العدد 889 صدر بتاريخ 9سبتمبر2024
أحياناً يهدأ الجسد لكن العقل لا يهدأ يظل يفكر ويتحرك باستمرار محدثاً أرق أو تفكير زائد الي حد عدم استطاعة الجسد علي الراحة من كثرة تعب العقل وإرهاقه في التفكير، هذا ما نجده في العرض المسرحي الذي قدمته فرقة ألوان بالتعبير الحركي وهي فرقة مستقلة علي خشبة مسرح السلام في إحدى ليالي المهرجان القومي للمسرح المصري في دورته السابعة عشر دورة سيدة المسرح سميحة أيوب، عرض “آخر ساعة قبل النوم “ فكرة وإخراج أحمد عادل فوزي.
منذ لحظة البدء نجد خشبة المسرح مظلمة معتمدة علي إضاءة زرقاء ضعيفة وباهتة ونجد فتاة ترتدي ملابس النوم (البيجاما) تنام علي الأرض في بؤرة محددة علي شكل مستطيل بالضوء الأبيض وملقي عليها إضاءة كشاف صفراء لتحديد موقعها وما تفعله، يمكننا تخيل أن الفتاة المستعينة بملاءة تنام علي سريرها لأن العرض عبارة عن رقص معاصر فلا يهتم بعنصر الديكور كثيراً كأحد عناصر السينوغرافيا واكتفي بهذا القدر لتوصيل فكرة السرير وتخيل غرفة النوم للمشاهد، نجد الفتاة (منة ناصر) تبحث عن النوم ولا تجده حيث نسمع دقات الساعة تسيطر علي المشهد ويعلو صوتها ونجد الفتاة تحاول أن تسد أذنيها لكي تنام ولا تستطيع فالصوت يعلوا ويزعجها وفجأة نجد صوت موسيقي يعلو ونجد إسقاط ضوئي علي خلفية خشبة المسرح عبارة عن اللون الاسود به بعض الرتوش والبقع أو الاشكال الغير منتظمة باللون الاصفر الباهت والتي قد توحي بتشتت الأفكار وتداخلها وهذا ما تأكده تلك المجموعة من مؤديين الأداء الحركي التي تقتحم المسرح فجأة وتتحدث بكلمات غير مفهومة وصوت عالٍ وفي نفس واحد ويرتدون جميعاً ملابس ذات اللون الأسود ونجد الفتاة تتشتت أكثر فتضع يدها علي وجهها ورأسها ثم أذنيها في حركة معبرة عن الانزعاج والتوتر ونفهم من خلالها أن تلك المجموعة هم أفكارها ومشاعرها أو أشباح ليلها كما يقال، أفكارها التي تسيطر عليها يومياً في آخر ساعة قبل النوم لتمنعها أن تنام وتنعم بتلك النعمة، تلك الأفكار نفسها متداخلة ومتراكمة وتعاني بداخل رأسها وهذا ما نفهمه من حركاتهم الجسدية بوضعهم أيديهم علي وجوههم معبرين عن المعاناة، وترجع دقات الساعة مرة أخري لنجدها تتزايد ويتداخل معها صوت الراديو بأن الساعة دقت التاسعة بتوقيت القاهرة ثم يتزايد صوت الموسيقي وتعلو آلة الكمان لنجد الإضاءة تشاركها بسرعة الحركة وكذلك الأداء الجسدي للأشباح السوداء معبرين عن مدي توتر الفتاة وتفكيرها المتزايد لنفهم أن كل تلك الأصوات في عقلها وبداخلها هي لا أصواتً خارجية، نجد كل الحركات الجسدية لمجموعة الأفكار معبرة عن المعاناة سواء بوضع أيديهم علي أعناقهم أو بتشنجهم وتعبيرهم عن التقيد بقيود وهمية، ونجد الفتاة تتلوي ولا تستطيع النوم من كثرة التفكير ثم تعلو أصوات الأجراس وتصبح الإضاءة وردية مع زرقاء لنجد أشخاص يدخلون بملابس النوم يعاني كل منهم من الأرق أيضا معبرين عن ذلك بحركات جسدية كالضرب باليد علي الأرض/السرير أو رفع أرجلهم الي أعلي أو غيرها من الحركات الدالة علي القلق والتوتر ويتجمعون في دائرة واحدة ونجد اسقاطاً ضوئياً بصورة المخ علي خلفية المسرح توضح مدي تعقيد المخ، في تلك الجزئية من العرض المسرحي شعرت بتشتت بين هل تلك الأشخاص هم أشخاص آخرين غير المتوحدين في اللون الاسود من الملابس معبرين عن شمولية الأفكار والمشاعر في رأس الفتاة طوال العرض المسرحي الحركي أم أن هؤلاء الأشخاص هم نفسهم أشخاص داخل عقل تلك الفتاة وهي تعرفهم وتعلم أنهم يمرون بنفس حالتها من الأرق، لنجد فجأة أغنية (الكون) للمغنية دينا الواديدي تعلوا وحينها تتجمع كل الشخصيات علي المسرح سواء بملابس النوم أو ب الملابس السوداء وكأن كل منهم يعبر عن مشاعره الخاصة لنجد أن مشاعر الفتاة تعيش جو من النوستالجيا وهي مرض الحنين الي الماضي ورفض الحاضر وحنينها كان لعلاقة عاطفية وهذا ما تؤكده كلمات الأغنية «بصفي للحياة والشمس تلسعني... قلبي مليان جراح وهموم ... واقفة في الماضي ودماغي توجعني... مش راضية بالحاضر مع أنه بيساعني ...» لنجد أيضاً الإضاءة الحمراء ساعدت في المشهد الرومانسي الذي سرعان ما انقلب من ذكري حب الي خذلان ووهم وخداع وتشتت وهذا ما أكدته الحركات الجسدية للفتاة والشاب المرتدين الأسود وكأن تلك العلاقة العاطفية انتهت بالفشل حيث كانت انحناءات للظهر والاكتاف وثقل في الحركة وأكدت كلمات الأغنية ذلك أيضاً “ انسرق الزمن ودفعنا التمن ...علي السبنا والي خانا والي بعنا ...رجلي اتلجلجت والأرض اتشقلبت أفكاري اتبدلت ..الوهم خداع...»، ونجد في موضع آخر من الأغنية بقولها ( ونجوم السماء بتدور) حدوث إسقاط ضوئي في نفس اللحظة بالنجوم علي خلفية المسرح، نخرج من تلك النوستالجيا بأصوات دقات الساعة والإضاءة الزرقاء وإسقاط ضوء عن طريق بؤرة إضاءة صفراء تحدد جسد الفتاة وهي تثني ركبتيها وتضمهما الي صدرها لا تستطيع النوم، وها قد بدأ اليوم الجديد عبر أصوات الأجراس معاد الاستيقاظ والذي هو دون نوم بالأساس لنجد الفتاة جالسة علي سلم المسرح واضعة يديها على خديها معبرة عن مللها ومعاناتها، في الوقت نفسه لنجد مجموعة تدخل ترتدي القمصان البيضاء وأربطة العنق مستخدمين كراسي ليجلسوا عليها ويحدثون حركات تعبر عن الروتينية في العمل والمعاناة ويتسارع إيقاع الموسيقي تزامناً مع إيقاع الحركة ويمكن أن يعبر هذا المقطع من العرض عن معاناة الفتاة من الحياة العملية المملة والروتينية، نجد ملابس المجموعة عادت للون الاسود مرة أخري ليؤكدوا علي الشمولية وتزاحم الأفكار وأن الصمت لا يعني الهدوء ولكن قد تحدث الأفكار ما لا يحدثه الكلام، لنجد كلمات الأغنية الأجنبية تعلو ونجد الفتاة تهاجم الأفكار السوداء ولكنها لا تقوي علي أن تغلبهم لنجدهم يتجمعون حولها كأنهم يلتهمونها، ثم نتحول الي جزء آخر من العرض المسرحي لنجد تلك الأفكار تتساقط كأوراق الشجر مع صوت العصافير الذي يؤكد علي طلوع النهار في نفس الوقت نجد خطوط وهمية أو ظلال لخطوط متوازية طولياً وكأنها تعكس الضوء الداخل من شباك الغرفة ويمكن اعتبار تلك الخطوط هي سجن للأفكار التي نامت مع طلوع النهار والتي سجنت معها أيضاً الفتاة، الأفكار نامت لكن الفتاة لم تنم، لنسمع كلمات الأغنية الأجنبية (I›m tired أو انا متعب) تعلو ونجد حركات الفتاة تعبر عن التعب والإرهاق ونجد أيضاً المجموعة كذلك لنجدها في النهاية تنام وتجتمع فوقها تلك الأفكار والمشاعر وكأنها لا تتركها حتي أثناء نومها لنجد في الخلفية عودة للإسقاط الضوئي المعبر عن التشتت فهو عباره عن اللون الأسود الذي يحوي رتوش وبقع رمادية أو صفراء باهت.
وجدنا في نهاية العرض المسرحي للأداء الحركي أنه مهما حدث فالأرق يلازم البطلة، وكما ذكرنا لا يعتمد المخرج علي الديكور كعنصر من عناصر السينوغرافيا ولكنه اعتمد علي الإضاءة والإسقاط الضوئي والإكسسوارات والأداء الجسدي الذي برع فيه صناع العمل وهم :منه ناصر، محمد عبدالعزيز، فادي جرجس، عصما، وليد، ميرو صلاح، آية محمود، عبدالقادر درادارو، ايمان حسن، آية ابراهيم، جنات ماجد، أحمد التيجاني، جيسي صفوت، فاطمة حاتم، منة اشرف، شروق يحي، عبدالوهاب محمد، مهاب تربو، شاهيناز اشرف، فوزوز، اسراء سامح، محمد ناجي، ملك عاطف.
نجد الإضاءة التي كانت من تصميم ابو بكر شريف مناسبة مع حالة العرض حيث تنوعت بين الازرق والاصفر فكانت قاتمة وعميقة توحي بوحشية هجوم الأفكار الليلية علي عقل الفتاة، كما أن الملابس السوداء عبرت عن الحالة الغامضة لتلك الأفكار، وفي النهاية كانت الحركات بسيطة كما ساعدتها الموسيقي والإضاءة في أن توصل مغذي فكرة العرض للمتلقي بسهولة.