«عائد إلى حيفا».. عرْضٌ أم عَرَض مسرحى؟

«عائد إلى حيفا»..  عرْضٌ أم عَرَض مسرحى؟

العدد 935 صدر بتاريخ 28يوليو2025

عندما يتم ترحيل رواية، أو أى نص أدبى غير مسرحى إلى المسرح، من فضائها الأصلى إلى فضاء جديد هو الخشبة، بطزاجته، عبقريته، قوته، وهشاشته أيضا فإنّ الجمهور يتوقع أكثر من مجرد إعادة سردها. ينتظر رؤية جديدة، قراءة نقدية، أو حتى خيانة خلّاقة للنص الأصلى تمنحه حياة ثانية. لكن عرض «عائد إلى حيفا» من إخراج عبدالوهاب سعيدى (إنتاج مسرح قالمة) والذى قُدم عرضه الشرفى فى مسرح قسنطينة بتاريخ 09 جويلية 2015 بدا وكأنه متهيّب فى أن يدخل فى هذه المغامرة الوجودية الفنية الخلاقة، وكأنه من البداية اختار أن يرفض الإبحار فى مسارات مجهولة، جديدة، حية، مكتفيا بإعادة فجّة للرواية وقراءتها بصوت عالٍ بلا أدنى محاولة لبناء تجربة مسرحية قائمة بذاتها.
الرواية الأصلية، «عائد إلى حيفا» لغسان كنفانى، تحمل قوة عاطفية وسياسية كبيرة. لكنها فى هذا الاقتباس أعيدت بطريقة تكاد تكون حرفية، مع تغيير وحيد تقريبا فى نهايتها: فبعد عشرين عامًا من تربيته عند العائلة اليهودية، نجد الابن «دوف» وبعد جلسة سكر طويلة ينتفض فجأة، ثم ينتفض ويتهم أمّه اليهودية بالكذب، ويعلن وعيه المفاجئ: «أنا فلسطينى ولست إسرائيليًا، أنا من الطرف الآخر». ثم يفجر البيت الذى عاش فيه عمره كله.
هذه النهاية، بدل أن تمنح النص عمقا، تكشف هشاشة الكتابة المسرحية. لحظة الوعى الذى كانت المسرحية تطمح ليكون انقلابًا دراميًا فكريًا وجماليًا يحدث الدهشة والمتعة عند المتلقى لم تكن لحظة متدرجة، كما أنها ليست صادقة وجوديًا بل تبدو تقريرية ومفروضة من الخارج، ليست من تفاعلات الشخصية مع نفسها، مع عقلها ومع وجودها، مع واقعها بل من إرادة المخرج (فقد بدا الإخراج يعانى من مسافة شعورية هائلة، وجبل جليدى حاد بينه وبين القضية التى بدا أنها يريد الدفاع عنها)، إنّ الوعى الأصيل ينبع من خبرة حقيقية، من أزمة داخلية تنمو ببطء، من مواجهة صادقة مع الحرية والمسئولية. أما هنا فنحن أمام وعى مزيف، ديكور سياسى، يوزع الشعارات أو يكاد ويغلق النقاش بدل أن يفتحه.
ثم إن مشكلة العرض لا تقف عند النهاية وحدها. لقد جاء كله فى نبرة توضيحية مدرسية: عرض يشرح الرواية بدل أن يعيد ابتكارها على الخشبة. حوارات طويلة تشرح وتفسر، صوت راوٍ أثقل العرضَ فى تقريرية بائسة بلا دلالة جمالية، مسرح فقير بصريا وحركيا، بلا مجاز أو لعبة أو اقتراح. كأن المخرج اكتفى بأن يطمئن الجمهور إلى أنه «احترم النص» ونقله بأمانة (على اعتبار أن الإضافة المقترحة لا جمالية)، لكن الأمانة هنا خيانة، لأنها قتلت حرارة العمل.
وهنا قد نرمى بحصى صغيرة فى مياه ظلّت آسنة لأكثر من خمسة عقود، أى منذ مقتل كنفانى، وهى مسألة غالبا ما تُهمل فى الحديث عن كنفانى نفسه. صحيح أن الرجل تحوّل إلى رمز نضالى استثنائى، وأن اغتياله المفجع أضفى عليه هالة أسطورية. لكن هذه البطولة السياسية لا تعنى بالضرورة أن أعماله الأدبية هى الأفضل أو الأغنى من الناحية الفنية. فى رأيى، مثلا، فإنّ كنفانى روائى متواضع فنيا إلى درجة لا تصمد معها الكثير من الأعمال الفلسطينية أصلا، كمثال (ويبقى هذا رأيا يمكن فى مناسبات أخرى توفير الحجج اللازمة له وهى كثيرة) نجد عند إميل حبيبى عمقًا سرديًا وتركيبًا فنّيًا أكثر نضجًا، وسخرية مأساوية أكثر إيلامًا وصدقًا (من يخاطر من الجزائريين بإنجاز مسرحية تستلهم عملا من أعماله؟). لكن العرض تعامل مع رواية كنفانى وكأنها نص مقدس، يستحق فقط التلاوة. لم يجرؤ على مساءلتها، لم يفتش فى صمتها أو تناقضاتها أو إمكاناتها المسرحية.
ثم تأتى مشكلة التمثيل. كان واضحًا أن الممثلين فيهم مادة خام جيدة من الناحية الجسدية والصوتية. لكنهم ظلّوا مادة خاما غير مصقولة. جاء الأداء ميكانيكيًا، كأنهم يلقون حوارًا مدبلجًا بلا حرارة أو إنصات. الأخطاء اللغوية الكثيرة (ويا للدهشة أن الأخطاء انسحبت أيضا إلى التسجيلات الصوتية التى تستعيد شخصية الأب سعيد) لم تكن مجرد زلّات فردية، بل عرضت غياب التوجيه الجاد فى التدريب.
لكن المسئولية هنا لا تقع على الممثلين بقدر ما تقع على المخرج. إدارة الممثلين ليست توزيع أدوار فحسب، بل صناعة وجود على الخشبة. وظيفة المخرج أن يصهر هذه المادة الخام، أن يجعلها تحترق، أن يخلق الظروف ليولد الصدق. هنا غابت تلك الرؤية. لم نرَ عملًا على الصمت، على النبرة، على الإيماءة. لم نر جهدا لتحويل القصة من حكاية تروى إلى حياة تعاش أمامنا.
كان يمكن للنص الأصلى أن يكون مجرد ذريعة للبحث عن أسئلة أصعب، عن صورة جديدة لفلسطين وللفقدان وللشتات. كان يمكن للعرض أن يقترح، أن يغامر، أن يزعج. لكنه اختار الطريق الأسهل: إعادة السرد، التوكيد، وما يقترب من الوعظ السياسى. والنتيجة كانت عرضا مسطحا، يفتقر إلى التوتر، إلى الجدل، إلى تلك الشرارة الغامضة التى تجعل المسرح فنا لا يشبه أى فن آخر.
فى النهاية، يمكننا الدفاع عن الجرح الفلسطينى بالكثير من الجدية والفنية، بعيدا عن أى ابتذال أو ترديد شعارات فارغة، بعيدا عن التبسيط المخل الذى يجعل عرضا محترفا أقرب إلى العمل الهاوى المبتدئ الذى يخطو فيه صنّاعه خطواتهم الأولى فى الطريق الطويل للفن، لدينا متسع واسع، مثل محيط بلا شاطئ، لاختيار نصوص كبيرة، أو كتابة نصوص جديدة تليق بهذه المأساة المفتوحة. بل إن ما يحدث يوميا من واقع مهين للكرامة الإنسانية، فى فلسطين وفى ضمير العالم، كفيل وحده بأن يخلّف آلاف النصوص القوية والصادقة. ليست الحاجة اليوم إلى إعادة نفخ الروح فى جسد روائى مستهلك، إن لم يكن ميتا فقد قُتل من فرط الاقتباس والاستهلاك، بل إلى شجاعة فنية تحفر فى المعنى، وتُصغى إلى الألم، وتجازف بابتكار لغة جديدة تليق بفداحة الخسارة. هكذا فقط يمكن أن نشاهد عرضًا يليق أن نحتفى فيه بالفن ونعلى فيه بقيمة قضايانا الكبرى، وهكذا فقط نكون أمام عرْض فنى لا عَرَض مسرحى، هامشى، زائل، هش، ومنذور للنسيان. 


ياسين سليمانى