المسرح الفكاهي في الجزائر..

المسرح الفكاهي في الجزائر..

العدد 882 صدر بتاريخ 22يوليو2024

  لا يسعى المسرح الكوميدى بالضرورة إلى مجرد إضحاك المشاهد فقط. بل يسعى كغيره من الأشكال المسرحية إلى معالجة قضية أو أخرى. وقد تكون هذه القضايا باعثة على الحزن لكن عادة ما تتفجر الضحكات من قلب الأحزان وكم يمكن أن تنطوى المواقف المضحكة على أبعاد مأساوية.
وهذا هو الوضع مع المسرح الفكاهى فى الجزائر. فهذا المسرح ولد من رحم المعاناة، وانشغل بمواجهة الفكر الاستعماري، ومن بعده الفكر السياسي السائد، وانتعش من خلال النقد الذي مارسه روّاده.

جحا
ومثال ذلك مسرحية “جحا” وهى من كلاسيكيات المسرح الفكاهى فى الجزائر. ولدت المسرحية على أيدي عميد مخرجى المسرح الكوميدى فى الجزائر رشيد سلالى (1902- 1992) فى عام 1926 أي فى زمن الاحتلال الفرنسى. 
وكانت عملا عالج برؤية كوميدية رمزية معاناة الشعب الجزائرى تحت نير الاحتلال. وظلت هذه المسرحية تقدم منذ ذلك التاريخ برؤية سلالى أو برؤى أخرى. وظل القاسم المشترك الأعظم فيما بينها هو الطابع الكوميدى. ولم يتوقف تقديمها بعد وفاة سلالى بل لاتزال تقدم حتى اليوم على مسارح الجزائر.
وكان اخرها عرضا بدأ قبل ايام على قاعة المسرح الجديد فى العاصمة الذى يتسع لأكثر من الف مشاهد. 
وفى هذه المسرحية أصبح جحا طبيباً جرّاحاً، يعالج ابن السلطان، بإلحاح من زوجته “حيلة” كي تتخلص منه. وعلى الرغم من أن جحا ليس طبيباً مختصّاً، لكن العملية التي أجراها لابن السلطان نجحت، تماماً كما نجح العرض شعبياً على مدى حوالى قرن.
وفى ذلك يقول الناقد المسرحى الجزائرى محى الدين بشطرزى أن علالو – اسم الشهرة لرشيد سلالى – لم يتنبه إلى أن النكتة التى أطلقها منذ حوال قرن سوف تحدث انقلاباً في المسرح الجزائري. لقد ولد مسرحنا من رحمها”. 
 ويقول أنه بعد استقلال الجزائر عام 1962 استوحى مسرحيون في الجزائر شخصية جحا، منهم كاتب ياسين الذى كتب بالعربية والفرنسية في “مسحوق الذكاء”، ومحمّد بن قطاف في “جحا والناس”، والشريف الأدرع في “جحا”، وحسن بوبريوة في “محاكمة جحا”.
وانتشرت الشخصية على مستوى النكتة الشعبية، التي كانت تقوم على ثنائية ذكاء “جحا العربي”، وغباء “جحا الفرنسي”، إذ خرج الجزائري من ثورة التحرير بروح متفوّقة وساخرة من الفرنسيين.

شابلن الجزائر
ولم يكن سلالى الوحيد الذى ساهم فى نشأة المسرح الكوميدى الجزائرى بل كانت هناك اسماء أخرى مثل “رشيد قسنطيني” (1887-1944) بروح مرحة، فكان في طليعة المسرحيين الفكاهيين، الذين تحوّلوا إلى ظاهرة شعبية حتى بعد رحيلهم، ولقّبه كاتب ياسين بـ”شابلن الجزائر”.
أبدع رشيد قسنطيني نحو عشرين مسرحية ، بين تأليف وتمثيل، ومنها “العهد الوفي”، “بني كوجو”، “بابا قدّور”، “الطمّاع”. وتضمنت هذه المسرحيات جرعات من النقد الاجتماعي، على الرغم من روحها الفكاهية، في مسعى لتوعية الجزائريين، ولفت انتباههم إلى ضرورة الثورة على أمراضهم، تمهيداً للثورة على الاحتلال الفرنسي، الذي منع أحد عروض قسنطيني عام 1940.
وخلال حرب التحرير(1954 – 1962) تراجع المسرح الفكاهي الجزائري لأنه لم يكن ملائما للواقع المأساوى العنيف الذى عاشته الجزائر خلال تلك الفترة إذ كانت مجازر الاحتلال يومية، ولم تعد الرسائل التحررية التي يمرّرها المسرح الكوميدى بين السطور مبرّرة، لقيام فعل الثورة الذي كان يدعو إليه.
وكان ذلك الانحسار لصالح المسرح الملتزم الذي كانت تمثّله الفرقة الفنية لجبهة التحرير الوطني، التي تأسّست عام 1958 بقيادة المسرحي “مصطفى كاتب”، وزارت عشرات الدول الصديقة لعرض مأساة الشعب الجزائرى عن طريق المسرح.

موضوع مختلف
واذا كانت الرسائل السياسية التي مرّرها المسرح الفكاهي قبيل الاستقلال، تتعلق بالاحتلال الفرنسى فقد أصبحت بعد الاستقلال تتعامل مع الشأن العام وادارة حكومات ما بعد الاستقلال لأمور الدولة.
وإذا أخذنا مسرح عنابة مثالاً، سنجده أنتج ما بين عامي 1974 و1980، عروضاً فكاهية بنبرة سياسية، هي “الطمع يفسد الطبع” لنور الدين الهاشمي، و”حسنة وحسان” لمحمد بن قطاف، “والخطبة ديال سيدنا” لمحمد كاراوازن، و”على جال كرشو يخلي عرشو” لجمال مرير.

شجاعة الضحك
يقول الباحث المسرحي أبو بكر سكّيني: “إنه بالعودة إلى سياق العقود الثلاثة التي تلت الاستقلال الوطني، نقف على صعوبة النقد السياسي، بالنظر إلى قيام الحياة السياسية على الحزب الواحد، وتبعية جميع المسارح وقاعات العرض للحكومة”.
وفى ذلك يقول “كان النظام أحادياً، ومتبنياً للقيم الاشتراكية. وكان يسخّر الفنون وفي طليعتها المسرح، لتمرير تلك القيم، فكيف يقبل عرضاً يسخر من خياراته، في مسرح مموّل من طرف الحكومة نفسها”.
ورغم ذلك تجرّأ كُتّاب ومخرجون وممثّلون على نقد بعض الانحرافات التي ميّزت خطاب وتسيير أنظمة الرؤساء الثلاثة، أحمد بن بلّة، وهوّاري بومدين، والشاذلي بن جديد.
 ويتساءل أحد مؤرخى المسرح الجزائرى “هل كان ذلك شجاعة وسعة صدر من الحكومة التي لم تسجن أحداً منهم، أم كانت حيلة للسماح ببعض النقد وإعطاء فرصة للمواطن كي يتنفّس أو للتنفيس وليس للتنفيذ.

ضحك أسود
وخلال ثمانينيات القرن العشرين، خفّت قبضة الرقابة السياسية على الأعمال الفنية، وانتهت بإقرار التعدّدية الحزبية، لكن العروض المسرحية الفكاهية توجّهت أكثر إلى الضحك الأسود، في شكل نقد للذات والظواهر الاجتماعية، فكأنها أرادت القول إن التغيير الحقيقي يبدأ من داخل المجتمع.
مثّل هذا التيار صراط بومدين (1947- 1995)، من خلال أدواره في عروض كثيرة منها: “العلق”، و”صيّاد الملح”، و”حمّام ربي”، و”الخبزة”.
أصبح صراط بومدين نجم الجماهير ، وكان المواطن الجزائري يأتي ليشاهد نفسه في مسرحياته ، وهو يصارع من أجل لقمة العيش، في واقع سياسي يطغى بالتسيّب والشللية، وإهدار المال العام، فكانت القاعات التي تقدم فيها هذه المسرحيات تمتلئ عن آخرها.
حاز بومدين جائزة “أفضل تمثيل رجالي”، في مهرجان قرطاج الدولي للمسرح في تونس عام 1986. وكان من بين منافسيه الفنان المصري عبد الله غيث، الذي صعد إلى منصّة المسرح لتهنئته.

مسرح نقدي
توّج عرض “خاطيني” للمخرج أحمد رزاق، النقد السياسي للمسرح الفكاهي في الجزائر، الذي ركّز في العشريتين الأخيرتين، على العروض أحادية الممثل، بأن تناول بنبرة كاريكاتيرية ساخرة صورة الرئيس، مباشرة بعد الحراك السلمي الذي خاضه الجزائريون عام 2019. 
حظي العرض الذي أنتجه مسرح حكومي بإقبال شعبي منقطع النظير، وتوقّع كثيرون حظره من قِبل حكومة الرئيس الجديد عبد المجيد تبّون، لكن ذلك لم يحدث .

مهرجان خاص
أطلقت وزارة الثقافة عام 2003 مهرجاناً للمسرح الفكاهي، حمل اسم واحد من روّاد الكوميديا في الجزائر، هو الممثل حسن الحسني المعروف شعبياً بـ “بوبقرة”.
ويقول رئيس المهرجان الكاتب سعيد بن زرقة: “إن المهرجان جاء ليرسّم المسرح الفكاهي بصفته حساسية مسرحية لها أصولها وخصوصيتها ودورها، في إنتاج الضحك والوعي معاً. ويشجّع فنّانيه والمشتغلين عليه، من خلال جائزة “العنقود الذهبي”.
من جهته، دعا مخرج العرض علي جبارة، الفائز بالجائزة الكبرى في الدورة الأخيرة للمهرجان، المسرح الفكاهي إلى اقتراح موضوعات وأساليب جديدة، حتى يواكب تحوّلات الاوضاع فى الجزائر “فما كان يُضحك الجزائريين في السابق، لم يعد يعنيهم اليوم”.
يواصل صاحب عرض “رأس العام”: “أنتجت مواقع التواصل الاجتماعي أنماطاً فكاهية جديدة، أصبح لها عشّاقها ومتابعوها، وعلينا قراءة اللحظة الاجتماعية الجديدة، كي لا تبقى عروضنا المسرحية الفكاهية معزولة أو خارج اهتمام الأجيال” .


ترجمة هشام عبد الرءوف