية المتباينة، أما الشخصية النسائية الرابعة فقامت بها “فرح داود” كمعادل أخر للبطلة، تأخذنا معها لكل حكاية من الحكايات، بالأداء الراقص كوسيط تعبيرى بليغ أضفى على العرض حالة من رومانسية وبعدًا جماليًا.
البطولة الرجالية كانت للفنان تامر بدران الذى جسد شخصية “هاشم” الزوج المتوفى، الذى يتبدى كطيف يُستدعى فى المشاهد وفق الحكايات، وقد أجاد فى تجسيده بأداء تعبيرى صامت، أما البطولة الثانية كانت لـ»مصطفى سليمان» الذى قام بدور “سيف” الخطيب الراغب فى استئجار الشقة، شاب عصرى يتسم بالحيوية، وقد اجتهد فى تجسيده وفق الشخصية المرسومة ومساحتها بالنص.
«حكايات الشتا» عرض يدعو للتأمل، تنازع على بطولاته الكل عناصره الفنية، عرض مختلف يستحق الاحتفاء به وبفريق عمله، ومعهم مصممة الأزياء “نور سمير”، المخرج المنفذ “عليا عبدالخالق” “حكايات الشتا” عرض يضيف لفرقة الغد بما يستوجب تقديم التحية لمدير الفرقة الفنان سامح مجاهد مدير مسرح الغد الذى دعم هذه التجربة حتى نرها على خشبة المسرح، وللمشرف العام الفنان القدير “هشام عطوة” رئيس البيت الفنى للمسرح، ولقائد قطاع الإنتاج النجم الكبير خالد جلال.
«حكايات الشتا» مسرحية تستحق المشاهدة، ونختتم مقلنا هذا بمقطع من أغانيها الثرية للشاعر إبراهيم الحسيني؛ (جوه الشتا العمر مليان بحكايات/ نحكى عن الونس إللى كان، ولا عن الخوف إللى آت/ الكلمة رحمة وممكن تكون بينا سيف باتر/ خدلك من الذكرى ريحة حياه وخدلك م الوجع ساتر).