سؤال النص المحير في المسرح بعد الدرامي من منظور عبر ثقافي(1)

سؤال النص المحير في المسرح بعد الدرامي من منظور عبر ثقافي(1)

العدد 884 صدر بتاريخ 5أغسطس2024

من المثير للاهتمام أن نلاحظ كيف تدخل كتاب هانز ثيز ليمان «المسرح بعد الدرامي Postdramatisches Theater» (1999) وترجماته المختلفة – أو كيف تم فهمه – في المناقشات الخاصة والمواقف المؤسسية المتعلقة بالمسرح خارج ألمانيا . ففي بريطانيا،  لقي الكتاب ترحيبا كبيرا – ولاسيما من خلال ممارسي المسرح التجريبي الذين رأوه باعتباره يجعل ممارستهم شرعية وباعتباره طريقة جديدة لوصف أعمالهم للمشاهدين وجهات التمويل على حد سواء . ومع ذلك فقد نوقش الكتاب بشدة . فمثلا في مؤتمر ليدز الذي دار حول «أدبيات الأداء performing literatures» (2007) . وكانت إحدى القضايا المحيرة والمثيرة للجدل في التلقي البريطاني لكتاب المسرح بعد الدرامي هي قضية النص وكيفية ارتباط نظرية ليمان بالكتابة الجديدة للمسرح والأداء . ولذلك،  زعمت ليز توملين،  وهي أستاذة للمسرح وكاتبة مسرحية،  أن تلقي المسرح بعد الدرامي قد عزز دون قصد التمييز الثنائي الحالي بين «المسرح المبني على النص text-based theater» و«المسرح غير المبني على النص non-text-based theater» في بريطانيا . وبهذه الطريقة ارتبط المسرح الدرامي عادة بالمسرح المبني على النص، وارتبط المسرح بعد الدرامي بالمسرح غير المبني على النص . وتجادل توملين بأن 
 كتاب المسرح بعد الدرامي منح سلطة أكاديمية لفصل النص الدرامي عن الممارسة غير المبنية على النص والتي عبرت عنها سابقا مجموعة من المعارضات الثنائية المختلفة،  ولكنها ذات صلة . وبحلول الوقت الذي نُشرت فيه الترجمة الانجليزية في عام 2006،  كانت ثنائية الدرامي وبعد الدرامي شائعة في أقسام الجامعات البريطانية،  مما أعطى شرعية كبيرة،  ومفردات جديدة لمزيد من التعزيز،  وتمييز الحدود الموجودة فعلا بشكل أوضح . في حين أن ليمان لم يتوافق تماما مع استنتاجاته،  وعلى الرغم من أنها غير حاسمة،  فقد كان أكثر ميلا،  في نهاية المطاف،  الى تعزيز الثنائية الحالية فضلا عن هدمها . 
     وبشكل مماثل لثنائية التلقي البريطاني،  يسيء النقد الأسترالي للكتاب الذي قدمه دينيس فارني فهم الكتاب اذ يقول «اذا كان المسرح الدرامي تال على أولوية النص،  وصنع حاضر الكلمات والأفعال في فراغ محاكاتي على خشبة المسرح، فان المسرح بعد الدرامي هو مسرح بدون نص». 
     من الواضح أن هذا ليس التصور السائد في ألمانيا حيث  من المسلم به عموما أن قدرا كبيرا من الأعمال ما بعد الدرامية قد تطورت من معالجات اخراج جديدة وغير ذات صلة في كثير من الأحيان بنصوص موجودة مسبقا . وما يسمى مسرح المخرج Regietheater الذي ينظر إلى النص باعتباره أحد عناصر العرض،  والذي،  كما تقرر جيردا بوتشمان،  في شكله التفكيكي الرديكالي لما يسمى هدم الكلاسيكية Klassikerzertrummerung،  قد كان قوة دافعة مهمة لأشكال المسرح ما بعد الدرامي منذ الستينيات،  حتى أنه كان يفهم نفسه كمسرح مضاد للنص . وفي نفس الوقت،  تطورت الوسائل الدراماتورجية للمسرح بعد الدرامي استجابة لتحدي نصوص المسرح لكتاب مثل بيتر هاندكه،  وهاينر موللر،  والفريدا يلنيك،  وجينكا شتاينواتش وآخرين،  والتي وصفتها جيردا بوتشمان مبكرا بأنها لم تعد نصوصا درامية. 

اختلافات البنية التحتية والبنية المؤسساتية 
     جزئيا،  هذا الإدراك المختلف بالتأكيد له علاقة  بالمواقف المؤسساتية المختلفة لممارسي المسرح وكتابه في في بريطانيا وألمانيا . فبريطانيا،  مثل ألمانيا،  ولكنها بعكس دول مثل بلجيكا – لديها تقاليد قومية طويلة في المسرح الدرامي الأدبي،  الذي يحدث غالبا في المسارح التذكارية ذات الطابع التجاري . بعضة مسارح فقط،  مثل رويال كورت وبوش،  هم الذين يدعمون الكتابة الجديدة . وفي نفس الوقت،  نمت تقاليد موازية لمسرح الأداء التجريبي المعد بشكل تعاوني على الهامش،  والذي خرج غالبا من قسم المسرح الجامعي الشاب تاريخيا،  اذ عادة ما كان يخرج في جولات في مراكز الفنون المستقلة والأماكن السياحية،  والمهرجانات مثل مهرجان أدنبرة . 
     في هذا التقسيم المؤسسي الذي يتغير ببطء،  يمكن لمؤلف النصوص المسرحية المبتكرة رسميا أن يجد نفسه على الهامش على الرغم من نجاح الموجة البريطانية الجديدة التي تسمى «أسلوب المواجهة بالدراما In- Yer- Face» والتي ظهرت في تسعينيات القرن الماضي. وقد جادل ديفيد بارنيت،  وهو أكاديمي في المسرح الألماني،  بأنه «يمكن لنظام المسرح الممول بسخاء نسبيا في ألمانيا أن يدعم العمل المسرحي المستدام بشكل أفضل بالنصوص الصعبة» . 
لعل إحدى النتائج المحددة للدعم الكبير والنظام اللامركزي في ألمانيا هي أن المسارح قادرة على التعامل مع النصوص الصعبة بطريقة مثمرة . فقد تكون كتابة المسرحيات بطريقة تعرض نفسها علنا للخيال ولمنفذيها (...) فالنظام يشجع بفعالية المسرحيات التي لا يمكن أداؤها بسهولة وتزدهر في ظل التحديات التي تطرحها .
     وكما ذكر بارنيت أيضا،  فان هذا اللقاء المثمر لا تسهله فقط ميزانيات الإنتاج السخية نسبيا والبنية التحتية لفرص التدريب الواسعة والمتنوعة،  ولكن أيضا من خلال العمل التعاوني للفرق الدائمة والملتزمة على مدار فترات تدريب طويلة مع المدخلات الإبداعية لمعدي الدراما dramaturges الذين يشكلون شراكات عمل وثيقة  مع المخرجين والفرق الموسيقية . 
     وبالمقارنة،  تميل المسارح في بريطانيا بشكل تقليدي الى استخدام «المديرين الأدبيين literary managers» بدلا من معدي الدراما. ويتعلق وصفهم الوظيفي باختيار وتطوير المسرحيات الجديدة بالتعاون مع المؤلفين،  ونادرا ما يساعدون في ورش العمل والتدرب على المسرحيات. وبينما تتغير هذه الصورة حاليا في انجلترا، فلا تزال هناك معوقات هيكلية وبنية تحتية أمام النصوص المبتكرة شكليا . وبالتالي يستشهد بارنيت بالكاتب المسرحي البريطاني سايمون ستيفنز،  الذي عانى من متاعب للوصول الى مسرحيته الجديدة عن تفجيرات لندن التي عرضت في بريطانيا : « قيل لي ان المسرحية ألمانية الى حد بعيد « . ومثل النصوص الإبداعية البريطانية في الشكل،  فان مسرحية ستيفنز “ الاباحية Pornography “ (2007) التي تتكون من ستة نصوص غير منسوبة الى شخصيات معينة،  قد عرضت بنجاح في ألمانيا – في أربعة عروض مختلفة – قبل أن تُعرض في بريطانيا في مهرجان أدنبرة . 
     ومع ذلك،  في الوقت نفسه،  عملت فرق المسرح التجريبي البريطاني المستقلة على تنمية الكتابة المبتكرة والاستخدام المبتكر للنص في الأداء – وهي حقيقة يتم التغاضي عنها أحيانا . ففرق مثل فورسيد انترتينمنت،  أنانفيتيد جيستس،  مون توين،  أبوكريفال ثياتر وبروتوتايب ثياتر،  كلها تعمل بنصوص أصيلة ( لمؤلف واحد )،  وأيضا نصوص طورتها الفرقة بالارتجال أو منقول من مواقع مثل الانترنت . ويمكن القول ان المشهد المستقل للممارسة التجريبية أكثر تطورا أو أطول عمرا بالتأكيد من المشهد الحر للفرق المستقلة في ألمانيا، وغالبا ما ينشأ في سياق أقسام الدراما والمسرح الجامعية التي تركز بشكل كبير على الممارسة في بريطانيا . ونذكر مثالا واحدا في الاستخدام التجريبي للنص الذي خرج من هذا المشهد،  ويمكننا أن نفكر في عرض « تحدث بمرارة Speak Bitterness» لفرقة فوسيد انترتانمينت عام 1994، أعادت عرضه عام 2009 في نسخته التي استمرت لمدة ست ساعات في مسرح باكت سولفرين في ايزين . وتكون العرض من سبعة مؤدين يقرأون اعترافات من أوراق متناثرة بالطول وبالعرض على طاولة. ونظرا لأن نص « تحدث بمرارة « هو اعادة ابتكار لنص بيتر هاندكه “ لعبة الكلام Sprechstuck « ومسرحية « اتهام ذاتي self-accusation” ( 1966)،  وكما هو الحال،  فان هذا دليل على حقيقة أن هناك حركة أكبر بين عالم الكتابة المسرحية والعالم المبتكر الذي تراه العين لأول ومرة . تكمن السمة المميزة لأداء فرقة فورسيد انترتانمينت في أن الاعترافات التي كتبها تيم ايتشيلز مع الفرقة بشكل جماعي لم يتم حفظها ثم التحدث بها ببساطة،  بل انها موجودة بوضوع كنصوص مكتوبة عموما،  وتطالب بالتعامل معها والاعتراف بها،  اما همسا على مضض،  أو بالصراخ بصوت عال،  أو بالاعلان عنها بفخر . ويعد المص عنصرا أساسيا في تصميم المسرح،  حيث يواجه المؤدين باعتبارهم مادة يجب العمل عليها،  ووضعها في سياق الموقف الحي . وعلى الرغم من أن هذا مثال واضح للمسرح بعد الدرامي،  نظرا لأنه لا يوجد قصة درامية يجري تمثيلها من خلال شخصيات،  فمن الواضح أنه ليس مسرحا بدون نص . 

مسارات الأداء بعد الدرامي غير المتجانسة  
    وكما تشير اللمحة السابقة،  فان المسرح بعد الدرامي يمكن أن ينشأ في جميع أنواع السياقات من خلال العديد من المسارات المختلفة . فالتمييز بين الدرامي وما بعد الدرامي – والذي لا يعد تعارضا ثنائيا بأي حال من الأحوال،  ولكنه علاقة دينامية يستمر ما بعد الدرامي في المشاركة مع الدرامي – ولا يمكن اختزاله الى تمايزات مثل «المسرح المبني على النص» في مقابل «المسرح غير المبني على النص» (الطليعة)،  أو «المسرح الشفهي verbal theater» في مقابل «المسرح البدني physical theater» كما يؤكد ليمان . الفكرة هي أن هناك العديد من الطرق غير المتجانسة للوصول الى العروض التي يمكن أن نصفها بأنها «بعد درامية» . 
واذا سمحتم للرسم البياني رقم (1) شبه العلمي هذا،  فيمكننا أن نوضحه كالتالي : 
    «يمكن أن تنتج العروض بعد الدرامية المبنية على النص عندما يقدم المخرجون نصوصا درامية تقليدية تؤدي الى اضفاء طابع درامي على الأداء،  مثلما يدافع ليمان أعمال كلأوس مايكل جروبر مع النصوص الكلاسيكية التي تؤكد زمانية ومكانية العملية المسرحية وتنظم الحبكة الدرامية ويضع الحبكة الدرامية في الخلفية» . 
     يمكن أن يكون المسرح بعد الدرامي المبني على النص نتيجة للعمل على نص لم يكن درامي،  كما هو الحال في العرض المبني على نص سارة كين « ذهان 48ر4 4.48 Psychosis»، أو نصوص ألفريدا يلينيك التي تفتقر الى الحبكة الدرامية والشخصيات النفسية وشكل الحوار أو حتى المتحدثين،  كما في مسرحيتها الشهيرة «اللغة مسطحة Sprachflachen» . 
     وبدلا من ذلك يمكن أن يكون المسرح بعد الدرامي نتيجة لعروض لا تعتمد على النص بمعنى استخدام لنص موجود مسبقا لمؤلف ما،  ولكنه يستخدم مكتوبة يتم النطق بها أثناء الأداء ويمكن طباعتها ونشرها كنصوص. وقد كانت هذه هي الحال بالنسبة لعرض فرقة فورسيد انترتانمينت «تحدث بمرارة» والذي نشره ايتشيل عام 2009، ومن الناحية النظرية يمكن أن تؤديه الآن مجموعة مجموعة أخرى من الناس – على الرغم من أنه من المفترض أن يفقد الكثير من الصلة الأصيلة على ( على ما يبدو ) مع المؤدين الأصليين . وبشكل بديل،  فان النص المنشور يمكن قراءته الآن كنوع من حاشية تستحضر صوت وأحداث العرض السابق . 
     علاوة على ذلك،  يمكن أن تكون العروض بعد الدرامية غير مبنية علي نص non-text-based،  مبتكرة من عمليات التدريب التي لا تستخدم لغة . ومن الأمثلة على ذلك العروض البصرية غير اللفظية بالكامل التي قدمها روبرت ويلسون في بعض الأحيان،  أو فرقة سوسايتاس رافيللو سانزيو،  أو غيرها من العروض المسرحية البدنية،  أو عروض مسرح الرقص ( وهذا لا يعني،  على العكس من ذلك،  أن المسرح البدني لا يستطيع أن يروي قصة درامية ) . 
     ورغم ذلك،  من الممكن أيضا أن تكون نصوص المسرح بعد الدرامي  البدنية غير الشفهية عروضا مبنية على نصوص،  فمثلا،  اذا بدأت بنص يتكون بشكل أساسي من ارشادات لخشبة المسرح أو وصف،  كما في عروض بيتر هاندكه لمسرحية « الساعة التي لم نعرف فيها بعضنا البعض The Hour We Knew Nothing of Each Other « التي تصف مائة شخصية يعبرون ميدان دون أن ينطقوا كلمة . 
     في النهاية،  هناك أيضا عددا من الاحتمالات الهجينة لم يغطيها الرسم البياني المذكور أعلاه،  مثل احتمال الكلام المبتكر أو المرتجل المستخدم في عرض يعمل بطريقة أخرى على نص مؤلف مسبقا . فما كان محتقرا في السابق باعتباره ارتجالا يشجعه عمدا بعض الكتاب والمخرجين . 
....................................................................................
كارين يوريس مونبي تعمل أستاذا في جامعة لانكستر للفنون المعاصرة،  وهي التي ترجمت كتاب « المسرح بعد الدرامي « الى الانجليزية عام 2006 . 


ترجمة أحمد عبد الفتاح