النقد المسرحي السري والمجهول في مصر(30) نجيب سرور ومنين نجيب ناس!

النقد المسرحي السري والمجهول في مصر(30) نجيب سرور ومنين نجيب ناس!

العدد 935 صدر بتاريخ 28يوليو2025

فى عام 1984 تقدم «المسرح المتجول» إلى الرقابة للتصريح له بتمثيل نص مسرحية «منين أجيب ناس» - المحفوظ تحت رقم «1139» - من إخراج «مراد منير»، والنص يقع فى «36» صفحة فلوسكاب مكتوبة بالآلة الكاتبة. وبه مواضع حذف تم تظليلها بقلم عريض أسود؛ بحيث تم إخفاء الأسطر تمامًا، ولا يستطيع أحد قراءة المحذوف! كما أن النص خال من التقارير الرقابية أو أية وثائق مرفقة، ولم يُدون فى نهاية النص صيغة التصريح، ما يعنى احتمالية أن النص لم يُجاز رقابيًا! كما يوجد على غلاف ملف النص كلمة «للتسليم» ومشطوب عليها! وهذه الكلمة - وفقًا لخبرتى فى التعامل من ملفات الرقابة المسرحية - تعنى إن النص مرفوض وتم تسليمه إلى المخازن أو إلى الإدارة! ولكن شطب الكلمة يضعنا فى حيرة: هل النص صُرح به وتم تمثيله أم أنه رفض أم أن ظروفًا خاصة مرّت على هذا النص؟! وهذا دور الباحث مستقبلًا ممن سيستفيد من دراسة نصوص مسرحيات «نجيب سرور» التى تحدثت عنها والتى سأتحدث عنها فى المقالات المقبلة.
بعد أربع سنوات أرادت فرقة قنا المسرحية تمثيل هذه المسرحية، فتقدمت بها إلى الرقابة من أجل الحصول على الترخيص، وكتبت الخطاب «سنية عبد العليم» قالت فيه بتاريخ 17/10/1988: “السيد/مدير عام الرقابة على المصنفات الفنية، بعد التحية.. مرسل لكم عدد 3 نسخ من مسرحية «منين أجيب ناس» تأليف نجيب سرور علمًا بأن المسرحية موافق عليها من لجنة القراءة من الناحيتين الفنية والموضوعية وستعرضها فرقة قنا المسرحية خلال هذا الشهر”. والنص المُقدم للرقابة مفقود ولكنى احتفظ بوثائقه الرقابية، وهى ثلاثة تقارير رقابية:
التقرير الأول كتبه الرقيب «علاء سعودى»، قائلًا فيه: رحلة البحث عن «حسن».. الحلم المجهض.. وفى قلب «نعيمة» النبض الدقيق.. تتكرر الحدوتة.. الدائرة المغلقة.. فحسن يعشق نعيمة.. ونعيمة تريد حسن.. لكن «حسن» لا يتغنى إلا بما يريد! ويردد دائمًا مواويل الرفض والتحدى للعمدة – رمز السلطة – وأداة القهر المتوارثة – وأبونعيمة ضعيف.. ولا يقوى على الوقوف ضد التيار.. لأن العمدة يرفض زواج حسن من نعيمة. وتهرب نعيمة إلى حيث يوجد الحبيب حسن.. لكنهم لا يتركونها.. يستدرجونها.. ويوهمون حسن بأن أباها قد وافق على الزواج.. وعلى حسن أن يأخذ البنت من دار أهلها كشريف وابن شريف! وينخدع حسن وعندما يذهب إلى دار نعيمة.. يأخذه رجال العمدة إلى المذبحة! يفصلوا الرأس عن الجسد.. ويلقوا بالجسد فى مياه النيل.. ليترآى لنا شبح «كربلاء» القديم الجديد.. ونعيمة لا تملك أن تفعل شيئًا.. لكنها تستطيع أن تلتقط رأس حسن وتضعها فى «مشنة» وتبدأ رحلتها اللانهائية.. ونعيمة هى إيزيس.. وبهية.. وليلى.. وتتشابه الصور.. وتسير جثة حسن فوق مياه النيل.. يجرفها التيار من بلد إلى بلد ومن كفر إلى كفر.. والطريق صعب وطويل على «نعيمة» المسكينة.. ولا أحد يجرؤ على انتشال الجثة.. الكل يشاهدها.. تقترب من الأهالى على امتداد الضفاف الطويلة.. لكن الخوف يحول دائمًا بينهم وبين الاقتراب من الجثة.. بل أكثر من ذلك.. يتطوع غفير العمدة فى أكثر الأحيان لإبعاد الجثة عن الشواطئ.. تنفيذًا لأوامر العمدة الجبار! وتستمر رحلة البحث الطويلة التى تقوم بها نعيمة، حتى تأتى حادثة «كوبرى عباس».. وحين ذلك تصبح مأساة «نعيمة» مأساة جماعية.. فعشرات الغرقى أصبحوا صورة متكررة لحسن أو المئات من الثكالى على ضفتى النهر.. لقد آن للجميع أن يعودوا من حيث أتوا.. فلن يضير الشاه سلخها بعد ذبحها.. ولكن تبقى معانى الكلمات.. لتستعر نيران الخلاص القريب داخل الصدور لم تذق يومًا طعم الحرية!
بعد ملخص المسرحية هذا، أنهى الرقيب تقريره برأى قال فيه: “فى قالب شعرى.. تستعرض مسرحية «منين أجيب ناس» الحكايات الشعبية الأثيرة.. حكاية حسن ونعيمة.. وتتلامس الخطوط الرمزية فى النص لتلتقى بأسطورة أوزوريس وإيزيس لتتحول كل المشاهد لصور متداخلة.. ويتخلل مشاهد (الدراما الشعرية) فواصل من الأغانى والأناشيد والمواويل.. التى تجسد المأساة التاريخية بأبعادها المختلفة. واللغة الشعرية فى النص بسيطة وعميقة وتنبض بالأصالة.. وإن كانت تعلو حدتها فى بعض المواقف حتى لتكاد تتحول إلى صرخات مألوفة ومباشرة.. ومع الالتزام «الكامل» بالنص الشعرى، أرى لا مانع من الترخيص لهذا النص بالإيجازة”.
والتقرير الثانى كتبته الرقيبة «ثريا الجندي»، وأهم ما جاء فيه قولها: “.. ويحاول من خلال رحلة نعيمة فى البحث عن الجسد الغريق أن يمزج بين تلك القصة وعدد آخر من القصص والأساطير الشعبية العريقة بأسلوبه المميز الرائع.. مثل قصة إيزيس وأوزوريس، وبهية وياسين، وتظل نعيمة هائمة على وجهها كلما مرت بقرية أو كفر علمت أن الجثة سبقتها ولكن الخفر لم يسمحوا للجسد الغريق أن يخرج أو يستكين فى قبر وإنما دفعوه ليطوف مرة أخرى.. ونعيمة تلتقى بالفلاحين والصيادين والمراكبية الذين يحاولون تعزيتها وفى الفصل الأخير تظهر الساحرات الشريرات الحاقدات على نعيمة بصفتها ممثلة للخير ولمصر ويطالبن بإلحاقها بعشيقها. وتنتهى مسيرة الجثة الغريقة بأن تدفع إلى مياه البحر حتى لا يجدون لها أثرًا ولا تجد نعيمة مفرًا من دفن الرأس.. «الرأى»: المسرحية تعبير من مآسى شعبنا فى حياته وتصور أقاصيصنا الشعبية بكل ما فيها من آلام وأحزان ومآس. ولا مانع من الترخيص بالأداء.
أما التقرير الثالث والأخير فكتبه الرقيب «جلال الشماع» وأهم ما جاء فيه – بعد الملخص – تحليل قال فيه: “يدور الحوار بالنثر والأغانى بين الشخصيات والمجموعة والراوى عن قصة حسن ونعيمة.. ومن خلال الأحداث يتضح أن حسن كان مكروهًا من الإنجليز والحكومة لأنه كان ينتقد بالأغانى والمواويل الأوضاع غير السليمة. وعن طريق الحوار بين الشخصيات والراوى يتناول المؤلف قضية الحياة والقدر والأوضاع أيام الاحتلال الإنجليزى لمصر”. وفى نهاية الأمر صدر التصريح بتمثيل المسرحية لصالح الثقافة الجماهيرية تحت رقم «252» بتاريخ 2/11/1988، وذلك بعد تحديد عبارات محذوفة من النص فى صفحات: 34، 35، 85، 87، 102، 113.
وبمناسبة وجود بعض التقارير الخاصة بمسرحيات نجيب سرور، دون وجود النص المسرحى، عندى تقارير مسرحية «الذباب الأزرق» لنجيب سرور، وهى التقارير التى كتبها الرقباء لصالح كلية العلوم بجامعة المنصورة، التى أرادت عرض المسرحية! وأول تقرير كتبته الرقيبة «عفاف على أحمد» ذكرت فيه ملخصًا للنص قالت فيه: تدور الرواية حول رحلة أهل الميت فى محاولة لدفن الميت ولكن المشكلة أنه لا يوجد قبر لدفنه كما أن الكلاب تتبعهم أينما ذهبوا وهم يخشون على جثة المتوفى منهم، ويتقابل أهل الميت مع شاب «شاعر» يسألونه المشورة أين تُدفن الجثة؟ فيقترح عليهم فى أى مكان ولا يوجد سبب لخوفهم فلن يموت الميت مرة أخرى فالأمر إليه له سيان فيسيروا به فى الصحراء ويقابلوا البروفيسور ويتحدثوا معه ولكنه يخشى الحديث عن السياسة بعد أن ذكروا أن المتوفى سلبت أرضه ولا يوجد مكان لدفنه! ويتقابل مدير مع صحفى ويتفاخر فى حديثه بأنه يهودى بالجنسية وأن الفرق بين الإنسان والكلاب هو الفرق بين الأجانب واليهودى. وفى هذه الأثناء يتقابل أهل الميت بشيخ أعمى عابر سبيل ويحاول معرفة أين مكانه ولكنهم يخبروه بأن الحدود الشمالية مغلقة وكذلك الشرقية والغربية والجنوبية فيحاول معرفة أين يذهبون ولكنهم لا يعرفون بكل الطرق مسدودة أمامهم. وأخيرًا يقابل أهل الميت حانوتى ويحاول دفنه ولكن لا يوجد مكان تدفن فيه الجثة فيحاول دفنه حيث كان يرقد ولكنهم يرفضوا لأن الجثث آثار للجريمة ويجب أن تمحى جميع الآثار.. يتبادل أهل المتوفى مع رئيس مجلس الإدارة لاتخاذ الإجراءات اللازمة لدفن المرحوم «فهو فدائى فلسطيني»، ويعتذر رئيس مجلس الإدارة لهذا الخطأ ولكنه يأمرهم أولًا بأن يمروا على بعض المناصب المختلفة فيقول أحدهم لقد مررنا بالفعل على جميع المستويات فيقرر إحالة طلبهم إلى مصلحة الطلبات غير المرغوب فيها لكنهم يصروا على أن يجد لهم حلًا فيقرر تشكيل لجنة مختصة بالنظر فى الموضوع وتعقد اللجنة ويتحدثون فى كل شىء إلا المشكلة التى عقد المجلس من أجلها حتى رفعت الجلسة ويخرج أعضاء اللجنة دون حل لمشكلة المتوفى المعلقة دون حل حتى هذا اليوم. «الرأى»: رواية سياسية رمزية توضح برؤية خاصة مشكلة فلسطين وعدم وصول الشعوب العربية لحل حتى هذا اليوم.
أما الرقيب الثانية فكانت «ماجدة أحمد الشيخ» وقد ذكرت ملخصًا للمسرحية به توضيحات مهمة لم تُذكر فى تقرير الرقيب الأول، مثل قولها: تدور المسرحية حول جماعة من الشبان لديهم جثة فدائى فلسطين ولا يدرون أين يدفنوه لأنه ممنوع أن يدفن فى هذه الأرض.. وتستعصى المشكلة أمامهم فيعرضونها أمام عابر سبيل لحلها وكان شاعرًا مخمورًا نصحهم بحرقها! أما عابر السبيل الثانى وهو أستاذ جامعى فنصحهم بأن يثبتوا أولًا هويته وجنسيته بعد أن أتعبهم بمحاوراته الأكاديمية ذات الألفاظ الرنانة. وعابر السبيل الثالث كان شيخًا كهلًا ضريرًا نصحهم بألا أمل فى دفن الجثة لأن كل الجهات مغلقة أمامهم، والكلاب تنبح من كل جانب تريد الجثة والأحياء الذين معها. وعابر السبيل الأخير كان صامتًا رغم أنهم استمروا فى الكلام يشرحون له قضية المرحوم وكيفية دفنه فى أرضه التى استولوا عليها ومنعوهم من دفنه فيها لكنه لم يسمع منهم شيئًا غير تحريك الشفاه. وينتهى الرقيب على رأى قال فيه: مسرحية توضح مدى المعاناة التى يلاقيها الفدائيون الفلسطينيون فى تنشئتهم بلا وطن! كما يعانون من تفرقة العرب وعدم وقوفهم معه لإسنادهم فى حل قضيتهم التى طالت بسبب المنازعات والتفرقة والمهاترات والمزايدات والمتاهات للعرب أجمعين.
أما التقرير الثالث فكتبه الرقيب «شوقى شحاتة» وكتب ملخصًا للمسرحية كان أكثر الملخصات مباشرة ووضوحًا! قال فيه: جماعة يرددون “نحن لاجئون نحن المشردون المطرودون” ويحملون نعشًا مغطى بأغصان الشجر والأوراق ويتجهون به شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا بحثًا عن مكان يوارى فيه هذا الميت، وهكذا لم يجدوا مكانًا لأنه أصبح لا وطن له بعد أن طُرد وشرد من أرضه التى احتلها اليهود ليتشرد وينتقل من مكان لآخر ومن دولة إلى أخرى فى أنحاء العالم بعد أن أصبح بلا وطن واستطاعت إسرائيل بمعاونة العالم الغربى أن تفرق كلمة العرب وجعلتهم يختلفون بعد أن استطاعت أن تجعل الشعوب العربية فى وادٍ والحكام فى وادٍ آخر، وأن يشغلوا الشعب العربى بمشاكل مختلفة تبعده عن التفكير فى مصير الشعب العربى فى فلسطين الذى شُرد أهله لتقوم على أرضه دولة إسرائيل.. ورغم كل هذا فإن الشعب العربى الفلسطينى ما زال يأمل أن يسترد أرضه السليبة لذلك يكافح بمختلف الوسائل حتى يتحقق له ذلك.. وذلك يتطلب دفعة من الحكام العرب ينسون فيها خلافاتهم ويتحدوا جميعًا صامدين لتحقيق الأمل واسترداد الأرض والوطن السليب للشعب الفلسطينى. «الرأي»: المسرحية تتحدث عن قضية فلسطين.. قضية العالم العربى وكيف أن الشعب الفلسطينى قد شُرد وطُرد من أرضه ووطنه وأصبح بلا وطن والأمل فى تحقيق حق الشعب الفلسطينى فى وطنه وأرضه وذلك إذا ما توحدت كلمة العرب وتحررت من النفوذ الأجنبى.
وفى نهاية التقرير جاءت تأشيرة مدير عام الرقابة قائلًا فيها: “سبق الترخيص بهذه المسرحية «الذباب الأزرق»، وهى تحكى عن قضية فلسطين وكيف أن الفلسطينيين شردوا وطردوا من ديارهم ولا مانع من الترخيص”. وبهذه التأشيرة – والتقارير السابقة – نالت كلية العلوم بجامعة المنصورة تصريحًا بعرض مسرحية «الذباب الأزرق» تحت رقم «45» بتاريخ 25/2/1987. 


سيد علي إسماعيل