«أوبرا العتبة».. بنية العشوائية

«أوبرا العتبة».. بنية العشوائية

العدد 889 صدر بتاريخ 9سبتمبر2024

يقوم المنهج البنيوي على فكرة تروق لي لذا اعتمده مع تطوره المسمى سيمولوجيا في عملى النقدي . يعرف أحد الفلاسفة الفرنسيين المنهج البنيوي بأنه «الاعتقاد بأن ظواهر الحياة الإنسانية غير مفهومة إلا من خلال علاقتها المتبادلة، وتشكل هذه العلاقات بنية» .
وطبعا هناك اتجاهات للمنهج في علم النفس والاجتماع واللغة والأدب والفن، لايهتم التحليل البنيوي بجودة أو رداءة النص لأن غرضه الكشف عن تجربة النص نظامها وعناصرها وعلاقاتها ومستوياتها، وهذه الطريقة التي اعرضها هنا ببساطة تفيد كثيرا في حالة النصوص أو العروض ذات البعد الاجتماعي . قد طبقت المنهج بعد مشاهدة عرض مسرحي شديد الخصوصية ومن هنا  جاء اندهاشي من عدم حصول عرض (أوبرا العتبة) على أي جائزة في المهرجان القومي للمسرح هذا العام، فالعرض هام فكريا وممتع فنيا ومكثف فلا مجال فيه للمد والإطالة رغم أن مادته الدرامية تسمح بذلك. 
 بداية جاء عنوان المسرحية (أوبرا العتبة) التي تقدم على خشبة مسرح الطليعة بقلب الميدان بما يضم من مشكلات، أقلها المرور نتيجة الازدحام الشديد، يحمل تناقضا ظاهرا فما علاقة الأوبرا كفن وبين العتبة؟ سؤال لابد وأن يطرح نفسه هل استوحى هاني عفيفي مؤلف ومخرج العرض الاسم من أن ميدان العتبة ضم أول مبنى لمسرح للأبرا في تاريخ مصر؟ لاأتصور هذا فقد احترق المبنى وإن احتفظ الميدان الذي كانت به باسمها، ثم في الثمانينيات اقيمت أخرى في مكانها الحالي بالجزيرة . اذن ماالمغزى من هذا العنوان المشكل؟ 
بتحليل بسيط نجد عنوان المسرحية يحمل تناقض واضح بين فن الأوبرا الذي يبدأ به العرض عبر غناء فنانيين جزء من احدى الأوبرات العالمية التى مكانها الطبيعي قاعة في مسرح كبير، وبين أداء هذا الفن في الشارع المحيط بالمسرح أي في العتبة . هذا التناقض الواضح بين فن غنائي عالمي يمتع الروح والأذن وبين ضوضاء وازدحام الشارع، يعطينا مفتاح الولوج للعرض .  
 تناقض يطرح لنا من العنوان، فمنطقة العتبة حاضرة في العرض ليس كمكان للمسرح الذي نشاهد به العرض فقط (مسرح الطليعة) لكنها حاضرة داخل العرض نفسه . 
 يتاكد ذلك حين ينتشر الباعة الجائلين بين الجمهورداخل قاعة المسرح يعرضون بضاعتهم كما حدث لنا ونحن في الشارع طريقنا إلى المسرح، إذن المخرج المؤلف هاني عفيفي يؤكد لنا بذلك أننا في الشارع ولم ندخل لقاعة المسرح. وتكتمل الفكرة حين نطالع تصميم المنظر المسرحي البديع للمصمم الموهوب عمر غايات والمنفذة له مي كمال، كيانات متقابلة خاوية من الجدران الساترة مجرد أعمدة قائمة ومائلة، لاتعرف هل بيوت خاوية أم عمارات لكن مايسمها أنها كيانات متصلة / منفصلة عن الشارع رغم وقوعها في ذات المكان والزمان . 
في البناية الأولى نافذة تطل منها سيدة منزل ثرثارة كل اهتمامها الشراء وتكنيز الأشياء في صناديق كرتونية تحوى بضائع من طعام ومشروبات وأدوية وأدوات منزلية زائدة عن احتياجها ولكنها تشتريها وتحفظها بلا هدف،حتى تحتل منزلها ولاتجد هي سوى مساحة صغيرة تجلس بها، والحقيقة أبدعت الممثلة دعاء حمزة ذات الروح المصرية جدا في أداء الشخصية ومزجت بين الجد والهزل ببراعة . 
في مقابلها بناء مشابه مفتوح / مغلق يقبع شخص هادئ متأمل يقرأ ويعزف ويؤدي وحيدا، لاتعرف من يخاطب ولمن يتحدث، فاقد الصلة بالواقع المحيط به تماما أي الشارع. والحقيقة كان أداء الممثل محمد عبد الفتاح هادئ واعي بالشخصية وأزمة المثقف، مما أكد التناقض بينه وبين السيدة الاستهلاكية من جانب، وبينه وبين الشارع الذي يقطن في إحدى بناياته من جانب أخر أي يعيش بالقرب منه لكنه بعيد عنه بكل اهتماماته وتفاصيل حياته ولاحيلة له فيما يحدث ولا تأثير لثقافته المنغمس فيها  على الإطلاق . 
 وبين البنايات الخاوية التي يسكنها الاثنان المرأة والرجل مساحة الشارع وما أدراك ما شارع في منطقة العتبة، ازدحام من سيارات لاتجد طريقها بسهولة بين المارة والباعة والبضائع، خناقات البائعين مع التجار المحتكرين لأرض الميدان ويؤجرونها لهم رغم أنها ملك الحكومة يالأساس، بشر يسعون خلف لقمة عيش بصعوبة وكدر يزيده ظواهر مثل التحرش والنشل والتناحر على أي شيء . 
  كل ذلك يجري بمشاهد مكثفة بليغة قام بها مجموعة من شباب الممثلين ببراعة وبساطة مثيرة للاعجاب وحافظوا على إيقاع الميدان الحقيقي من سرعة في الحركة والكلام بنفس مفردات لغة الباعة الحقيقيين خارج المسرح، الأمر الذي أكد على فكرة التناقض والعشوائية المطروحة من عنوان المسرحية . 
 في جانب منعزل من يمين المسرح  مجموعة من الكراتين والكراكيب أيضا جلس بها مندوب شركة ثم مندوب أخر وهكذا، يتحدث معه عبر الهاتف أحد المواطنين جلس في اقصى يسار المسرح ولكن الخدمة التي يطلبها المواطن غالبا لاتتحقق والرد الوحيد (السيستم واقع) وهي كلمة ظهرت في حياة المواطن في مرحلة التطور التكنولوجي لتيسير العمل والمصالح اليومية للمواطن والشركات والأماكن الإدارية لكنها لاتعمل ولاتؤدي الهدف المنوط بها . لتتضح بشدة البنية الحاكمة لنص العرض التي تتخذ من ميدان العتبة وتفاصيله اليومية من عشوائية وازدحام ولانظام ولاقانون ولارابط بين أحد وبين الأخر ولاأفق حل تلك الأزمات التي تقع علينا وتتبلور لغياب كل ماسبق وأولها الضمير والسيستم الغائب ولعل مشهد ركاب الميكروباس أو سيارة النقل الجماعي على اختلاف مهنهم الطبيبة والمدرس والعامل ورد فعلهم الجماعي على خبر ارتفاع أسعار البنزين، من أمتع مشاهد العرض كتابة لانه كشف عن الحقيقة القبيحة أي أننا ندور في دائرة نستغل فيها بعضنا البعض الكل جاني والكل ضحية، للازدحام والعشوائية وغياب النظام والطمع والسلبية مشهد جسد كل هذا ببساطة موجعة أبرزه أداء الشباب الرائع، إياد رامي – رنا عاصم – أحمد سعد – أمينة صلاح الدين – بكر محمد – هاجر عوض وأخراج المخرج الدؤب  هاني عفيفي . 
لقد وضعنا العرض أمام حياتنا اليومية جامعا كل تفاصيلها بذكاء بلا افتعال وبتفكير هادئ وضع أمامنا بنية حياتنا الحالية وعنوانها الرئيسي التناقض والعشوائية. 


سامية حبيب