المكان المسرحي الموجه (3)

المكان المسرحي   الموجه (3)

العدد 872 صدر بتاريخ 13مايو2024

 يؤكد شليمر, في وصفه لرسمه, على التعارض الأصيل بين الانسان والفراغ الهندسي، ولكنه أيضا يقر بأن هندسة ونسب هذا هذا الفضاء المجرد تتطابق مع نسب الجسم البشري على نحو ما : 
 يقف الانسان، الكائن البشري، في فراغ المسرح المطلق المكعب. الانسان والفراغ. وكل منهما له قوانين نظــام مختلفة. فلمن ستكون الغلبة؟ أن قوانين الفراغ المكعب هي شبكة من العلاقات الخطية المستوية والمجسمة غير المرئية (أنظر الرسم أعلاه). هذه العلاقات الرياضيــة تتوافق مع العلاقات الرياضية الأصيلة في جسـم الانسـان وتخلق توازنه عن طريق الحركـة التي تتحـد بطبيعتهــا ميكانيكيا ومنطقيا. 
 ويوضح الرسم الثاني خطوط المجال باعتبارها منبعثة من الشكل نفسه، وتستمر منحنياتها وبيضاويتها داخل اللا نهائي وتخلق مجالا للحركة المضمرة والرقص. ويتم ادراج مادية الانسان وحركته في مجال فراغ محايد (نظريا). ويكتب شليمر، وهو مصمم رقصات، عن نموذج الرقص: 
من الناحية الأخرى، تكمن قوانين الإنسان العضوية في الوظائف الخفية للذات الداخلية: دقات القلب، والدوران والتنفس، وأنشطة العقل والنظام العصبي. واذا كانت هذه عوامـل محددة، فان مركزهـا هو الانسـان، الذي تخلق حركاته مساحة خيالية. يتعلق بكل هذه القوانيـن الإنسان كراقص بشكل غير مرئي. أنه يطيع قانون الفراغ، يتبع احساسه بنفسه علاوة على إحساســه بمعانقة الفراغ .(40) 
 يفهم شليمر الفراغ هنا بأنه امكانية الجسم، أو امكانية للجسم لكي يتحرك. وتقول مارشيا فورستين أن «الفراغ المعماري بالنسبة لشليمر كان أقل احتواء للجسم من جانب الجسم المتحول. وتكلم كل أعمال شليمر عن فراغ ملئ وفراغ خلال، وباعتباره جسم (41). وكان جزء من تجاربه المسرحية وتجارب تلاميذه هو تقسيم فراغ خشبة المسرح إلى أجزاء خطية تحددها محاور ومنحنيات لكي نفهم كيف يؤثر جسم المؤدي الموجود فيها (42). ويصف شليمر كيف ابتكروا عن طريق الأسلاك في الحجم المكعب لفراغ خشبة المسرح نموذجا لهذا المجال لاختبار مؤثراته: «بواسطة الأسلاك المشدودة التي تربط زوايا الفراغ المكعب نحصل على نقطة منتصفه بينما تقسمه الخطوط القطرية بشكل مجسم. ومن خلال اضافة العديد من الهوائيات الذي نرغب فيه، يمكننا انشاء شبكة خطية مكانية سيكون لها تأثير حاسم على الانسان الذي يتحرك بداخلها (43). 
 وفيما يلي، أريد أن أتخيل كيف أن التجريب المسرحي والمكاني مثل الذي اضطلع به شليمر وتلاميذه يمكن تطويره أكثر، وما هو نوع الرؤى الناتجة عنه. وسوف أحاول أن أصف أمثلة خصائص مجال خشبة المسرح، والامكانات والتوجهات التي توفرها للمؤدين والمتفرجين. ولكن أولا أريد أن أذكر تفسيرا بديلا لخشبة المسرح كمجال اقترحه عدد من علماء المسرح: وهو باختصار توجه العالم الخيالي لخشبة المسرح، أي فكرة أن الموقف أو العالم التي تجد الشخصيات الدرامية نفسها فيه يشكل المجال الاجتماعي بتوجهاته. ففي أساليب المسرح الواقعية أو الطبيعية، ولاسيما المسرحيات أو العروض التي تطمح الى مكانة دراسات البيئة، فان هدف العرض غالبا أن يجعل الموقف الاجتماعي للشخصية الدرامية مرئيا من خلال الاختيارات السينوغرافية أو الإخراجية، أو تضخيم بنيات القوة بين الشخصيات، أو مجالات قوة الجذب، أو حتى توضيح الأنماط المجتمعية الأكبر أثناء تأثيرها في الأبطال. ومن أفضل تحليلات هذا النوع تحليل ستانتون جارنر بالنسبة لمسرحيات بنتر وبيكيت، التي تصف تحديد المجال السكني التسلسلي والمتنازع عليه والذي تنخرط فيه الشخصيات، في مسرحية بنتر «الحارس The Caretaker»(44). 
 ورغم ذلك، فحجتي هي أن مجال خشبة المسرح لا يوجد فقط في اطار الموقف الخيالي (القصصي)، بل أيضا بشكل تجريدي وأدائي، أي مثل الموقف المادي للمؤدي على خشبة المسرح. وخشبة المسرح نفسها كفراغ معماري، حتى بدون الهوية القصصية لمكان معين متخيل، هي فعلا مجال حركة متماسك له توجه ومجموعة من الاحتمالات : فمثلا هناك أجنحة، فتحات على الجانب تمنح وعدا بشيء يظهر، ومن الممكن أبواب، ومقابل قريب جدا يتم تحديده من خلال أعلى خشبة المسرح وأسفلها وخطوط قطرية تقدم مسافات أكبر ونقطة أو منطقة مركزية تبرز أهميتها ويبدو أنها تنادي لكي تكون مشغولة. 
 ويصف جاك ليكوك، في كتابه المهم عن الوسائل المستخدمة في مدرسته التي تتميز بالمسرح البدني، كيف تبدو نقاط الدخول والخروج واضحة للمؤدين : يمكن أن يشعر المؤدي أو يعلم من أين يدخل وأين يقف، كل تظهر خشبة المسرح متوازنة. والتمرين المستخدم لممارسة هذا في مدرسة ليكوك يسمى «خشبة المسرح المتوازنة a balanced stage: وتتكون من لعبة توازن أو عدم توازن خشبة المسرح بتحريك الممثلين حولها (45). الممثل المنفرد في المنطقة المركزية لخشبة المسرح هو ممثل متوازن. وعندما يتحرك بعيدا عن المنطقة المركزية يصبح غير متوازن. ويمكن أن يدخل ممثل ثاني ويضع نفسه لكي يكون متوازن من جديد. وهكذا، مع مزيد من الممثلين يدخلون أو البعض يغادرون: 
 يتطلب توازن خشبة المسرح مستوى عالي جدا من التركيز؛ فلا يمكن أن يستمر التمرين أكثر من ساعة زمن. ويمكـن جلب العديد من المتغيرات، مع أساليب لعب مختلفة تنطلق من الواقعية اليومية الى التحولات المقنّعة. ويجذب انتباهـي انحرافات معينة: الشخص الذي يقود مكان شخص آخـر، الشخص الذي يسلب شخصا آخر من دخوله ؛ الشخص الذي يعتقد خطئا أنه في المكان الصحيح، الشخص الذي لا يتخلى عن مكانه؛ الشخص الذي لا يشعر بمرور الزمن؛ الشخص الذي يتردد ويجد أن مكانه مشغول ؛ الشخص الذي يدخل الى خشبة المسرح ولا يجد مكانا له ..الخ. تنتج هذه الانحرافات اضطرابا بسيطا في التوازن وتزعج اللعبة (46). 
لاحظ أن كل هذه الاشغالات لمجال خشبة المسرح مع أنها تتضمن موقف سردي مادي. وبالتالي، من السهل أن نرى أن المبدأ يطبق على الرقص التجريدي. ومصممة الرقص آنا تيرزا دو كيرزماكر عن فرقة الرقص ROSAS تؤكد هذا عندما تتحدث عن الراقصات اللاتي لديهن فهما بديهيا لكيفية دخول المكان وتركه، بالاضافة الى المشاكل التي تنشأ للراقصات اللاتي يحدسن متطلبات المكان بنفس الطريقة. 
 أثناء ثانية الدخول أو الخروج، يمكنك أن تقرأ بوضوح جدا كيف ترتبط الراقصات بالحدث على خشبة المسرح. فهناك يمكنك أن تشعر بوضوح الاضطراب في أجسامهن وأيضـا في رؤوسهن. وربما أكثر من ذلك عندما يخرجن: كيف تترك ورائك المساحة التي كنت تشغلها ؟ هل تغلقها، أم تتركها مفتوحة ؟ كيف ترتبط بالناس الذين تركوا المكـان ؟
 في كلتا الحالتين، لا يمكن أن يحدث ذلك دون وعي. بل يجب أن تفكر في ذلك، ولا تترك شيئا للصدفة، وهذا مهم في الخروج كما هو مهم في الدخول. ويتطلب أيضا الكثير من أعمال الاصلاح– انه أول شيء يصبح شنيع وبشع في العرض. 
 بمجرد أن تمتلئ خشبة المسرح بالمؤدين، تستمر عملة توازن وعدم توازن المجال. ويتحدث جارنر عن الجاذبية الإدراكية لمنتصف خشبة المسرح، والجاذبية الثانوية لأطراف خشبة المسرح التي تحد هذا المركز (48)، ويجادل بأن الأشياء والأجسام الموجودة خارج المركز، والتي ليست في هذين القطبين، تخلق مجالا من عدم الاستقرار البصري القوي (49). والسياق بالنسبة لجارنر هو الدراماتورجيا المكانية المتأصلة في مسرحيات بيكيت، ولكن الفكرة التي يطرحها قابلة للتحول. ويستخدم العديد من المخرجين عدم الاستقرار البصري وتجربة الجاذبية، من الناحية السردية، ويمكن استخدامهما لتصوير بنية السلطة (كما في العديد من مسرحيات شكسبير مثلا، اذ تحتوى على مشاهد تصور خونة يراقبون الحد الخارجي لابراز السلطة الراسخة، أنظر مثلا مسرحية «ريتشارد الثالث»). ورغم ذلك، في اطار المعنى، فان هذا المبدأ ليس مقصورا على التوضيح الرمزي للواقع الخيالي. ان المجال الذي تخلقه الأجسام المتحركة، بمناطق القرب والمسافة والجاذبية، هو في حد ذاته ذو معنى بالفعل، كما يمكن أن تظهر تجربة بسيطة: لوحظت خلال ورشة عمل لمصممي الرقصات الواعدين، وتتضمن التجربة مجموعة من الناس (ممثلين، وراقصين، ومصممي رقصات)(50)، حيث يُطلب من كل منهم تكوين سلسلة قصيرة من الحركات أو الايماءات أو الأفعال الأساسية. وبعد ذلك يتم أداء هذه التتابعات للمجموعة، وليس واحدا تلو الآخر، ولكن بشكل متدرج، بحيث يتقاسم المؤديان الفراغ في أي لحظة، كما هو الحال في التتابع. وعندما ينهي شخص التتابع ويترك المكان، يدخل آخر ويبدأ، ويشارك الشخص الذي مازال موجودا في المكان. وبمجرد أن يؤدي الجميع، تصف المجموعة – التي كانت تشاهد بعضها بالطبع – وتناقش ما رأته. 
 ولعل أحد الملاحظات الناتجة عن هذه المناقشة هي الانطباع بأن ما يحدث في المكان على الرغم من أنه قد تم تصميمه بشكل منفصل، يصبح مرتبطا ومتصلا في بعض الأحيان بشكل سببي، حيث أن الشخص (ب) يفعل شيئا بسبب دفعة يتلقاها من الشخص (أ). ومعرفة أن هذا مستحيل، لا تؤثر على هذا الانطباع القوي، حيث لم يحدث أي اتصال مسبق بين المؤديين اللذين يقتسمان المساحة. وتوضح التجربة كيف يخلق القرب مناطق الجاذبية: في كل من الزمن (لأن شيء يحدث بعد شيء آخر، فنعتقد أنه يحدث بسببه) وفي المكان (لأن شخصين قريبين من بعضهما، فيظهرا هما وأفعالهما أيضا أنهما مترابطين)، فالقرب يخلق مناطق جاذبية. وفي اطار المجال، يمكن وصف هذه الظاهرة بأنها جعل قوى الاتصال مرئية. 
فهذه المغناطيسية، أو الانتماء معا، يمكن تفسيرها أيضا في اطار امكانيات جيبسون: بالنسبة لأولئك الذين يشاهدون المشهد، فان وجود الشخص الآخر في المجال يظهر بشكل طبيعي كنوع من امكانية وجود الشخص الأول في المجال. فليس فقط حضور ذلك الشخص هو الامكانية، ولكن أيضا كل أفعاله وحركاته هي امكانيات أيضا. فكل إيماءة تُفهم وكأنها مشحونة بامكانيات الاستجابة والفعل؛ وبهذا المعنى يمكن أن توصف امكانياتها باعتبارها نقاط اتصال ممكنة. ويمكن أن يجادل منظر والإدراك الفينومينولوجي بأننا غير قادرين على فهم أي شيء بدون رؤية امكانيات الفعل التي تقدمها (51). ويجب أن يجعل تخيل كل نقاط الاتصال وامكانيات الفعل هذه، أنه من الواضح مدى كثافة مجال الامكانيات هذا - في كل من الحياة اليومية وعلى خشبة المسرح. 

نسق خشبة المسرح – القاعة كمجال 
 «وفي المقام الثاني، اتجاهه وجانبه. المكعب الصغير مفتوح على جانب المتفرجين. ويواجههم. ويمارس عليهم القوة، قوة دينامية في سطح أفقي يشير كالسهم الى القاعة (52). ويؤسس مقال اتيين سوريو الكلاسيكي عام 1952 حول عمارة المسرح لانقسام بين فراغ قوس خشبة المسرح – المكعب الذي وصفناه في الاقتباس السابق – والمدرج أو نموذج خشبة المسرح الدافعة، حيث تقف خشبة المسرح في منتصف حشد من الجماهير : لا توجد خشبة مسرح، لا توجد قاعة، لا توجد حدود. وبدلا من اقتطاع جزء محدد مسبقا من العالم الذي سوف يتم بناؤه، نبحث عن مركزها الدينامي وقلبها النابض والمكان الذي يكون فيه الفعل في أقصى حالاته العاطفية وأكثرها سموا. ويُسمح لهذا المركز أن يستأصل قوته بحرية وبلا حدود (53). 
 ما يتضح جدا من هذين الوصفين هو أن الطرازين المعماريين لفراغ المسرح موجهين بطريقتين مختلفتين. ولذلك من المنطقي أن نوسغ فكرة المسرح كمجال توجه لكي يشمل كل نظام خشبة المسرح-القاعة، لاسيما عندما رؤيتها من منظور المتفرج. ولعل أحد المتطلبات الأساسية، كما ذكرنا آنفا، لوصف المكان (الفراغ) المعاش أو الفراغ كما يظهر بطريقة فينومينولوجية، هو أن نكون صادقين مع المنظور الذي نكتب من خلاله. ويؤكد جارنر هذا عندما يكتب أن التوجه الفينومينولوجي لفراغ المسرح يعتمد على المنظور المجسد للمتفرج : «تقف خشبة المسرح وعناصرها الآن في اطار متغيرات مثل الواجهة والزاوية والعمق، بقدر ما أسمح لنفسي أن تسكن نقطة الادراك الفعلي، فتصبح الرؤية المسرحية الآن متضمنة في حقيقة تجسدي»(54). وتتضمن حقيقة تجسد المتفرج بالضرورة مقومات مثل موقفه بالنسبة لخشبة المسرح، ومسألة الخطوط البسيطة والمنظور، فرص الحركة أو التفاعل، والارتياح أو عدم الارتياح، الجلوس أو الوقوف، الضوء أو الظلام، وأشياء كثيرة أخرى. ويمكن القول ان توجهات هذا المجال الممتد، والذي يشمل المساحة الفعلية التي يشغلها المتفرجين علاوة على خشبة المسرح، يشعر بها بقوة أولئك الذين يشاهدون أكثر من شعورهم بمجال خشبة المسرح وحدها – وهذا على أي حال ما يتم تجربته حتى قبل تفعيل مجال خشبة المسرح في الأداء. 
 وبالنظر الى تخطيط القاعة كمجال توجه، يمكننا أن نميز سماتها في اطار الامكانات والمسارات : عوائق حقيقة أو ضمنية تفصل خشبة المسرح عن القاعة، ومحظورات وحدود في اطار الحركة ( ماذا يمنعني مثلا من السير الى خشبة المسرح ؟ ) هي أمثلة لامكانيات سلبية في المجال. ورغم ذلك، فان هذه النقطة ليست مباشرة تماما. لأنه من حيث التوجه، فان مقدمة خشبة المسرح تكون مع القاعة لكي توفر اتاحة بصرية متقنة، الا أنها توضع بهذه الطريقة لكي تمنع الوصول المادي اليها. 
 وجزء من هذا التنصيب للمتفرجين هو حقيقة وضع الثبات ؛ فموقف عدم الحركة ( لا أكثر لا أقل ) أمام مكان التوضيح يمنح امكانيات للمشاهدة وليس الحركة. ويتم تثبيت الجمهور في فراغ قوس خشبة المسرح بوجه خاص في موضع أمامي. ويقدم المنظر المعماري جوناثان ليذربورو رؤية للمنظور الأمامي للبنية المعمارية المفيدة في هذا السياق: «الأمامية هي شرط خاص في العمارة. والانحراف في المقابل هو المعيار. ان البيئات التي نعيش فيها تكون دائما مفرطة وناقصة، فهي تتسلل الى احساسنا (وتتحيز) لاحساسنا بالموقع بسبب الصفات التي تتطلبها ولكن لا تمتلكها (55). ما يشير اليه هنا هو أنه في تفاعلاتنا المعتادة مع العمارة، نقدر على التحرك داخل المبنى وحوله، وبالتالي نتعلم تفسيره فيما يتعلق باللمس والحركة، وبالتالي نكمل ضمنيا الصورة التي نراها للمبنى بالمعلومات المفقودة من هذه الصورة المرئية نفسها. فالأمامية (الواجهة) في المسرح هي بالتالي شرط أو توجه يفصل تجربة الجلوس في قوس مقدمة خشبة المسرح عن التجربة اليومية العادية. 
 فما هو تأثير هذا الثبات في موقف الأمامية ؟ الأهم من ذلك بالنسبة للامكانات التحويلية لفراغ خشبة المسرح، أنها تعطي احساسا بعدم الواقعية لكل ما يحدث على المسرح، لأنه لا يمكن التحقق منه بأعضاء الحواس الأخرى. فلا يمكننا أن نصعد ونلمس الأشياء التي نراها على خشبة المسرح لكي نعرف أنها فعلا كما تبدو. وايحاءات هذا هي أن الاحساس بالعمق على خشبة المسرح أكثر قابلية للتلاعب عما هو عليه في الحياة الحقيقية، لأن كثير من الآليات المتاحة لنا في الادراك العادي قد توقفت بسبب موقف الأمامية والثبات هذا. وبالتالي، يمكن تحفيز الايهام بالعمق والمسافة على خشبة المسرح بمختلف الوسائل، وبسبب توجه باقي القاعة، يكون هذا الايهام مقنعا بشكل ملحوظ. وبالتالي يمنع نظام خشبة المسرح-القاعة، الذي يتسم بوضع المشاهدين بشكل أمامي وحضور قوس خشبة المسرح – الفصل بين خشبة المسرح والقاعة – بعض عمليات ادراك العمق، عن طريق اخفاء بعض خصائصها المكانية الحقيقية. وبالنظر اليها كشاشة، يمكنهم استدعاء مثلا ظواهر خارقة للطبيعة ( مثل الاشباح أو الرؤى أو استرجاع الماضي ) من خلال اللعب بعمق خشبة المسرح. ولكن لا تشكل كل مباني المسرح بالنزعة الامامية والثبات. وكما يصف سورايو بشكل مثير للذكريات، الشكل النموذجي الآخر لخشبة المسرح- القاعة – الكرة – يتميز بنقطة بؤرية مركزية. فكيف يؤثر هذا في المجال الذي يوجد فيه الجمهور ؟ مشاهدة الوجوه بدلا من الأفقية الجلوس بزاوية بدلا من الجلوس أمام خشبة المسرح مباشرة، وربما يكون معلقا من أعلى على الحائط وينظر الى أسفل على مساحة كبيرة مأهولة، أو كتلة مزدحمة أنا جزء منها، اجهاد لمشاهدة ما يحدث فوقي وتحتي ومن حولي. وفي المدرج الدائري أو شبه الدائري, مع التركيز على المركز وليس المقدمة، يكون اتجاه المجال مختلف تماما. ويمكن تفسير فرص مشاهدة الأجزاء الأخرى من المكان فضلا عن خشبة المسرح وحدها باعتباره امكانيات ايجابية في اطار التفاعل وحرية الحركة (حتى لو كان ذلك مقيدا لحرية النظر). ومن الجدير بالملاحظة أن هذا الدينامي يتم ابتكاره أساسا من خلال التركيز، أي التركيز على النقطة المركزية، فضلا عن الشكل المعماري للعلبة. والدراسة التجريبية المقتبسة آنفا حول المؤثرات النفسية والفيسيولوجية لمختلف أنواع عمارة المسرح على المشاهدين (التي أجريت في منتصف السبعينيات) تدخل في بعض التفاصيل حول هذا الموضوع. ويذكر ريتشارد كولر: 
 يتضمن الانغلاق الاحساس بالانغلاق – الشعور بالوجود في غرفة ورغم ذلك من الخطأ أن نعتقد أن الحوائط والسقف يقررون درجة الانغلاق الممارس. وهما، رغم ذلك، ليسوا ضروريين لظهوره . ضع نفسك على صخـرة كبيرة في المجال ، واجعـل كل الأطفـال المجاورين يجلسون حولك. أقرأ قصة بصوت عال. ستجد نفسك الآن في مكان حيث الصخرة في المنتصف تجعلك النقطة المركزية 
 ويتم اقرار حدودها بواسطة الأطفال المجاورين. وعندما يقترب المساء تشعل نارا بجوار الصخرة وبينما يقترب الغسق يزداد  الشعور بالانغلاق. يبدو أن الشيء الحاسم ليس الجدران وليس السقف، بل حضور النقطة البؤرية والشعور بالمعية. سنشترط ذلك في قاعة المسرح، اذ يجب أن توجد نقطة بؤرية واحدة في أي لحظة. وحينما يتحقق هذا الشرط سوف نتمكن من التحدث عن مكان واحد (56). 
اذ توجد الكثير من العروض في مكان غير مسرحي، توضح هذا المبدأ، ويمكن تحليلها بشكل مثمر في اطار دينامياتها المكانية باستخدام مفهوم المجال. 
 وبعد أن ركزنا حتى الآن على موقف المتفرج بالنسبة لمجال نظام خشبة المسرح – القاعة، أختم بالانتقال الى موقف المؤدي، لأن المؤدي، في مثل هذا النوع من مباني المسرح التي تتسم بنقطة بؤرية مركزية، هو الذي يقف ( ويعمل) في هذه النقطة. ويمكن وصف الفرق بين النوعين : يميل فراغ مقدمة خشبة المسرح المتجه الى الأمام الى جذب المشاهدين الى عالمها، بينما الفراغات الموجهة مركزيا يبدو أنها تدفع المؤدي الواقف على خشبة المسرح الى الخارج باتجاه القاعة (57). ويؤكد هذا ديفيد تايلور الذي وثق عملية اعادة انقاذ مسرح ريجينسي في بريطانيا، والمسرح الملكي في بيري سانت ديدموند : 
 أينما وقفت على مقدمة خشبة المسرح، أذهلتني بصريات القاعة المضيئة ، التي تضغط في اتجاه الممثل لدرجة أن ظهور صناديق الملابس تبدو على مسافة قريبة. فالتنظيم المعماري للمسرح ينهار في المساحة بين الممثل والجمهور بحيث يصبح تقديم التفاعل بين الاثنين ليس ممكنا فحســب بل أيضا لا يمكن تفاديه. 
ويملك مسرح الجلوب عنصرا من هذا النوع، ويلي ذلك ( لأنه أتيحت لي الفرصة للملاحظة) أن المنظورات من نقطة وقوف المؤدي والمتفرج مختلفة تماما ؛ ولا يمكن وصفها في الواقع ببساطة بأنها « عكس بعضها البعض «. فالنظر خارج خشبة المسرح هو تجربة مختلفة تماما عن النظر في الاتجاه الآخر ؛ فهما مختلفان في اطار توجههما. واذا كان مطلوبا أن نخمن المسافة من كلى الاتجاهين، فلن يكون التقديران متزامنين: من خشبة المسرح الى الخارج تعتقد أنك قريب جدا، بينما عند النظر من القاعة الى خشبة المسرح تشعر أنها أبعد. ومن منظور المؤدي على خشبة المسرح، يبدو عالم المسرح كله موجه نحوهم. 
............................................................................
 • هذه المقالة هي الفصل الثاني من كتاب «عمارة المسرح كمساحة متجسدة» 
تأليف ليزا ماري بوللر .


ترجمة أحمد عبد الفتاح