العدد 881 صدر بتاريخ 15يوليو2024
الحديث عن الأديب والناقد والمسرحي الكبير «عبد الغني داود» هام ليس فقط من أجل تعريف الأجيال بمنجزه الفكري، ولكن من أجل دعمهم نفسيا، فهذا الرجل لم يكف عن الكتابة للحظة واحدة لمدة 65 عاما منذ كان طالبا بالجامعة وحتى رحيله قبيل أيام، رغم أنه لم يحظ بما حظي به من هم دونه موهبة وعمقا! كما أنه لم يتوقف لحظة عن مد يد العون للكتاب والمبدعين الشباب بل وتبني بعضهم أيضا!
في روايته «مالك الحزين» قدم إبراهيم أصلان مرثية لمثقفه المهمش «يوسف» الذي عاش في مجتمع لم يعره اهتماما، هذه الإشارة مهمة لنفتتح بها هذه المقال عن الأستاذ “عبد الغني داود” الذي عاش حياته يرثي الكثير من المثقفين والمبدعين المهمشين ممن لم ينالوا حظهم من التكريم والانتشار رغم جودة انتاجهم فكان كتابه الهام: «مبدعون بلا نقاد» والذي صدره بتلك الكلمات:
“هنا – في هذه المجموعة من القراءات سنجد أجيالا مختلفة في عالم الرواية والقصة القصيرة، وهي أجيال لم تحظ باهتمام النقاد كما حظي غيرهم من الكتاب.. فيما عدا كاتب أو أثنين.. لعلنا – في هذا الكتاب – نكون قد قدمنا لهم بعضا من زهور المحبة والتقدير جزاء عطاءهم الثري الكريم..”
ويبدو ان عبد الغني قد شعر بأن هويتنا هي الأخرى مهمشة!! وتراثنا يتم اقصاؤه!! فكان رهانه منذ بواكير تجربته على احياء هذه التراث مسرحيا فعمد الي استلهام نصوصه وانحاز لمسرح الثقافة الجماهيرية (المسرح الإقليمي) مقدما اياه كبديل
قدم عبد الغني من قريته «الغاب» بشمال الدلتا في عام 1957 والتحق بقسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب جامعة عين شمس، وفور وصوله كان على موعد مع قدره الذي سيغير حياته. يقول: «شاهدت مسرحية “وراء الأفق” في موسم 1957 – 1958 ليوجين أونيل قدمها المسرح العالمي على خشبة المسرح القومي ومن إخراج الشاب -وقتها- كرم مطاوع فسحرني المسرح وشدني عالمة الفاتن، وكنت قد جربت من قبل كتابة القصة القصيرة والشعر وأقدمت على كتابة مشروع رواية، لكن سحر المسرح ألقى بكل هؤلاء جانبًا”
هكذا اندفع الي الكتابة المسرحية وساعدته دراسته للأدب الإنجليزي على الاطلاع علي أعمال كتابه الكبار فـ»جربت إعداد نص «راكبو البحر» للأيرلندي (جون ميلنجتون سينج (، وهو نص من فصل واحد يعده النقاد أفضل تراجيديا مسرحية من فصل واحد في العالم» وهو اقتباس كاشف لطريقة اختياراته المبنية علي أراء نقدية علمية وليست أهواء شخصية وسوف تلازمه هذه الصفة طيلة حياته.
ورغم دراسته للأدب الإنجليزي الا انه فضل الأدب الشعبي يقول: « عدت أبحث عن منبع حقيقي يمتد في جذورنا بحثًا عن شكل أًصيل لمسرحنا يختلف عن ذلك المسرح الغربي الذي ندين له بالتبعية، والشعور بالدونية تجاهه، فعدت إلى المواويل والأغاني الشعبية والسير الشعبية ، وبخاصة )السيرة الهلالية ( التي قضيت معها الليالي الطوال مع شعراء السيرة الهلالية في أقاليم الدلتا وبخاصة الشاعر الشعبي محمد عبد السلام الذي أثر كثيرًا في تلقي هذه الملحمة الرائعة، وكتبت أولى تجاربي في كتابة الفصل الواحد فمي مجموعة «شجر الصفصاف» التي ل يتح لها النشر إلا في عام 1981 فمي محاولة للبحث عن لغة مسرحية جديدة من الموروث الشعبي”
كان حرصه على لغة “تأخذ ممن الفصحى جمالياتها ومن العامية جمالياتها” هو دافعه لتقديم “لغة ذات خصائص احتفالية أو طقوسية، وهي لغة أقرب إلى لغة الاحتفاليات الشعبية تقوم على العامية الفصيحة في مفرداتها وتراكيبها وليست غريبة عمن المتلقي، وتبرز الجانب (الأدبي) العام الذي تكمن فيه روح المسرح، ودونه يصبح المسرح مجرد آليات وتقنيات شكلية ب روح” فجاءت مسرحياته: “شجرة الصفصاف” 1981، “الخليفة” 1984، “الموكب” 1987، وجميعها كتبت في الستينيات والسبعينيات. ومن السيرة الهلالية قدم خماسية «غريب في بلبيس” 1987 “الجازية الهلالية» 1995 «السفيرة عزيزة» 1996 «غريب بلاد المغارب» 2008 «ديوان الأيتام” 2009 وعنها يقول «هي أعمال تتناول مآسي التفكك العربي ونعرات التعصب والقبلية والانهزام أمام الغزو الأجنبي، وكتبت في فترات الستينيات والسبعينيات والتسعينيات وما بعد عام 2000 “ ومن التراث العربي المكتوب استلهم مسرحية «اللعنة فوق المنبر» 1994 وحصلت على جائزة أبو القاسم الشابي في تونس.
رغم ذلك فقد ظلت أعماله تقدم في مسرح الثقافة الجماهيرية فقط عن ذلك يقول: “أما مسارح القاهرة فظلت أبوابها مغلقة في وجهي وفي وجوه الكثيرين غيري ممن ليس له الحظوة عند أهل الحل والربط من سدنة الإقطاع البيروقراطي، وظلت النصوص حبيسة الأدراج سنوات وسنوات.”
هذا التهميش الذي شعر به دفعه للانحياز الي باقي المبدعين من المهمشين نقديا أمثال سعد مكاوي قاصا وروائيا وكاتبا مسرحيا. ويوسف جوهر وعبد الرحمن الشرقاوي – قاصا وروائيا. وأمين ريان.. روائيا وقاصا. ومحمد كمال محمد قاصا وفوزية مهران روائية. ومحمد مستجاب. فعكف علي كتابة الدراسات عن أعمالهم. ثم دراسته عن جيل الثمانينات من المخرجين ليطرح “سؤالا حيويا حول فن الإخراج المسرحي في مصر، وهل بالفعل قام ويقوم على أصول فنية وعلمية، أم تعرض في كثير من الأحيان للارتجال والفهلوة والشطارة، فعندما نتابع أساليب الإخراج المسرحي منذ ما بعد الستينيات وحتى الآن نجد أنه قد شهد ظواهر سلبية كثيرة لدرجة أن مخرجينا الذين سافروا إلى الخارج في بعثات علمية منذ أوائل الخمسينيات قد عاد بعضهم ليقدموا لنا نسخا مكررة من تلك العروض التي شاهدوها في الخارج، وحاولوا تقليدها مع إضفاء الصبغة المصرية عليها.” وقد استعان بالمنهج الاحصائي بها رغم تأكيده أن هذا المنهج لن يعجب الكثير منهم. وتتناول هذه الدراسة (إحصائيا وبشكل إجمالي(عروض خمسة وأربعين مخرجا مسرحيا مصريا قدموا خلال فترة الثمانينيات وما بعدها )ثلاثمائة وأربعة وأربعين( عرضا مسرحيا علي مدي حوالي اربعين عاما، وبعد استعراض مخرجي الثمانينات وعدد أعمالهم يخلص الي نتيجة هامة :
“ وبخلاف هؤلاء المخرجين الذين لم يستطيعوا أن يقدموا سوى هذا العدد القليل من العروض، لم يبقى من جيل الثمانينيات سوى (ناصر عبد المنعم) سبعة وعشرون عرضا حتى عام 2015، و(مراد منير) ثلاثة عشر عرضا حتى 2014، و(هشام جمعة) إحدى عشر عرضا حتى عام 2017، و(عصام السيد) ستة وأربعون عرضا حتى عام 2014، و(محمد الخولي) أربعة عشر عرضا حتى عام 2018، و(عمرو دوارة) الذي قدم تسعة عشر عرضا مسرحيا حتى عام 2009.”
مسرح الأقاليم والمخلص المهمش
كما رأي عبد الغني أن تراثنا مهمشا فقد كان رأيه ان هذا المهمش هو المخلص الذي سيملأ المسرح فنا كما ملء رداءة فها هو كتابه يستهل كتابه بتساؤل حول ما إذا كان المسرح الإقليمي ومسرح الهواة سيصبح هو المسرح البديل؟
وفي سبيل الإجابة لا يكتفي بالتنظير فهو يغوص في واقع هذا المسرح، ففضلا عن بحثه عن هوية للمسرح الإقليمي، يتحدث عن: مهرجانات المسرح الإقليمي وجوانبها السلبية، وعن مشاكل المخرجين واللجان ومبدعي المعادل المرئي والتشكيلي و صانعي الجانب الصوتي في المسرح الإقليمي، وعن حيرة الكاتب المسرحي و هزليات التليفزيون والكتابة المسرحية وصولا الي الممثل في مسرح الهواة والمسرح الإقليمي والوصول إلي محطة الاحتراف وتأثير ذلك كله علي الحركة المسرحية.
بعدها يدرس عبد الغني هوية مسرحنا العربي من خلال دراسته لأعمال عدد من كبار كتابه هم
“إبراهيم حمادة” فيصفه بأنه عالم كبير من علماء فن الدراما العربية و”أسامة أنور عكاشة” وعنه يقول: عشق المسرح فعشقته الدراما التليفزيونية، و “الشريف خاطر” فيصفه بأنه يفتح النوافذ على المسرح العالمي و “رأفت الدويري” فيصفه بالكاتب الذي أدركته حرفة المسرح، و”سعد مكاوي” كاتبا مسر حيا و الكاتب التونسي “عز الدين المدني” مستعرضا تجربته في التأصيل والتجذير في مسرحنا العربي، فضلا عن المفكر “عبد الغفار مكاوي” والأكاديمي “فوزي فهمي”. ثم يحاول الإجابة عن سؤال: لماذا كتب “نجيب محفوظ” للمسرح بعد هزيمة يونيو 67؟
ولم يقتصر بحثه عن الخلاص على المسرحي علي مفردات تراثنا الشعبي بل سعي الي الاطلاع علي تجارب الآخرين من خلال ترجمته مع المترجم أحمد عبد الفتاح لكتاب المسرح البديل لـ»”مايكل ?اندين هي?ل” أستاذ اللغة الإنجليزية والعلوم الإنسانية بجامعة ولاية أريزونا
يتناول هذا الكتاب التفاعل بين أداء الطليعة والتيار الرئيس فى المسرح المتجه إلى النص الدرامي إذ يبدأ المؤلف بسرد تاريخي للمسرح الأمريكي البديل منذ نشأته مع الطليعة فى الستينات، مرور بالأعمال التنظيرية والشكلية والتجريبية خلال السبعينات وبذلك يشير إلى كيفية أن هذين الخطين بدأ يظهران ببطء، بحيث أتاحا لفناني المسرح المعاصرين الفرصة لتضفير عناصر كل من العرض والدراما لتقديم أعمال إبداعية متكاملة.
من خلال تحليل «مايكل ?اندين هي?ل» نجد أن مسرحيات «بيكيت – وهى النصوص ذات الأصل الدرامى – قد تم استبدالها بأعمال ذات أصل تمثيلى، وأعيد استيعابها فى عروض مسرحية لإنتاج أشكال مسرحية متكاملة، ومسرح أكثر نضجا وأكثر ارتباطا بالبيئة سياسيا واجتماعيا.
ومن خلال العرض الذى قدمته فرقة «ووستر جروب Wooster Group والذى يحمل عنوان «الأوبرات المرئية Visual Operas « وهو من تأليف «روبرت ويلسون Robert Wilson « بالإضافة إلى مسرحيات الكاتب الأمريكى «سام شيبرد Sam Shepard” يكشف المؤلف هذا التضافر بين الطليعة المسرحية والتيار السائد بشكل عملى. فكل فنانى المسرح هؤلاء بدأوا بالثورة على المسرح الذى يهيمن فيه النص الدرامى على العرض المسرحى، وهى ثورة ألقت الضوء على العرض المسرحى من اجل ذاته. ويعلق عبد الغني علي هذا التحليل قائلا: “ورغم ذلك فقد بدأ هؤلاء الفنانون المتمردون على النص الدرامى فى استيعاب العناصر النصية فى أعمالهم المسرحية لإنتاج توليفة جديدة مثيرة للجدال، يرى فيها “هي?ل” أنها صياغة لوعى بعد الحداثى Postmodern الذى يؤكد أن النسبية والشك والتكاملية والنقصان ليست مجرد مثاليات رياضية، بل هى المبادئ التى بدأت تؤسس لغتنا الثقافية، كما يقول الناقد «إيهاب حسن».»
ولم يتوقف عطاؤه عند المهمشين فها هو يطلق تحفته «مدارس في الأداء التمثيلي” وضم خمسة فصول جاءت كالتالي:
الفصل الأول: وعنوانه من الغناء إلى التمثيل وشمل: ليلى مراد ومحمد فوزى وعبد الحليم حافظ (العندليب) محرم فؤاد وعمرو دياب ومصطفى قمر. الفصل الثاني: وعنوانه مدرسة الأداء المرتجل ، والهزلى ، والكوميدى وشمل: بديعة مصابنى وعبد المنعم إبراهيم وفؤاد المهندس ومحمد رضا ومحمد هنيدى وعلاء ولى الدين وأشرف عبد الباقى. الفصل الثالث: وعنوانه مدرسة الآداء التلقائى وشمل: مديحة يسرى وكاميليا ونجاح الموجى. الفصل الرابع: وعنوانه مدرسة الأداء المنهجى واقتصر علي: كريمة مختار. الفصل الخامس: وعنوانه مدرسة الموهبة الفردية وشمل: نجيب الريحانى وفاتن حمامة وفريد شوقى ومحمود مرسى وأحمد مرعى وسعاد حسنى وأحمد زكى ويحيى الفخرانى. قبل ان يتبعه بجزء ثان تحرر فيه من التقسيم السابق للممثلين وتحدث عن - صناعة النجم في السينما المصرية من خلال النماذج: عقيلة راتب وأحمد سالم وكمال الشناوي ورشدي أباظة وأحمد مظهر وليلى فوزى وشريهان. فضلا عن دراسته عن الفلاح الفصيح أحمد مرعي والذي أحزنه رحيله المبكر قبل أن يقدم ما لديه.
المبدع والوظيفة ونموذج نجيب محفو ظ
في مسيرة الأديب المتميز ورجل المسرح القدير عبد الغني زكي داود، تماس وتقاطع بين الابداع والوظيفة وهي إشكالية الكاتب الذي يعلم ان دخل الكتابة لا يفتح بيتا أو يقيم أودا، فبعد تخرجه في كلية الآداب «جامعة عين شمس» عام 1962، عمل مدرساً للغة الإنجليزية لمدة عامين فقط 1962 - 1964، ثم التحق بالمؤسسة العامة للسينما، خلال الفترة 1964 – 1970وذلك تحت قيادة الكاتب الكبير نجيب محفوظ فتعلم منه فضيلة الابداع الي جوار العمل الحكومي، وزاد عليه بأن تقاطع عمله مع ابداعه، ففي عام 1970 التحق كباحث بالأرشيف القومي للفيلم، وليترقى بعد ذلك ليشغل منصب رئيس مكتب السيناريو بالمركز القومي للسينما، ثم مدير عام الأرشيف القومي للفيلم ليكتشف مدي الإهمال الذي نعانيه في التوثيق من هنا توجه جهده الي تكوين أرشيفه الخاص والذي أفاده كثيرا في دراساته النقدية وعلي رأسها كتابه: «الأداء السياسي لمسرح الستينات» الذي احتاج الي جهد ضخم ليحصر مسرحيات كتاب الستينات ويقوم بتحليلها وصولا الي رسالة النص السياسية. ميزة أخري ميزته مع زميل دراسته الناقد الكبير «فاروق عبد القادر» وهي تمكنهما من أدوات النقد الثقافي، فالواحد منهما كان بحق موسوعة في الإحاطة بالظروف التي أدت الي كتابة النص وانتاج العرض وربطه بتوجه المبدع وسلوكه العام، وقد استخدما هذه الأدوات منذ وقت مبكر قبل ان يصبح النقد الثقافي هو سمة هذا العصر.
رحم الله الأستاذ عبد الغني داود الذي لا تكفي مقالة واحدة للحديث عنه وأسكنه فسيح جناته بقدر ما أعطي دون مقابل.