هذه الموسيقا الشعبية وآلاتها
يأتى هذا المجلد من أطلس المأثورات الشعبية المصرية الذى خصصناه للآلات الموسيقية الشعبية تأكيداً للوعد الذى قطعناه على أنفسنا فى المجلد الأول الذى صدر عن الخبز، من أننا سنستمر فى الحَبْو (اللِّى يحبْى يقْطَعْهَا جِبَالْ) لكي نتبع مأثوراتنا الشعبية فى أرجاء المعمور المصرى، جمعاً وتوثيقاً لهذه المأثورات، بمختلف الوسائل والأدوات العلمية التى نسعى إلى استخدامها، ومنها هذه الأداة، الأطلس أن هذه الأداة-كما سبق أن ذكرنا فى المجلد الأول-تسعى إلى ربط العنصر الثقافى الشعبى وانتشاره- وهو هنا الآلات الموسيقية الشعبية- بالمكان، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى ، فما نقدمه فى هذا المجلد، إنما يهدف على نحو خاص إلى مساعدة دارسي الموسيقا عامة، والموسيقا الشعبية خاصة، على تعميق وعيهم بالأخيرة، وحفزهم إلى الاهتمام بها وإدراك أهميتها ثقافياً وفنياً..الخ
أن دراسة الموسيقا وآلاتها عامة لا تكتمل دون دراسة ما ينتمى منها إلى الجماعة أو إلى الناس، والتى أصطلح على تسميتها بالموسيقا الشعبية، ونعنى بها تلك الموسيقا أو الألحان أو الأغاني التى تخرج إلى الوجود، أو تنبع، وسط جماعة ما، وتتردد بين أفرادها، معبرة عن حاجات ووظائف خاصة بهم وكذلك دراسة الموسيقا الأخرى (غير الشعبية كالكلاسيكية الغربية أو الشرق عربية).
وليس هناك من شك فى أن دراسة عصور ازدهار الموسيقا الأخيرة لا يكتمل دون دراسة الموسيقا الشعبية وآلاتها التى أمدت هذه الموسيقا بأسباب الحياة، ذلك أنه وبالرغم من أن هذه الموسيقا حظيت بميزات فنية متطورة، سواء من حيث شكل التركيب البناء اللحني، أو من حيث أساليب معالجة الألحان، أو من حيث آليات الأداء، فإن الكثير من الأعمال التى اشتهرت بها هذه الموسيقا وحظيت بإعجاب الناس على مر العصور، كانت ذات أصول شعبية.
لقد ظلت الموسيقا غير الشعبية (التى يبدعها فرد بعينه) زمنا طويلاً لا تعرف إلا فى دائرة محدودة من الناس قبل أن تقوم وسائل الأعلام الحديثة بنشرها وإذاعتها على نطاق واسع ولم يمنع هذا الانتشار المحدود لذلك النوع من الموسيقا الفردية أن تتأثر بالموسيقا الشعبية وأن تؤثر فيها. إنهما فى الحقيقة مرتبطتان. لأن عناصر متعددة فى كل منها لا تنفصل عن الأخرى، بل لعلها تمتزج ببعضها البعض، وتتكامل مع بعضها البعض، ويثرى كل منها الآخر. ففي الموسيقا الشعبية وفى الموسيقا الفردية المصرية وغير المصرية عناصر متعددة من هنا ومن هناك، وتنتمي إلى عصور مختلفة. ولذلك يصعب الزعم أن هناك أسلوب نقيا أو خالصا فى الموسيقا الشعبية، فلقد نمت كل الأساليب وتطورت عن طريق تبادل التأثير والتأثر بين الجماعات والمجتمعات بعضها البعض، وربما يحتاج هذا الجانب إلى دارس متمكن، يسبرغوره، ويستطيع من خلال تتبع هذه العناصر وعلاقاتها ببعضها، التعرف على جانب كبير- لعله ما يزال غامضاً أو خفياً- من ثقافة المجتمعات الإنسانية وتطورها الثقافى ، فعلى سبيل المثال، يتبادل مجتمع القرية، ومجتمع المدينة كثيراً من أشكال التأثير والتأثر، خاصة فى عصرنا الحالى لأسباب شتى، وقد أنعكس ذلك إلى حد كبير على الأغاني وعلى الألحان. وتاريخنا الموسيقى الحديث ملىء، بالكثير من النماذج التى يمكن أن تكون شاهداً على ذلك فيما نعرفه مثلاً من أعمال سيد درويش وغيره، وانتقال ألحان لأغاني معروفة ذائعة لتصبح مهادا لأغانى شعبية ذائعة أيضاً فى المجتمعات الشعبية، فالحقيقية أن الجماعات والمجتمعات لا تعيش فى عزله عن بعضها البعض، كما أن الفنان لا يعيش فى فراغ، ولا يبدع من فراغ، وإذا كان هذا صحيحاً، وهو صحيح بالفعل، فهو أكثر صحة فيما يرتبط بالفنان الشعبى الذى يعيش بين الناس وبهم ومعهم، يفكر ويشعر كما يفعل الآلاف الذين لا يختلف عنهم إلا فى قدرته-أكثر من غيره- على أن يعبر عنهم وأن يمتعهم.
أن الموسيقا الشعبية إبداع شعبي من حيث الأصل والانتشار والوجود وتمتاز بالنمطية والتنوع، وهى تزدهر فى أشكال مماثلة لبعضها ، وفى مجموعات معينة، ولا ترتبط بفرد معين، وتتجلى فى كثير من التنويعات التى تنشأ فى الزمان والمكان وتنبض بالحياة بفعل هذه التنويعات، وتنتقل وتصان شفاها، وتنفر من الجمود والتحجر، فالنمط الجديد ينبثق كأنه الإلهام، غير أنه فى حقيقة الأمر ثمرة إعداد وتدريب تدريجي طويل، ونتيجة سلسلة متواصلة من أشكال الإضافة والحذف التى يصعب تتبعها.
وتتكون الأنماط الموسيقية إلى الغنائية الشعبية الجديدة(الألحان والكلمات) تدريجياً من أشكال موجودة بالفعل فى المجتمع عن طريق التغيير البطىء، أكثر مما يحدث ذلك فى الأنماط الموسيقية أو الغنائية ( غير الشعبية) التى تعد ثمرة إبداع فردى خاص.
وتختلف الموسيقا الشعبية عن الموسيقا غير الشعبية فى عدة أمور : منها أنه يندر أن يوجد فى الثقافة الشعبية ألحان أو معزوفات خالصة منفصلة عن الغناء والرقص، لكننا نستخدم مصطلح الموسيقا الشعبية باعتباره الوعاء الذى يضم كل موضوعات الموسيقا الشعبية (الغناء / المعزوفات الآلية البحتة / صناعة الآلات وطرق تعلم الأداء عليها وتقاليد تكوين مجاميع العزف .. الخ) ويستخدم المتخصصون عادة مصطلح الأشكال الغنائية ليشمل النص الموسيقى والنص الشعري الذين لا ينفصلان عن بعضهما وهم ينظرون إلى هذه الأشكال باعتبارها فناً موسيقياً أكثر من كونها نصاً شعرياً. ذلك أن الموسيقا هي الأساس أو المدخل لهؤلاء المتخصصين، ومنها أيضاً أن الأولى تنمو وتتطور عن طريق إعادة تجديد المواد الموجودة بالفعل فى المجتمع، وتحفظها الذاكرة، كما أنها تتميز ببساطة مكوناتها وسهولة أدائها، مما يساعد الناس العاديين على تمثلها وترديدها فى سهولة ويسردون مشقة وهى رغم بساطة مكوناتها تحمل قيما جمالية وفنية عالية وتعتمد بصفة أساسية على الغناء الذى يجرى على إيقاعات موزونة وزنا موسيقيا قياسياً، وتستخدم له أدوات موسيقية بسيطة التكوين والتركيب مصنوعة من خامات البيئة ويسهل الأداء عليها ومنها أيضاً أن هذه الأشكال الغنائية، وخاصة التى يرددها عامة الناس وليس المحترفين، جماعية ويستحيل- على عكس الموسيقا الفردية (غير الشعبية)- أن تضع خطوطاً فاصلة بين المؤلف الذى يبدع النص الشعرى والموسيقى الذى يكسوه اللحن، والمغنى الذى يؤديه والمتلقين ، ذلك أن الخطوط الفاصلة غير واضحة إلى حد كبير، ومنها الانتقال الشفاهى الذى يميزها والذى يعد فى نظر كثير من الباحثين أكثر خصائصها صدقاً فى التعبير عن طبيعتها الأساسية، ومن المألوف أن نجد المغنى أو العازف لا يعرفان أصل ما يؤدونه فجميعه ينتقل شفاها أو سماعاً من جيل إلى جيل ومن فرد إلى آخر فى إطار تقاليد وأعراف وأساليب خاصة بالجماعة ذاتها تتميز بالمرونة. وربما لذلك بدى للدراسين-فى مرحلة من المراحل- أنه من المستحيل عليهم الحصول على أية معلومات فى مرحلة من المراحل- أنه من المستحيل عليهم الحصول على أية معلومات دقيقة عن إدراك أى من هؤلاء المغنيين للأسس التى يقوم عليها أداؤهم، لكن الدراسات الموسيقية أثبتت أن ثمة أساليب متعددة للتعليم وللتدريب تعرفها الحياة الموسيقية الشعبية وتعد مصدراً أو مرجعاً لاكتساب الخبرة.
لقد قام الموسيقى المجرى الشهير "سلطان كوداى" فى أربعينات القرن الماضى دراسة عن الموسيقا الشعبية ذكر فيها : أن الموسيقا الشعبية تحدث فيها تنويعات تقوم بها شفتا المغنى التى تمثل قوة فعالة هائلة، وهذه القوة الفعالة لا يشترط فيمن يملكها صفات معينة قد تأكد أكثر من مرة أنها سمة جوهرية تميز الأغنية أو اللحن الشعبى، ولا شك أنه يكمل هذه القوة الفعالة التى تمثلها شفتا المغنى الشعبى، ويعمق من أثر ما تؤديه تلك الموسيقا التى تنبعث من آلات ظهرت منذ عصور سحيقة واستمرت وتطورت معه، وما يزال كثير منها موجوداً إلى الآن تعيش جنباً إلى جنب دون ترتيب زمني. ففي صعيد مصر على سبيل المثال نجد الأرغول المصرى القديم الذى يرجع تاريخه إلى عصر ما قبل الأسرات، يعيش جنباً إلى جنب مع الربابة العربى دون تناقض أو صراع.
أن هذا الأطلس - الدراسة - يقدم الآلات الموسيقية الشعبية أو لنقل الآلات الموسيقية التى عرفتها الثقافة الشعبية المصرية وشكلت معلما من معالمها، وحفظت لنا مع المغنيين والعازفين مأثوراً حيا صاحب الإنسان المصرى، وما زال يصاحبه فى فرحه وحزنه وفى مرحة وشجنه، وفى حبه وغزله، وفى عتابه وغضبه، وفى انتصاراته وانكساراته. وهذه الآلات تمثل فى مجملها الأنواع الرئيسية الثلاثة للآلات الموسيقية الشعبية المصرية، كما ذكر ذلك الزميل الدكتور / محمد عمران. أول هذه الآلات بالطبع آلات التوقيع التى ربما كانت بديلاً أو مكملة لأقدم ما أكتشفه الإنسان من أساليب التوقيع عندما استخدم كفيه في التصفيق، ورجليه فى الدق على الأرض، وهو ما يزال يفعله الآن، رغم اكتشافه لهذه الآلات، ثم تأتى بعدها آلات النفخ، ولعل أقدمها تلك القصبات المجوفة المختلفة الأطوال، المثقوبة وغير المثقوبة، والتى تفنن الإنسان فى صنعها، وتطويعها لتعطيه أصواتاً ونغمات جديدة متنوعة. إما الآلات الوترية فقد كانت هى آخر ما اهتدى إليه الإنسان. ولقد استغرق التوصل إلى كل منها آلاف السنين، تطورت هذه الآلات خلالها من أشكالها الأولى البسيطة التى كانت تؤدى وظائف معينة مرتبطة بحياته، ومليئة لحاجاته وفقاً للمرحلة الثقافية التى يعيشها مما لا مجال للتفصيل فيه هنا، إلى أشكال أكثر تعقيداً وتركيباً لتناسب الحاجات والوظائف الجديدة .
ويطمح هذا العمل الذى نقدمه للحياه الثقافية إلى التأكيد على أن جمع الموسيقا الشعبية، وآلاتها ، والنصوص الشعرية المرتبطة بها ووصفها، وتصنيفها وصونها أمور ضرورية- شأنها شأن غيرها من عناصر المأثورات الشعبية الأخرى- يوضح لنا جوانب من حياة المجتمع الشعبى وعاداته وتقاليده ورؤيته لنفسه ولغيره ويحافظ على هويته ويصونها. وربما يجيب لنا على أسئلة نطرحها، منها على سبيل المثال :
إلى أى حد تعبر هذه المأثورات، عن التطورات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، التى عاشها ويعيشها المجتمع ؟! وإلى أى حد ، ولأي هدف نحتاج لصونها وحمايتها ؟! وهى كلها أمور جديرة بالدرس والتأمل، نأمل أن تجد ما تستحقه من استجابة واهتمام..
على أية حال، سنظل نحبو، واثقين أننا سنقطع الجبال ...والله الموفق. |