انهيار الإنسانية في وصفة للاستمتاع بالقتل

انهيار الإنسانية في وصفة للاستمتاع بالقتل

العدد 877 صدر بتاريخ 17يونيو2024

كيف للإنسان أن يحيا في عالم مظلم ومتخبط. عالم لا يعرف إلا الحروب والخراب. عالم أفسدته التكنولوجيا وأدى به العلم إلى هاوية الإنسانية بدلا من أن يرقى به. عالم لا يعرف إلا لغة المال والنفوذ وسيطرة أصحاب المصالح والسلطة.
في مسرحية «وصفة للاستمتاع بالقتل» للكاتب/ إبراهيم الحسيني, يفشل آدم بطل المسرحية في التوافق الواقعي والنفسي مع كل المعطيات السوداوية التي لا يرى فيها غير القتل والخراب والدمار. فقد وقع في الهوة التكنولوجية التي دمرت كل المشاعر الإنسانية. مما أدى به إلى محاولة الانتحار للتخلص من تلك الحياة البائسة المستحيلة. لكنه يفشل أيضا في الانتحار مع تكرار المحاولات وتعدد الوسائل. 
يعيش آدم في عدة عوالم مختلفة تتداخل فيما بينها وتؤدي لارتباكه. عالم واقعي سوداوي جدا يقوده إلى عالم نفسي كئيب ويدفعه إلى عالم الكوابيس والأحلام. حتى يصل إلى العالم الافتراضي, فهو في حياته الواقعية لن يقدر على ممارسة أي فعل إيجابي بل يظل سلبيا. وهنا يصل بنا المؤلف/ إبراهيم الحسيني إلى توظيف الثورة التكنولوجية في سير العمل الدرامي بشكل عميق يلج إلى داخل الشخصية الدرامية ويكون عاملا أساسيا في تحريك الحدث الدرامي بشكل فاعل حتى النهاية.
استطاع المؤلف أن يضع أمامنا تلك العوالم المختلفة لتدور من خلالها الأحداث بشكل متداخل. فيبدأ النص بعالم الأحلام حيث يرى أدم كابوسا يعبر عن تفحل التكنولوجيا وسطوتها على ما هو بشري من خلال عدة نماذج (تألم العصافير- أزيز أجهزة الكترونية محطمة- رجل يقبل روبوت أنثى- لعب الأطفال بالكيبورد كأنه مضرب للتلاعب بالرأس البشري- هجوم مسلح من روبوتات على المكان) ويصاحب هذا صراع الناس للبحث عن المياه ونعيق الغراب. ونكتشف أن كل هذا عبارة عن كابوس يصيب آدم، وأنه سلسلة من كوابيس متكررة تمثل عاملا من عوامل رغبته في التخلص من حياته .
إن عالم الأحلام هو عالم غير منطقي وغير مترابط. ويرى ”فرويد” أن الأحلام وسيلة تلجأ إليها النفس لإشباع رغباتها ودوافعها المكبوتة, خاصة عندما يكون إشباعها أمراً مستحيلاً في الواقع. وأن الحلم يبدي لنا بعض الجوانب الأساسية في الشخصية. وأن المضمون الظاهر في الحلم، يخفي وراءه مضموناً كامناً خلف رموزه التصويرية. ويمكن القول هنا إن الكاتب قد جنح إلى السريالية في تشكيل خيوط نسيج العمل, فقد اعتمد السرياليون في أعمالهم على الأشياء الواقعية في استخدامها كرموز للتعبير عن أحلامهم والارتقاء بالأشكال الطبيعية إلى ما فوق الواقع المرئي بهدف التعبير عن العقل الباطن بصورة يعوزها النظام والمنطق. والسريالية تستند  إلى اللاوعي وتحلق بنا إلى ما وراء الحدود المألوفة والتي تمزج بين تجارب العقل الواعي والعقل الباطن.
وقد عبر النص عن سيكولوجية أدم  من خلال عدة لوحات تشكيلية مشهورة غطت حوائط غرفته كلها تعبر عن مآسي الحروب مثل الصرخة والجرنيكا وكرونوس يأكل أبناءه وغيرها. وهذا التوظيف الشكلي لفضح دواخل شخصية البطل للمتلقي ليس جديدا على المؤلف/ إبراهيم الحسيني فقد استخدمه من قبل في عدة أعمال . لكن الاختلاف والجديد هنا هو التفاعل بين اللوحة وبين البطل حيث يخرج بطل لوحة الصرخة من داخلها ليتحدث إلى أدم ويصبح أحد شخصيات العمل الفاعلة حيث يجادله ويطرح رأيه محاولا طرح خبرته بالشقاء الأزلي والمعاناة الأبدية لأدم بل وينصحه أيضا( لا تفرح كثيرا كي لا تحزن أكثر) لكن أدم يرفض نصائحه، إن ما حدث هنا هو التعبير عن الصراع الداخلي لأدم بين الأنا والهو حتى لا يستطيع تحمله فيختفى بطل الصرخة من أمامه أو من مخيلته بتعبير أدق. 
مع محاولة جديدة فاشلة للانتحار بتفجير قنبلة تتجلى الشخصية المقابلة نوال وهي شخصية محورية دفعت الحدث الدرامي للتطور للنهاية حتى يبلغ أدم غرضه بتحقيق الموت الرحيم أو الانتحار بأفضل وسيلة. نوال تظهر في عمق المسرح في كل المشاهد بعد ذلك مما يمنحها دلالة أكبر على قوة الشخصية والسيطرة لاسيما أنها دائما تأكل وهي تتكلم تعبيرا عن الاستعلاء والثقة بالنفس كما انها صوت الشركة الاستثمارية للانتحار، فهي هنا تعبير عن تفشي سيطرة رأس المال المستغل للظروف الإنسانية لتحقيق رغبته في التضخم على جثث البسطاء . وتمارس نوال مهمتها بسلاسة من خلال توظيف شخصيات متعددة تمثل أسنان عدة لتروس في ماكينة القهر الإنساني واغلب هذه الشخصيات نسائية وهن ثناء ودارين وشاهستا ومعهم شهاب. لنكتشف في النهاية أن كل هذه الشخصيات تدور في فلك واحد نحو الوصول بأدم إلى أسلوب الانتحار باستمتاع. بتلقي المتعة والغرق فيها حتى يقتل نفسه دون أن يشعر.
لقد استدرجت نوال أدم لعقد اتفاق حول تنفيذ القتل الرحيم دون أن يعي أنه سيتم تنفيذ هذا فعلا. ويؤكد هنا المؤلف على مفردات العصر التكنولوجي الذي نعيشه من حيث تقديم خدمات تلك الشركة من خلال وسائل التواصل الحديثة بالإنترنت بعقد الاتفاق وسداد الرسوم المطلوبة من خلال رقم حساب بنكي. إذن كل شيء مهيأ لأدم وهو في مكانه وتوفرت له سبل الراحة دون عناء حتى يتم تنفيذ المهمة.
الأدهى من ذلك أن التنفيذ قد بدأ سريعا جدا بمجرد توقيعه حيث وصلته شحنة بريدية في الحال لا يعرف كنهها ولا مصدرها حتى يصل شهاب ليصعد بنا درجة جديدة في المسار الأحداث لنعرف أن هذه الشحنة هي جهاز مشاهدة معايشة العالم الافتراضي.  وتلك هنا نقطة فارقة لأن هذا الجهاز هو الوسيلة التي من خلالها تمت المهمة بالاستمتاع اللذيذ بالقتل وهي تعتبر مهمة خادعة لآدم وناجحة لأنه لم يتوقعها أبدا حتى تم تنفيذها.
أما الشخصيات النسائية التي هي مجرد خطوات للوصول إلى طريق النهاية، الأولى ثناء لم تتعامل كأنثى بل هي تقوم بمهمة محددة لتركيب وتشغيل الأجهزة استعدادا للدخول في العالم الافتراضي بل وتوضح لأدم ماهية التعامل مع الجهاز (يمكنك باستخدام النظارة إشباع رغباتك، تحقيق أمنياتك وكل ما تريد) إذن هي مهمتها أن تثنيه عن التفكير في الانتحار بنفسه وأن تشوقه لاستخدام نظارة ولاب توب الدخول إلى العالم الافتراضي. وهي حادة وحازمة جدا. وكما يصفها المؤلف هي ماكينة متحركة لتنفيذ التعليمات.
الشخصية الثانية نحو الهدف هي دارين تبدو له داخل العالم الافتراضي بعد أن يرتدي نظارة ال VR . ودارين مجرد أداة نحو تحقيق نهاية أدم باستغلال أنوثتها وجمالها من خلال الرقص معه بين الأشجار والطيور والعصافير، حتى تبدأ في إملاء شروطها عليه لينال رغباته ونزواته كرجل فتطلب منه اقتصاص الورود وقتل العصافير كدلالة للتخلي عن السلام والخير وقتل البراءة وكل ما هو جميل. في المقابل تضاء لوحة الحرب. حيث يطرح المؤلف تصورا جديدا بتفاعل اللوحة مع الحدث من خلال الإضاءة (مع كل وردة يقتلعها آدم يطفأ أحد وجوه اللوحة، الأم ثم الابنة الكبيرة، بينما ترتعش الإضاءة ولا تطفأ على البنت الصغرى وتظل كذلك حتى تختفي اللوحة) وهكذا يعمل دائما على إدراج شخصيات اللوحات في تفاعل مع الحدث في أكثر من موضع. لكن دارين هنا ليست سوى أداة تحركها نوال في خطة الموت الرحيم ويصفها المؤلف بأنها ترس في ماكينة أخرى أقل ذكاء. وتتبدل ثناء بدارين وهي في حضن آدم لكنه لا يبالي طالما حصل على المتعة والسحر وكما يقول: كل الأمنيات محققة بضغطة زر.
ونلاحظ دائما حضور نوال في خلفية المشاهد دائما لتقود الأحداث وهي تأكل بشراهة للإيحاء دائما بأنها تلتهم حياة البشر البسطاء وأمنياتهم وأحاسيسهم واستقرارهم وكأنها تلتهم لحوم البشر. وبجانبها دائما عازف أعمى تقوم بممارساتها على أنغامه فهو لا يرى ما تفعله من شرور لكنها وظفته ووظفت موسيقاه التي من المفترض أنها تعبر عن الرقي والتحضر والمشاعر والأحاسيس المرهفة، وظفتها في سبيل شرورها وارضاء الأطماع والنزوات.
 (هل زحف العالم الافتراضي على الواقع وقتله) تساؤل مهم يلقيه آدم على شهاب يعبر عن أحد الأفكار الرئيسة التي يطرحها النص المسرحي، فقد أصبح عالمنا عالم وهمي متخيل فصلنا عن واقعنا وعن حياتنا الحقيقية بما نملك فيها من مشاعر حقيقية وأحاسيس وأفكار وعلاقات اجتماعية تمثل عصب الحياة للإنسان، فقد انتهى كل ذلك وقضي عليه تماما في عصرنا الحالي فانهارت العلاقات الاجتماعية والأسرية والمشاعر بين الناس، فقدنا كل ما يربطنا بالواقع مهما كانت قسوة هذا الواقع. وهنا في هذا النص يقع آدم فريسة الهوة التكنولوجية. 
ويأتي شهاب مؤكدا (كثيرا ما يحدث هذا التداخل بين العوالم) ويمثل خطوة تصاعدية جديدة في طريق موت آدم معبرا عن سمات العصر، فقد حصل آدم على شركة مقابل تمثيله ببعض الجثث، فهنا تتم الصفقات الخبيثة, كي تحصل على مكافأة أو منحة عليك ممارسة جزء من الشرور. مقايضة الخير بالشر. يظن آدم طوال المسرحية أنه يقوم بهذا في عالمه الافتراضي فقط دون أن يدرك هذا التداخل بين العوالم حتى أن أفعاله ايضا تتداخل دون أن يعي ذلك. ويعبر شهاب والموظفين الثلاثة هنا عن الانهيار الانساني من حيث سيطرة التكنولوجيا، واندثار القيم، وانتشار الدمار، فالموظف1 يتحدث عن تجهيز خط إنتاج جديد ليغزو الروبوت العالم، ويتحدث موظف2 عن شركات المتعة وتنظيم رحلات جنسية،  ويتحدث موظف3 عن وجوب صنع حرب للتخلص من عدد من سكان العالم. لكن آدم مازال مغيبا او مخدوعا حيث يصيح (نحن هنا للمتعة وليس للحرب).
ثم تأتي شاهيستا المرأة الثالثة في فريق نوال للانتحار، لتضع آدم على درجة جديدة من درجات سلم الانتحار أو القتل الرحيم، في حين يتم فصل الموظفين في حلقة أخرى للقهر والظلم الإنساني، يتمدد آدم لشاهيستا للتدليك والمتعة، فيدفع المؤلف هنا بصورة جديدة من اللوحات العالمية حينما يتساءل الموظفون تعقيبا على فصلهم (كيف نكون جزءا من اللعبة ويتم الغدر بنا وطردنا؟ هل يأكل الأب أبناءه؟) فتتجسد لوحة كرونوس يأكل ابناءه برجل عجوز يأمل طفلا صغيرا بوحشية تتناثر دماءه لتغرق المشهد، عندما تضاء اللوحة في نهاية المشهد مصاحبا لالتهام نوال للحم نيء. مع صمت الموظفين واستسلامهم للظلم والقهر.
بين كل تلك الأحداث ومن خلال مشاهد شخصية كامل البقال انتقد المؤلف الاوضاع الاقتصادية والسياسية المزرية التي يواجهها البشر في عالم الواقع، حتي انتشر الموت ومعارك البلطجة، وارتفاع الاسعار، واقتتال البشر للحصول على رغيف الخبز، واستبدال العمالة البشرية بالآلات التكنولوجية. يقول كامل ( ألم يكن من الأفضل استيراد القمح والأدوية بدلا من هذه الروبوتات التي بدأت تغزو بلادنا؟). ثم حكايته عن صعوبة الحياة للفقراء وما يواجهونه من معاناة أمام الروتين والانظمة الحكومية وبلطجة اللصوص فيما حدث للسيدة حسنية حتى سرق منها كارت فيزا المعاش ثم طلب منها أن تثبت انها على قيد الحياة. 
يستغرق آدم في عالمه الافتراضي بشدة حتى أنه يرفض إعطاءها لكامل قائلا (إنها الشيء الوحيد الذي يهون علي مرارة الواقع) دون أن يهتم بالجوع الذي يكاد يفتك به. وتظهر له ثناء مرة أخرى في تصعيد جديد نحو نهايته حيث تطلب منه قتل ثلاثين حارسا ليحصل على بناية ضخمة مكونة من ثلاثين طابقا وهو مازال مخدوعا  وهو يردد (سأقتلهم داخل اللعبة . أنا لا أريد أن أقتل خارجها) ويستجيب آدم ويقتلهم كما قتل الورود والعصافير لتتناثر الدماء مختلطة بقطع لوحة الجرنيكا. وهنا أيضا يتداخل العالم النفسي لآدم من خلال اللوحات التشكيلية مع العالمين الافتراضي والواقعي وتزداد متعته. مندهشا ومتسائلا عن لماذا تقل متعته كلنا زاد العنف؟ وهنا يواجه دارين التي لابد أن يقتلها ليحصل على متعة أكبر. نكتشف في النهاية أن  نوال قد نفذت تعاقدها معه للنهاية وادت به فعلا إلى أسلوب رحيم للانتحار دون معاناة. 
يستجمع الكاتب في النهاية أوراقه ليغلق الدائرة التي فتحها في بداية المسرحية، ويطلق أدم رصاصاته على الجميع ويسقط على الأرض،  ويصحبه الرجل المسن ذو اللحية البيضاء ويزفه الورود والعصافير حتى يصعد ليتخذ مكانه في اللوحة الفارغة معلنا استغاثته للعالم. 
لقد أغلق الكاتب دائرته الدرامية بعد ان سلك طريقا أرسطيا من بداية ووسط ونهاية بتصعيد درامي سلس اعتمد على التصاعد السيكولوجي للبطل لكنه جنح به نحو عوالم مختلفة ومتشابكة نجح في رسمها بدقة وكانه يرسم لوحة تشكيلية اكتملت في النهاية بوضع رتوش عميقة ذات دلالات درامية متعددة. وقد استخدم الكاتب هذا الأسلوب من قبل في مسرحيته (ظل الحكايات) مع اختلاف الفكرة وتوظيف الأحداث حيث استخدم في ظل الحكايات الأساطير القديمة، أما في وصفة للاستمتاع بالقتل لجأ إلى توظيف مفردات العصر الحديث والتكنولوجيا.
من أهم النقاط التي ارتكز عليها إبراهيم الحسيني في هذا النص هي الاعتماد على توظيف اللوحات التشكيلية العالمية كما ذكرنا من قبل حتى صارت اللوحات جزءا أصيلا من شخصيات العمل وتمثل خيطا مهما من الخيوط الدرامية للعمل. 
وهذه اللوحات تبدأ بلوحة الصرخة وهي لها النصيب الأكبر للمشاركة في دراما النص، وهي تعبر عن تصور الخوف والقلق الوجودي عبر تموجات من حمرة السماء وزرقة البحر وسواده، وينضم إليهما مونش، بملامح مرعبة تشبه جمجمةً بعد الموت، صارخًا فوق جسر وكأنه جزء من تلك الموجات ذات الرهبة، وكأنهما يعبران عن اضطراب الطبيعة وهو يرمز إلى اضطراب البشر النفسي. وهنا كما ذكرنا من قبل قام الحسيني بتوظيف جديد ومختلف بخروج بطل اللوحة منها وحواره مع أدم وتبادل الأفكار ليس لمجرد التواجد بل تكرر هذا التفاعل عدة مرات إما لتوجيه وتنبيه آدم أو للإشارة او للدلالة حتى أنه يضحك بهستيرية ذات مرة ساخرا مما يحدث لآدم. اذن فقد ابتكر الكاتب شخصية لها عمق دلالي سابق من الفن التشكيلي واستخدمها دراميا بدهاء وخبرة.
واللوحة الثانية لوحة «كرونوس يأكل ابناءه “للإسباني جويا، وهي هنا ليست مجرد لوحة تسجيلية لأسطورة من الأساطير، فهي هنا تعبر عن الظلم والقهر، والعنف، والاستبداد والفساد وجنون السلطة  وهى أمور تتسم باستمرارية الحدوث والتكرار في حياة الناس والتاريخ. وجسدها الكاتب هنا بتحريك العجوز الأشيب وهو يأكل طفلا صغيرا بوحشية بينما تتناثر دماءه لتغرق المشهد.
ثم لوحة مذبحة خيوس وهي الحرب التي وقعت في جزيرة خيوس، هي لوحة مأسوية تعبر عن الألم والوحشية،  وتصور اللوحة الدمار الذي وقع في تلك الحرب وآثار الهجوم العثماني على سكان الجزيرة، ويظهر فيها ثلاثة عشر شخص، وقعوا أسرى، بين رجال ونساء وأطفال، منتظرين إحدى المصيرين، القتل، أو الأسر والاستعباد، بعدما مات الألاف من ذويهم من اليونان على أيدي الأتراك. وقد قام الكاتب في هذه المسرحية ببث الروح فيها للتعبير عن العالم المظلم المحيط بآدم من خلال ظهور رجل مسن بلحية بيضاء طويلة وهو يسير بين شخصيات الصورة في هدوء ويبتسم للشخصيات في الصورة ويتجه إلى آدم. وفي المشهد الأخير يمسك بآدم ليقوده إلى مثواه الأخير. فها هو الموت يأتيه في شكل جميل ومريح للنفس.
أما توظيف اللوحة الرابعة وهي لوحة الحرب للبلجيكي لويس جاليت. وهي تصور أما ميتة هي وابنها الصغير الممدد على صدرها بينما الابنة الأصغر تحاول التشبث بآخر رمق للحياة، فقد وظفها الكاتب من خلال المشهد الثالث الذي وضع عنوانه (من يقتل وردة يقتل إنسانا) وشارك اللوحة بالحدث الدرامي مع كل وردة يقتلعها آدم تطفأ أحد وجوه اللوحة حتى تبقى على البنت الصغيرة حيث ترتعش الإضاءة ثم تصرخ في نهاية المشهد. وأستطيع أن اقول إن تلك المشاركات ليست من قبيل الملاحظات للمخرج  أو مجرد هوامش للنص لكنها من صميم دراما النص المسرحي، فإذا حذفت سيحدث خللا في فكر المؤلف.
ورغم أن لوحة الطفل الباكي للإيطالي جيوفاني براغولين بما تتضمنه من تعابير وأحاسيس عن الرحمة والشفقة لملامح الطفل الحزينة وعينان الدامعتان، للتعبير عن الحزن الدائم الذي لا ينتهي أبدا, لم يكن لها مشاركة حية لكن دموع الطفل صارت معادلا موضوعيا لدموع آدم في النهاية أثناء موته، فدموع الطفل وحزنه على احتراق أبيه أمام عينيه، تتعادل دراميا مع دموع آدم وأحزانه وكأن آدم يتألم لاحتراق حياته كلها بين كل هذا السواد والخراب والقهر  الإنساني والظلم وكان حزنه مثل الطفل ودموعه هو حزن أبدي ودموع متكلمة.
كما كان للوحة الجرنيكا لبيكاسو، الذي رسمها للتعبير عن الألم الكبير الذى أصاب الشعب الإسباني في عام 1937 جراء القصف الذى تعرضت له بلدة جيرنيكا. وتعرض مأساة الحرب والمعاناة التي تسببها للأفراد، كان دورا تأثيريا حيث تتكون وتتشكل عبر تكون ركام تساقط الورود والطيور والفتيات الحسناوات لقطع صغيرة ثم تتساقط سيول الدماء عليها، فكان تعبيرا عن الوحشية والخراب والدموية التي قام بها آدم.
وهكذا نجد أن الكاتب هنا قد اختار أسلوبا مغايرا في التعبير عن أفكاره بتوظيف لوحات الفن التشكيلي بدلا من طرح شخصيات تتحاور مسرحيا، وأعتقد أن هذا الاسلوب حتى وإن كان قد استخدمه أي كاتب من قبل (ليس لدي أي معلومة بذلك) فهو تجريب في أسلوب الكتابة وتجديد للغة خطاب النص المسرحي يضفي ثراء فنيا وعمقا موضوعيا وجمالا شكليا على النص، إضافة إلى أنه يثري خيال المخرج ويثير إبداعاته عن تصدره لإخراج مثل هذا العمل المسرحي.


أحمد محمد الشريف

ahmadalsharif40@gmail.com‏