لغة الممثل المجسدة

لغة الممثل                  المجسدة

العدد 883 صدر بتاريخ 29يوليو2024

 المقدمة 
 وضحت أكثر من ثلاثين عام من البحث في أنثروبولوجيا المسرح أن هناك فرق بين التحكم في الفعل وتنظيم الفعل في الحياة اليومية العادية , وتنظيم الأفعال في مواقف التمثيل المنظمة ( أي حيث يشارك الممثل على الأقل مشاهد واحد في علاقة المسرح ) . وهذا الفرق نتاج ما يمكن أنه يظهر على أنه شيء بسيط تماما : إذا نُفذت أفعال الحياة اليومية العادية بهدف تحقيق أهداف هذه الأفعال , فان الممثل في الأداء يحتاج الى تحقيق كل من أهداف الأفعال , وفي نفس الوقت , بنفس ذلك الفعل , يجب أن يحفز انتباه المشاهد ويجذبه ويدهشه ويرشده . وهذه الصعوبة الخاصة تجعل من الضروري على الممثلين أن يخضعوا الى نظم تدريب معين , اعتمادا على تقاليد المسرح التي ينتمي إليها كل ممثل .  ويهدف الكثير من هذا التدريب تحديدا إلى تطوير الوعي والتحكم في الأفعال  بشكل أكثر دقة من ذلك المستخدم عادة في تنفيذ أفعال الحياة اليومية العادية . ويدرس الممثل فعله الحركي بمزيد من التفصيل سواء بشكل عملي أو من خلال سلسلة من التمارين التي تتكون من الحدود والقيود التي تعمل معا لتوسيع آليات التحكم التي تعمل على التنفيذ اليومي للفعل . 
     وتفترض الدراسة الحالية أن التدريب الذي يخضع له الممثل من أجل التحكم الحركي يمكن أن يؤثر في الدوائر العصبية التي تضم الوظائف التنفيذية والحركية . ونقطة الانطلاق هو ما يسمى نظرية اللغة المجسدة embodied language . وطبقا لهذه النظرية , يتحقق فهم دلالة الفعل من خلال إعادة تمثيل المخطط الحركي المرتبط بالحركة الموصوفة من خلال هذا الفعل . فمثلا يتطلب فهم الكلمة التي تشير إلى الفعل المتعدي – ولنقل فعل يمسك – تفعيل ذلك الجزء من القشرة المخية الحركية التي تتحكم في فعل الإمساك . 
     وهذه الفرضية مدعومة بشكل غير مباشر بكل من الدراسات المنفذة باستخدام تقنيات التصوير العصبي ومن خلال التجارب السلوكية أيضا . وقد لاحظ بوكشينو وآخرون أنه بعد سؤال شخص أن يصغي إلى جمل تتضمن استخدام مؤثر معين , كان التباطؤ مرئيا عندما طُلب من الشخص أن ينفذ الأفعال أفعلا متعلق بنفس المؤثر . وقد نقل ساتو وآخرون نتائج مماثلة من خلال العمل على نموذج «اذهب/لا تذهب» . وف تجربتهم طُلب من بعض الأشخاص أن يضغطوا على زر «اذهب» عندما يشاهدون أفعالا تتعلق بالقدمين واليدين , بشكل تبادلي , وألا يضغطوا على زر «لا تذهب» عندما تعرض عليهم الأفعال المجردة . وقد لوحظ أن مرات رد الفعل للضغط على الزر أطول بالنسبة للأفعال التي تصف التنفيذ ينفس المؤثر (هو اليد) التي نحتاجها للضغط على الزر ( تأثير التداخل ) . وتؤكد هذه الاستنتاجات دور النظام الحركي في فهم اللغة المرتبطة بالحركة . 
 وفي أعقاب استنتاجات بوكشينو , أعد جيوفاني مورابيلا وفريقه تجربة أخرى تستهدف مسألتين لم يتم حلهما حول التفاعل بين اللغة ونظام الحركة , وهما تحديدا: (أ) هل نظام الحركة ضروري لفهم اللغة أم هل أن تفعيله مجرد ظاهرة ثانوية ؟ 
(ب) عند أي نقطة يبدأ التداخل الذي يؤدي إلى إطالة زمن الفعل ومتى ينتهي ؟ . 
النموذج المعتمد في تجربتهم هو البديل الذي استخدمه ساتو وآخرون – والفرق هو أن ميرابيلا وآخرون طلبوا من الأشخاص تنفيذ حركة وصول نحو هدف محيطي ظهر على شاشة تعمل باللمس . وتعتبر حركات الوصول ذات أهمية بيئية أعلى من حركات الضغط على المفاتيح : إذ تقوم الرئيسيات بتنفيذ أفعال الوصول عندما تكون خارج سياق المختبرات الفيسيولوجية العصبية , مثل تلك التي يحصلون من خلالها على الطعام . وأثناء تأكيد استنتاجات ساتو وآخرين , وفرت نتائج ميرابيلا وآخرين المزيد من أجزاء اللغز المفقودة . فقد وضحت أولا أن نسب الخطأ هي مؤشرات على التداخل . ثم وضحت أن هذا التداخل يكن أن يكون ملحوظا بشكل مبكر جدا – في وقت مبكر يصل إلى 50 مللي ثانية من إشارة الذهاب , وهذا يحدث فقط عندما يتطلب تقديم الإجابة تحليلا دلاليا للفعل . وبينما يجب أن يكون رد الشخص متعلقا باللون المكتوب به الفعل ( إذا كان الفعل مكتوبا باللون الأخضر , فان الشخص يصل إلى الهدف , وإذا كان الفعل مكتوبا باللون الأحمر فيجب عليه عليه الامتناع عن الحركة ) ويتوقف التداخل اللغوي عن الحركة . وحتى هنا , تتفق هذه النتائج مع نظرية اللغة المجسدة ؛ وتوضح الصلة بين فهم الوصف الشفهي وتجربة الحس الحركي للفعل نفسه . 
     وفي ضوء هذه الاكتشافات , فقد كان هناك شعور بأن النموذج يمكن استخدامه لتنفيذ دراسات على المؤدين , والفرضية هي أنه اذا كان صحيحا أن التدريب المسرحي يؤثر على التحكم الحركي , فان دراسة التفاعل بين أفعال الحركة والحركة عند الممثلين ربما تسفر عن بعض الاختلافات فيما يتعلق بغير الممثلين . وهذا البحث هو نتاج تعاون بين قسم تاريخ الفن والترفيه وفريق عالم الأعصاب الفيسيولوجية جيوفاني ميرابيلا وفريقه , وهو تعاون بتمويل من جامعة سابينزا في روما في سياق مشروع « علم النفس الفيسيولوجي للممثل والمتفرج : بحث متعدد المجالات « تديره البروفيسور كيليا فاليتي . 
 
المواد والأساليب 
الأشخاص
     شارك في التجربة تسعة وعشرون شخص : ثلاثة عشرة ممثل ومجموعة تحكم مكونة من ستة عشرة شخص .وقد خضع كل التسعة والعشرون شخص إلى مهمتين سوف نشير اليهما هنا بأنهما « التجربة (1)» و» التجربة (2 )» . وكانت لغتهم الأم هي اللغة الايطالية , وكانوا يستخدمون اليد اليمنى . ولم يتم ايلاغهم جميعا بأهداف التجربة . وقد اختير الممثلون على أساس نوع التدريب التي خضعوا لها وعلى أساس استمرارهم في التدريب . 

الأفعال المستخدمة كمؤثر 
 قدمت الأفعال في الاختبارات بشكل مرئي . واستخدمنا في التجربة الأولى ثلاثين فعل , كلها في كلها في صيغة لا نهائية . وقسمت هذه الأفعال الثلاثين الى ثلاث مجموعات كل منها عشرة أفعال . عشرة أفعال لحركة اليد ( مثل يقطع ) وعشرة أفعال لحركة القدم (مثل يجري) وعشرة أفعال مجردة ( مثل ينسى ) . وقد اختيرت لكي تكون متجانسة في الطول وعدد المقاطع والتردد المعجمي , وقد استخدم الأفعال ساتو وآخرين في تجربتهم . 


الاختبار السلوكي 
التجربة (1) ( مهمة دلالية )   
     في هذه التجربة , جلس المشاركون على مسافة 50سم من شاشة اللمس ذات 17 بوصة (ميكرو تاتش , ومعدل أخذ العينات 200 هيرتز) . لم تستخدم برامج غير تجارية للسيطرة على تقديم المؤثر البصري ولتسجيل استجابات الأشخاص . معدل التردد الزمني للمؤثر يتزامن مع معدل الشاشة . 
     استجاب المشاركون إلى سلسلتين مكونتين من 240 محاولة , بمجموع 480 محاولة . بدأت كل محاولة بتقديم دائرة حمراء 8ر2 سم في قطر في منصف الشاشة . كان لا بد أن يلمس المشاركون هذه الدائرة بأصبع السبابة بيدهم اليمنى , بعد فترة من الزمن , ظهر على الشاشة فعل يتراوح بين 400 الى 700   مللي ثانية على الشاشة لكي يقرأه المشاركون . إذا كان الفعل من أفعال الحركة ( اذهب) بشكل مستقل عما إذا كان الفعل لليد أو القدم كان من المفترض أن يصل  المشاركون في زمن 600 مللي ثانية على الأكثر , وظهرت دائرة حمراء أخرى على يمينهم على مسافة 15 سم من منصف الشاشة . فإذا كان الفعل مجردا ( لا تذهب) يبقى المشارك بلا حركة عند ظهور الدائرة على اليمين ويبقى أصبعه ثابتا على الدائرة الحمراء في المنتصف . في كل مرة يتم تنفيذ المهمة بشكل صحيح يخبر صوت إشارة الشخص , في أي نقطة يمكنه أن يفصل أصبعه/الشاشة عن الاتصال ويستمر في المحاولة التالية . 
     يمكن أن يظهر الهدف الجانبي اما بعد 2ر53 مللي ثانية أو 2ر332 مللي ثانية بعد تقديم الفعل ومحفز زمن التقديم هذا يسمى « بداية التحفيز غير المتزامن stimulus onset asynchrony « . ويظل الفعل مرئيا حتى نهاية المحاولة . وقد كانت كل الأفعال باللون الأحمر على خلفية سوداء . وتم تقديم كل فعل ثماني مرات لكل من مرات  التحفيز غير المتزامن .  وقد تم تقديم الأفعال بشكل عشوائي ؛ واذا كان هناك خطأ , يتم تقديم الأفعال مرة أخرى بشكل عشوائي , حتى يكتمل تتابع المحاولات  بشكل صحيح . 
التجربة (2) ( مهمة غير دلالية ) 
     تتكون التجربة (2) من 360 محاولة مقدمة في في كتلتين كل منها 180 محاولة . وبعكس التجربة (1) حيث نفذ المشاركون مهاما على أساس الطبيعة الدلالية للفعل , وفي هذه التجربة , كانت الاشارات التي يجب أن يستجيب لها المشاركون هي اللون الذي يُقدم به الفعل . وبدأت كل محاولة بدائرة رمادية قدمت على شاشة لمس . وكان يجب على المشاركين أن يجعلوا الفعل يظهر على الشاشة بلمس الدائرة بأصبع السبابة اليمنى . وفي كل مرة ظهر فيها فعل أخضر , كان يجب على الشخص أن يصل ويلمس الدائرة الرمادية للهدف الجانبي الذي ظهر على اليمين . واذا ظهر فعل باللون الأحمر بدلا من ذلك فيجب على الشخص أن يبقي اصبعه ثابتا على الدائرة الرمادية في منتصف الشاشة . وبالنسبة لكل تحفيز غير متزامن , يتم تقديم كل فعل اثنى عشر مرة – ست مرات باللون الأخضر , وست مرات باللون الأحمر . وكما في التجربة السابقة , في كل مرة تُنفذ فيها المهمة بشكل صحيح , صوت اشارة يخبر الشخص المشارك .  

تحليل البيانات       
عوامل التغير المستخدمة في التجربتين هي :  
- (أ) زمن رد الفعل ( أي الزمن المنقضي بداية من إشارة « انطلق «  الى إشارة السبابة بقطع الاتصال بالشاشة للوصول إلى الهدف الجانبي) .
(ب) زمن الحركة ( أي الزمن المنقضي بين إشارة السبابة بقطع الاتصال مع الشاشة ووصولها إلى الهدف الجانبي) . 
(ج) عدد الأخطاء التي وقع فيها كل شخص ( أي يمكن أن تكون تلك حالات ترك الهدف المركزي في محاولات « لا تنطلق» أو في مسارات «انطلق» أو تأخر مفرط في الوصول إلى الهدف الجانبي أو حالات عدم الوصول إلى الهدف الجانبي .
     بالنسبة للتجربة (1) : تم حساب متوسط زمن رد الفعل ومتوسط زمن الحركة لكل فئة فعل ( أفعال اليدين والقدمين ) بالنسبة لزمن المجموعتين (2ر52 مللي ثانية, 5ر332 مللي ثانية ) , وموسط الأخطاء أيضا . وبالنسبة للتجربة (2) زمن رد الفعل وزمن الحركة للأفعال المجردة تم حسابه . ولتأكيد الدقة الإحصائية للنتائج تم استخدام تحليل قياس متكرر للتباين . وقد استخدامنا اختبار ماوكلي لتقييم خاصية الكروية , وقد تم ضبط درجات الحرية باتباع اجراءات جرينهاوس وجريزر . وطبقنا تصحيح بونفيروني على كل الاختبارات. 

المناقشة والنتائج التمهيدية   
     ومع استمرار تقدم الدراسة , سوف نزيد  مجموعات العينة الحالي بعدد أكبر من الممثلين وغير الممثلين . لم تظهر النتائج الأولية أي فرق بين المجموعتين فيما يتعلق بأثر التدخل : فالنتائج التي حققها الممثلون كانت متطابقة مع نتائج غير الممثلين . ورغم ذلك , فان النتائج التي حصلنا عليها في التجربة (1) توضح أن الممثلين ارتكبوا أخطاء أقل من غير الممثلين وزمن رد فعلهم أسرع . علاوة على ذلك , في التجربة (2) حيث استجاب الأشخاص الى مؤثر اللون , وليس لمعنى الأفعال , اختفى التدخل في الحركة . 
     تبدو الفروق الناتجة من التجربة (1) أنها تؤكد  أن المخ البشري , حتى عند الكبار , مرن بشكل مذهل . ففي الواقع بخصم متوسط سنوات ممارسة المسرح للمشاركين (4ر25) من متوسط العمر (6ر47) يمكننا أن نقرر تقريبا أن العمر الذي يبدأ فيه التدريب المهني على المسرح هو حوالي (22) عاما , وذلك عندما نكون وصلنا الى مرحلة الطفولة . 
     والملاحظة الختامية : الهيمنة التي يملكها المشاركون , في المتوسط , مستوى من التعليم أعلى من الممثلين . ونتيجة لذلك , من الممكن أن تكون النتائج أفضل مقارنة بالنظر الى مستوى تعليمهم . بالرغم من ذلك , يجب أن يكون واضحا في أذهاننا أن تدريب الممثلين ليس مسألة تعليم بدني – انه تدريب على التفكير المزدوج . 


الخاتمة 
     في المرحلة الحالية من البحث , تشير النتائج الى أن لا توجد فروق فيما يتعلق بالقدرة اللغوية , بينما يظهر التحكم الطوعي للحدث باعتباره أكثر كفاءة عند الممثلين أكثر من غير الممثلين . ويمكن أن يشير هذا الى أن التدريب يشحذ قدرة الممثل على التركيز في مهمة محددة وينفذها أسرع بدقة . ويبدو من المرغوب فيه أن نتابع هذه الوظائف لفهم أي منها يوضح التعديلات . في النهاية , تجدر الاشارة الى أنه في سياق المواجهة متعددة المجالات بين المسرح وعلم الأعصاب , فان هذه هي المرة الأولى التي سعت فيها هذه الدراسة لتوضيح كيف يعدل التدريب على المسرح البيولوجيا العصبية للفعل . والاشارات المتوفرة من خلال هذا البحث , ولو كانت جزئية , يمكن أن تكون محددات ذات قيمة للبحث في المستقبل . 
............................................................................
هذه المقالة هي الفصل الثامن من كتاب « المسرح وعلم الأعصاب الادراكي “ اعداد كليا فاليتي  - جابريل سوفيا  - فيكتور جاكانو  . الصدر عن بلومسبري عام 2016 . 


ترجمة أحمد عبد الفتاح