الأشياء تتصنع غالبا على شبكات التواصل الاجتماعي ثم تنزل بعد ذلك إلى الواقع، يكفي بنظرة غير متأنية على “فيسبوك” أو “تويتر” أن تتعرف على آلاف الأشياء من هذا النوع، وما يخصنا هنا هو حملات التشوية الموجهة من قبل البعض من العاملين بمجال الثقافة إلى البعض الآخر من زويهم، طالت هذه الحملات كل شيء، طالت الجميع بلا استثناء من المثقفين والمسرحيين، وأصبح الجميع يشكك في ذمم الجميع، والجميع يدافع ويتوه في زحمة المدافعة، وبين كل هذا وذاك تاه الفعل الثقافي الحقيقي الفردي أو المؤسسي، وأصبح من يقول كلمة شكر يستحقها شخص ما وكأنه يقولها لأنه ينتظر منه شيئا، أو من يستاء من تصرف معين لأحد مديري العمل الثقافي يظهر كما لو كان يبتز هذا المدير طالبا منه شيئا، هذا مع العلم أنه لا أحد يملك الثقافة ولا مؤسساتها غير جمهور المثقفين والمتذوقين من الشعب المصري وليس العاملين من الموظفين بها، وإذا ما أضفنا إلى تلك المعارك الوهمية بعدا جديدا يخص الاستسهال في صناعة الثقافة والميل إلى صناعة الغريب منها، ذلك الذي يلفت الانتباه لغرابته من دون أن تكون له فائدة حقيقية، والبحث عن المصالح الشخصية وكراهية النجاح للآخر، و.. و، كل ذلك بإضافته إلى بعضه هو ما أكد وقوعنا داخل قانون الصدفة والعشوائية الذي يعني نجاح الأشياء أو إخفاقها بالصدفة، وذلك لأن صناعتها تمت عبر منطق الاستسهال وعدم التركيز الذي نعيش داخله لسنوات طويلة، وهو ما يجب أن نخرج منه الآن إذا كنا نريد شأنا ثقافيا مؤثرا في الوعي الجمعي للمجتمع.لقد ظللنا ندور لعقود طويلة داخل حلقات غريبة مفرغة من أي معنى، من عقد ستيني اشتراكي ثوري قومي، لعقد سبعيني رأسمالي انفتاحي، لميوعة وعنف في الثمانينات وعشوائية مفرطة في التسعينات وفوضوية كبيرة في العشرية الأولى من القرن الواحد والعشرين، والآن وبعد ثورتين وآلاف القتلى والمصابين لم يستقر المثقفين على معنى ودور محدد للثقافة، كما لم يستقر الساسة والمفكرون على تحديد معانٍ كبيرة من مثل: الدولة، الحكومة، المواطن، الحرية، العدالة، الدين، .... الأمور كلها متروكة لاجتهادات فردية غالبا ما تكون متخلفة، وبدلا من أن يتفرغ الإعلام والإبداع لتنوير العقول نجده يتفرغ لمعاركه الشخصية الصغيرة جدا والحقيرة جدا في تعابير أخرى، ويتفرغ أيضا لتناول مظاهر الغرابة في كل شيء ويزيد من عته الناس وتخلفهم ببرامج التوك شو المليئة بالضوضاء والفراغ الفكري وبالأعمال الفنية الرديئة، ولعراكات المثقفين التافهة، ولقضايا فك رموز كلمات وجمل إعلانات الكومبوندات وشركات المحمول المستفزة، فهي تشعرك أنك مواطن يعيش في سويسرا ولا ينقصك شيء إلا أعلى درجات الرفاهية، في حين تشعرك بالمقابل إعلانات الشحاذة بأنك من سكان العشوائيات المضحوك عليهم والممتصة دماؤهم.هل كل ذلك مقصود منه الخوف والرعب من المستقبل الذي يزيد من الهوة بين المستهدفين من إعلانات الكومبوندات وبين القرى المحرومة من الماء النظيف، الطبقة الوسطى تنسحق وتبتلعها هذه الهوة التي تزداد توحشا يوما بعد يوم، التلفزيون بقنواته الفضائية الكثيرة محتل من لاعبي الكرة ونجوم التمثيل ولا يظهر على شاشاته عالم أو مفكر أو مثقف حقيقي، فما هي إذن القدوة التي يمكن أن نزينها ونبلورها، لا شيء، لا أحد، فكلنا مراقبون سيئون لأفعالنا ولتخاذلاتنا “وفاسدون لا أستثني منا أحدا”، كما يقرر حوار وجيه أبو ذكري وبشير الديك على لسان أحمد زكي في فيلم “ضد الحكومة” لعاطف الطيب، فهل نظل طويلا ضد الثقافة الحقيقية وتحت أسر معاركنا الصغيرة وإعلام الغرابة وتخلف معظم مسلسلاتنا وإعلاناتنا.