العدد 881 صدر بتاريخ 15يوليو2024
بعد نجاح مسرحية «حكم قراقوش» قام الريحاني بعرضها خارج القاهرة في تياترو «الهمبرا» بالإسكندرية، وفي تياترو البلدية بطنطا، ثم عاد إلى مسرح «ريتس» وأعاد بعض عروض مسرحياته السابقة مثل: الجنيه المصري، والدنيا جرى فيها إيه، وغيرهما .. كل هذا تم خلال شهرين تقريباً، دون وجود أي نشاط مسرحي جديد ودون أي إعلان أو حوار حول العرض المسرحي الجديد!! وكانت المفاجأة أن جريدة «أبو الهول» نشرت إعلاناً خاصاً بعرض جديد للريحاني، ولكنه ليس عرضاً مسرحياً بل كان الإعلان لفيلم!! فقالت الجريدة تحت عنوان «فيلم الأستاذ الريحاني»: «يعرض الفيلم المصري «بسلامته عاوز يتجوز» الذي يقوم بأهم الأدوار فيه الأستاذ نجيب الريحاني والسيدة عزيزة أمير بسينما ديانا بشارع ألفي بك ابتداء من يوم الخميس 6 فبراير القادم».
وعندما تمّ عرض الفيلم كتب «متفرج» - هكذا وقّع على كلامه المنشور – مقالة نشرتها له جريدة «أبو الهول» في فبراير 1936، ونشرتها في صفحة «النقد المسرحي» رغم أن العرض كان فيلماً سينمائياً وليس عرضاً مسرحياً، مما يعني أنه عمل فني لا يدخل في نطاق موضوعنا الأساسي وهو «تاريخ مسرح نجيب الريحاني»!! ورغم ذلك فسأتناوله هنا لسببين: الأول أن النقد منشور في صفحة «النقد المسرحي» بالجريدة، والأمر الآخر أن هذا الفيلم يُعدّ من الآثار المجهولة للريحاني، فلا توجد منه أية نسخة حتى الآن، ولم يُعرض إلا في زمنه! كما أننا لا نعرف قصته أو أية معلومات عنه، وهذا يعني أن المقالة المكتوبة عنه تُعدّ أثراً نادراً يهمنا الكشف عنه للاستفادة مما فيها من معلومات!
يقول كاتب المقالة أو «المتفرج» تحت عنوان «الإخراج»: هذه رواية ظريفة كما رأيت، وهي لا تعتمد على المنطق في ترتيب حوادثها وتبويب وقائعها لأنها كوميديا، فإن المنطق يهدمها هدماً ولا يجعل فيها روحاً ولا حياة لكن عدم رعاية المنطق لا يحول بين تحاشي الأشياء غير المعقولة أبداً، ولا يحول كذلك دون إظهار الأشياء على حقيقتها ورعاية منطق الرواية العام نفسه. مثال ذلك أنه من الجائز جداً أن رجلاً عمدة يفكر في الزواج من مصر فيكون نصيبه السخرية به والهزء منه، ففكرة الرواية معقولة ومقبولة لكن الوقائع التي تحدث ليس من الضروري مراعاة المعقول والمقبول فيها وإلا فقدت سحرها وروح النكتة فيها. ومثال ذلك أيضاً أن من الجائز جداً كما جاء في مبدأ الرواية أن تحدث مشادة وملحمة بين خادم العمدة والبوسطجي بخصوص الخطاب الموصى عليه لكن ليس من الجائز أبداً أن يكون بوسطجي الأرياف في هذا المظهر النظيف نوعاً ما وليس من الجائز أيضاً أن يسير بوسطجي الأرياف على قدميه بينما أن حماره لا يمكن أن يفارقه بحال. ثم أن بيت العمدة يجب أن يكون نظيفاً نوعاً ما لكنه لن يكون بهذا الترتيب الذي رأيناه، فالأثاث الموضوع بغرفة العمدة كان من نوع غريب على بيوت العمد في الكفور والبلاد الصغيرة. وليس عجيباً أن يقاد عمدة إلى «كاباريه» لتستلب نقوده لكن الغريب أن يكون الكاباريه غير أنيق، وأن تكون أرضيته على الخصوص من البلاط الأسود والأبيض الذي يدل مظهره على عدم النظافة بينما أن أرضية الكباريه دائما تصنع من الخشب «الباركيه». وهذه ملاحظات بسيطة على بعض نواحي الإخراج كان يمكن تلافيها بغير عناء. ويأتي بعد ذلك أن التخيل الذي تخيله العمدة عندما أمسك بصورة خطيبته وهو جالس في بيته كان طويلاً جداً، فإذا كان هذا التخيل حلماً فقد وجدنا العمدة بعد انتهاء هذا الحلم في حالة عادية أي مستيقظاً لا نائماً. وكان يجب أن نلقاه إما غافياً وإما ساهماً غير مفيق، وأما مهتزاً إثر إفاقته من حلمه الجميل. كما كان يجب أن نلحظ النشوة والطرب باديين على وجهه.
ويكتفي الناقد بهذه الملاحظات، ويبدأ في مدح الفيلم قائلاً: ليس لدينا ملاحظات كثيرة بعد ذلك ولكن لدينا ما نمتدح به طريقة إخراج هذا الفيلم وسرعة عرض الحوادث وتسلسلها الظريف بحيث بدت الرواية مفهومة واضحة لا غموض فيها بصفتها كوميديا كما قلنا من قبل. لكن السيناريو لم يراع فيه مطالب السينما، وكان مسرحياً تماماً ماعدا بعض الحركة التي كان لابد منها، وأهم ما يلاحظ فيه كثرة الكلام التي انتجت أخيراً «دوشة» في رأس المتفرج وكثرة الكلام مرجعها الالتصاق بالأصل المسرحي للرواية، والسر في ذلك هو رغبة كاتب السيناريو في حشد أكبر عدد ممكن من الجمل الظريفة التي كان يجب أن تقال لتلقى الاستحسان، لكنه لم يلحظ وجوب الاهتمام بالحركة أيضاً والتضحية ببعض الجمل في سبيل الوصول إلى النجاح السينمائي. لقد كان جميع رجال بوليس القاهرة الذين ظهروا في الفيلم بملابس بوليس الأقاليم الصفراء وكان يجب أن تكون هذه الملابس بيضاء إذا كانت وقائع الرواية في الصيف أو سوداء إذا كانت وقائع الرواية في الشتاء. كما قامت زينات صدقي بتمثيل «العروسة الريفية» بحالة مستهترة بعكس عادات وتقاليد الريفيات كما أنه لا يمكن أن تتبادل القبلات بين عريس ريفي وعروسه ريفية قبل عقد الزواج. وعندما أبلغ إلى نقطة البوليس وقوع جناية قتل قام «الباشجاويش» وحده بالذهاب إلى مكان الحادث للتحقيق مع أن المتبع أنه عند إبلاغ حوادث القتل يبلغ الخبر لضابط النقطة أو إلى مأمور القسم أو المركز ثم وكيل النيابة قبل انتقاله.
وتحت عنوان «التمثيل»، قال: والتمثيل كان بصفة عامة موفقاً وناجحاً وقد روعيت فيه الطريقة المسرحية أيضاً وهذا كان ضرورياً من كثرة الحوار وقلة الحركة، على أنه لم ينقص من جمال الرواية إلا قليلاً جداً لأن شخصية نجيب والأبطال والبطلات الذين يحوطونه قد تغلبت على بعض الأخطاء وهكذا بدت الرواية ناجحة وجميلة. فنجيب الريحاني هو كشكش بك عمدة كفر البلاص دون منازع، وإذا كنت أيها القارئ قد شاهدت نجيب على المسرح ولمست نجاحه وتفوقه فأنت ملاق هذا في السينما أيضاً! وهذا توفيق كبير لأنه ليس كل ممثل مسرحي يصلح للسينما وقد دلت بعض الروايات الأخيرة على سقوط بعض كبار الممثلين المسرحيين ومشاهيرهم على الشاشة، فالنتيجة أن نجيب نجح سينمائياً كما هو ناجح مسرحياً. وبشارة واكيم كان في دور سكرتير كشكش بك، ولا جدال في أن هذه الشخصية. تتطلب بعض (الحفلطة) لكنها لا تتطلب كل هذا الذي قدمه بشارة، ولو خفف من غلوائه قليلاً لكان خيراً بكثير، على أنه مع هذا نجح في دوره لكنه لم يكن ناجحاً بالدرجة التي كان يجب أن تكون. أما «بديع خيري» فلأول مرة نشهده في دور كبير على الشاشة. والحق أنه كان ممثلاً ماهراً وأنيقاً في إلقاء عباراته كما هو أنيق في وضعها، وليس هناك ما يعاب عليه فقد كان صادقاً وطبيعياً في حركاته وإشاراته وتمثيلة. والمحافظة على الطبيعة في السينما معناها النجاح التام. أما فؤاد سليم فمثل دور والد العروسة، ومما لا ريب فيه أنه أداه خير أداء. وحسن فائق مثل دور المجنون بمنتهى الحذق والبراعة، وليس ينقصه شيء مطلقاً. وتوفيق صادق مثّل دور خادم العمدة فكان طبيعياً وموفقاً. وعبد الفتاح القصرى مثّل دور الشاويش وكان لائقاً به وجديراً بما لاقاه من استحسان. وبالنسبة للسيدة عزيزة أمير، كنا نود أن نرى السيدة عزيزه أمير بهذا الفيلم في دور كبير تبرز فيه مواهبها كلها لكننا بكل أسف قد رأيناها في دور محدود لم يعطنا صورة كاملة منها من نبوغها السينمائي المعروف. لكن ماذا تفعل ممثلة مثلها في دور يقفها موقفاً سلبياً حتى نهاية الرواية إذ تطل لنا من نافذة المنزل لتلقي «قُلّة» إثر العمدة المطرود المهان! وأما فيما عدا ذلك فقد كانت فتاة خجولة لا تعصي لأبيها أمراً في الظاهر وإن كانت سراً قد شاركت حبيبها بعواطفها فيما يدبره لخطيبها العمدة من مكائد. أما الآنسة فتحية شريف فكانت حركاتها وسكناتها وإشاراتها وكلماتها معبرة تمام التعبير عن شخصية «نوسة» فتاة الكباريه اللعوب وسالبة الرجال عقولهم وأموالهم، ولكن «المكياج» غير المتقن أظهرها على الشاشة خلاف ما عهدناه فيها على المسرح من ظرف ورشاقة وجمال وفتنة. أما السيدة ماري منيب فكانت في دور الحماة موفقة أكثر التوفيق بارعة في أداء اللهجة التركية والخُلق التركي. وبهية أمير كانت فى دورها الصغير نارية ملتهبة بديعة وجذابة. وشفيقة جبران كانت في دورها الصغير ظريفة حقاً وخفيفة الروح إلى حد بعيد، وكم كان منظرها مضحكاً ووراءها خمسة من الأطفال يكادون أن يكونوا جميعاً من عمر واحد بينما أن أحدهم أسود اللون، بل كم كان المنظر مثيراً لكل عوامل الضحك حينما ادعت أن هؤلاء جميعاً أطفالها من كشكش عمدة كفر البلاص. أما محمد حسن الديب، فمثل دور إحسان صديق خطيبة كشكش فأجاده وأتقنه. وبقية الممثلين والممثلات والأستاذان عبد اللطيف جمجوم وزكريا أحمد وبقية الممثلين والممثلات كانوا موفقين في أدوارهم كل التوفيق.
وتحت عنوان «كلمة أخيرة» قال: ولا يفوتنا أن نهنئ الأستاذين نجيب الريحاني وبديع خيري على التوفيق الذي يلازمهما في أعمالهما المسرحية والسينمائية. كما نهنئ المخرج المهذب المتواضع مسيو الكسندر فركاش بنجاحه في إخراج هذه الرواية خصوصاً بعد أن سمعنا من عارفيه أن الرجل لا يفاخر بأعماله بل يترك الحكم عليها للناس ويرحب بالنقد الذي يوجه إليه كما نرجو أن يكون لمساعده الأستاذ «عبد السلام النابلسي» نصيبه من هذه التهنئة [توقيع] «متفرج».
وواضح من التاريخ أن الفيلم لم ينجح النجاح المتوقع في مصر، بعكس نجاحه في بلاد الشام وتحديداً في «فلسطين»! فقد نشرت جريدة «فلسطين» الفلسطينية في أواخر فبراير 1936 إعلاناً طريفاً، قالت فيه: ««20 جنيهاً» لمن يقدر أن يمسك نفسه عن الضحك لدى مشاهدة فيلم «بسلامته عاوز يتجوز» لملك الضحك الأستاذ نجيب الريحاني «كشكش بك». سيعرض قريباً في فلسطين وشرق الأردن فانتظروه. والموزعون مكتب خوري التجاري – القدس – صندوق البريد 605 – تلفون نمرة 808». ونشرت إعلاناً آخر في أوائل أبريل 1936، قالت فيه: «بشري عظيمة تزفها إدارة سينما أبولو الوطني بيافا .. إلى أهالي يافا الكرام والمدن المجاورة بعرض أكبر الأفلام العالمية الهزلية وهو فيلم «بسلامته عاوز يتجوز» لأعظم ممثل هزلي في العالم العربي وهو نجيب الريحاني مع الممثلة القديرة الحسناء عزيزة أمير. هذا هو الفيلم الذي يزيل الهموم ويشفي الأمراض ويفرح الإنسان انتظروا البرنامج غداً». ونشرت إعلاناً ثالثاً بعد أيام قالت فيه: «إلى محبي السرور والانبساط والطرب والغناء .. سينما أبولو الوطني بالعجمي بيافا، تعلن أنها قد استحصلت على أعظم الأفلام الفكاهية الغنائية الناطقة باللغة العربية، وهو فيلم «بسلامته عاوز يتجوز»، لأعظم وأقدر ممثلي العالم العربي الأستاذ نجيب الريحاني «كشكش بك» مع الآنسة عزيزة أمير».
وقبل العرض بيوم واحد نشرت الجريدة إعلاناً جديداً، قالت فيه: «تذكروا ولا تنسوا غداً!! أسرعوا إذن إلى سينما أبولو الوطني وتمتعوا بساعتين ضحك وطرب متواصل .. السبت يعرض أعظم الأفلام المصرية الهزلية «بسلامته عاوز يتجوز» لملك الكوميدي الأستاذ نجيب الريحاني، والآنسة عزيزة أمير، ونخبة من أعظم الممثلين في مصر. اليوم التاريخي العظيم!! هذا هو الفيلم الذي عُرض مدة خمسة أسابيع متوالية بأعظم سينما بالقطر المصري ونال النجاح الذي لم يناله أعظم فيلم سواه». وفي يوم العرض الأول نشرت الجريدة إعلاناً قالت فيه: «الأستاذ نجيب الريحاني «كشش بك» في فيلمه «بسلامته عاوز يتجوز»، مع السيدة عزيزة أميرة والأستاذ بشارة واكيم بسينما أبولو بالعجمي يافا، ابتداء من اليوم ثلاث حفلات يومياً .. المقاعد محدودة فبادروا قبل نفاذ تذاكر حفلات اليوم .. هذا المساء: الحظ .. الفرفشة .. الضحك .. التسلية .. موجودة في فيلم بسلامته عاوز يتجوز».