العدد 891 صدر بتاريخ 23سبتمبر2024
( أولا )
القفزة الاستعارية التي نربط بها فكرة أداء الدور في المسرح بأداء الدور خارج المسرح لها جاذبية كبيرة . فلا يستخدمها فقط العديد من الناس العاديين في وصف تجربتهم العادية، بل تستخدمه مدرسة من علماء الاجتماع أيضا، وهم منظرو أداء الدور .
يولد كل فرد في هذا العالم مستعدا ينتظره كبار بالغون يتحكمون فيه، ولديهم توقعات معينة حول ما يجب أن يفعله هذا الإنسان الصغير، وما يجب أن يكون عليه . وترقى هذه التوقعات إلى مجموعة من النماذج المثالية التي يجب أن يتكيف معها هذا الصغير ؛ إذ يجب عليهم أن يتعلموا التسلسلات النموذجية للفعل . ويوجد تشابه واضح هنا مع المسرحية – المسرحية التي تعرض في عدة مواقع – التي يؤدي فيها عددا من الأفراد أدوارا معدة مسبقا أو مكتوبة مسبقا .
وعلى نحو مشابه للممثل الذي يتلقى اسم الشخصية التي يؤديها، يتلقى كل إنسان اسما يطلقه عليه الآخرون، ويصبح بالنسبة لنفسه هذا الكائن المسمى . عموما، يمكننا أن نوافق مع مارجريت ميد ونقول أنه بعد نقطة مبكرة معينة يصبح الطفل حاسما من خلال رؤية نفسه كما يعتقد أن الآخرين يفعلون، أي من خلال اتخاذ موقف الآخر تجاه نفسه ومن خلال أن يصبح كائنا اجتماعيا من وجهة نظره . فكيف يمكن أن يفكر في نفسه ويصبح محددا بشكل إنساني ؟ فما هو ذلك الطفل الذي نخفيه ونقمعه كما يروق لنا أن نعتقد ( وهو ما نساويه بالذات الأساسية – ولهذا فان فهمنا تقليدي للتقاليد) إلا مثل الممثل وراء الدور الذي يتعلمه .
وهذه الاستعارة مدعومة عموما أكثر من هذا . لأن محاكاة الآخرين يجب أن تحدث في النمط من التمثيل الأساسي للعالم، هو أمر ضروري لظهور أي تجربة متماسكة له . فأنا أصبح إنسانا من خلال تعلم فعل كل ما يفعله الناس الآخرين . فأنا مكون من وجهة نظر معينة، ومجموعة من السلوكيات تجاه عالم لا يمكن حصر معناه في أي وجهة نظر معينة . ويجب أن أحاكي ما يفعله الآخرين ويقولونه عن الأشياء . وأعود دائما إلى نفسي عن طريق الآخرين، ومشروطا بهم . فمثلا، أتعلم من الآخرين أن أتفاعل مع الخيول وكأنها شيئا أكثر قليلا من أن يمتطيها شخص، وعندئذ يمكنني أن أتساءل ماذا لو كنت أنا ذلك الشخص ؟ وهنا يدخل التذويب الأساسي والمثالية الذاتية لنفسي في العالم ( إلى جانب التمثيل الدرامي الذاتي الواضح : الذات كصياد، و فارس الخ ) . فحياتي مبنية ومستقطبة باحتمالات أنواع الوجود التي يحددها الآخرون إلى حد كبير . يبدو أن التمثيل الدرامي للذات بهذا الشكل المشروط أمر لا مفر منه . ويبدو أمر “ لا تبالغ في تضخيم ذاتك “ بمثابة إنكار دفاعي لحتمية مخيفة .
وبمجرد أن يتم تعميم تقديم الذات لذاتها لكي تضم كل التفاعل الاجتماعي بين الكبار والأطفال على حد سواء، يصبح إغراء الاستعارة المسرحية لا يقاوم عمليا . ونذكر هنا ايرفنج جوفمان وتقديمه الاجتماعي لحياة الكبار اليومية باعتبارها بنية درامية ذات طابع خيالي . اذ يفسر هذه الحياة في إطار مناطق أمامية أو مناطق على خشبة المسرح، ولا يبدو أن هناك شيء خارج خشبة المسرح بالنسبة لجوفمان، بل يوجد فقط خلف الكواليس، هذه خشبة مسرح أخرى – انها خشبة المسرح الخفية على بعض الآخرين . يتحدث جوفمان عن إدارة الانطباعات, بحق شيء أشبه بهذا يبدو حتميا في حياة الإنسان . فمثلا، الشخص في دور الفيزيائي يجب أن يقدم انطباعات معينة عن نفسه ويحصل على انطباعات معينة عنها أيضا (ويجب علينا إخفاء الآخرين) إذا كنا نصدقه، وتبعا لذلك يقوم بعمله ونستفيد منه . علاوة على أننا نقر بأن الجميع يشعرون بالحرج إذا تعارض السلوك مع الدور، فسوف ينزلق القناع، إذ يبدو أن نسيج حياة الإنسان نفسه مربوطة برموز، فمثلا، إظهار الصداقة، ومعظمها غير مختبر : المصافحة وذكريات عيد الميلاد، وما الى ذلك، تشكل صداقة على ما يبدو، حث أن المطالب التعبيرية للمهمة قد تهدم انجازها بالفعل، فمثلا قد لا يتمكن حكم مباراة البيسبول من استغراق الوقت الكافي في اتخاذ قراره للتأكد ... ونحن وعلى وشك الاتفاق : أجل .. «الدنيا مسرح كبير».
( ثانيا )
ولكن الاستعارة المسرحية، بكل قيمتها مضللة بشكل خطير . وسمكن بسهولة أن نفشل في ملاحظة الفروق الأساسية بين الأدوار المسرحية والأدوار خارج خشبة المسرح ( في الحياة) اذ يمكن رؤية الممثل على خشبة المسرح وتمييزه باهتباره كينونة منفصلة تماما عن الدور الذي يؤديه . فنحن نرى الممثل بيرتون باعتباره هاملت. ونرى هامت في الخيال المتجسد يقتل كلاوديوس، وليس الانسان يبرتون يقتل الانسان الذي يؤدي دور كلاوديوس . ولا نندهش عندما نرى بيرتون وهذا الانسان يتناولان الشراب معا بعد العرض . ولكن الاستعارة تغرينا أن نعتقد بأننا كأشخاص خارج خشبة المسرح كينونات منفصلة بمعزل عن أدوارنا، من ثم اما أن نزعم أن الذات الحقيقة مجهولة ( لأننا دائما نؤدي أدوارا) أو أننا لمحناها عندما انزلق الدور مثل القناع . ويؤكد جوفمان أن ما نلمحه هو نظرة الانسان المنغمس في مهمة غدارة وصعبة . والمهمة هي ادارة الانطباعات عن الذات الأخرى المقدمة لهم من . ولذلك، فان الوجه العاري الذي نلمحه يجب ألا يكون اجتماعيا أو اجتماعي مضاد . والآن، أعتقد أن هذا، ليس فقط لأنني أعتقد أن الفكرة منفرة للغاية، بل إنها خاطئة أيضا .
أنا الأدوار التي أقوم بها، ولكنها ليست مجرد أدوار . لماذا ؟ . فرؤية جون لوك الثابتة ( حتى الآن) هي أن الإنسان ليس هو الكينونة التي يعتقد أنها نفس الكينونة التي كان عليها سابقا . من الممكن، بالطبع، أن يخطئ المرء في أمور محددة حول هويته، مثل مواجهة أدلة دامغة، وعلى العكس من ذلك يعتقد شخص أنه أستاذ جامعي . وفي حالة تعيين نفس الشخص كأستاذ جامعي، فلن يعتبر هو، ولا أي شخص آخر، أن هذا الدور شيئا مختلفا عما يقوم به ( ما لم يكن من منظري الأدوار ذوي الطباع الساذجة ) .
إننا نستنتج الآن من فكرة لوك أن حقيقة الشخص لا يمكن فصلها عن بنية تبنيه أو لذاته أو قصده اياها : إن “الأدوار” المختلفة التي أتذكر أنني لعبتها، وأتخيل أنني ربما ألعبها، والأدوار التي أتخيل أنني لم أتخيلها بعد، كلها مقصودة لتكون لي، وأنا، هذا الشخص الوحيد . لذا لا يمكنني أن أقصد نفسي أن أكون هذه الأدوار الفعلية المتنوعة فقط. لا يمكنني أن أقصد نفسي أن أكون، وبالتالي لا يمكنني أن أكون (لأنني كائن واعٍ بذاته)، مجرد مجموعة من الأدوار الفعلية في الامتداد. فيجب أن أفكر في نفسي باعتباري موجودًا، ويجب أن أكون، على الأقل، غير واعٍ بالأدوار الفعلية والممكنة. لقد ترك جوفمان العضو الأكثر أهمية في “جمهوري” - نفسي، نفسي باعتبارها حاضرة دائمًا لنفسي - في الأدوار التي أؤديها. إنه يتجاهل البنية الواعية للذات، وقطبية الأنا والأنا، والشعور المتراكم لدى المرء بحياته العابرة في كل حلقاتها، والوعي الممتد عبر الزمن للذات والذي يشكل جزءًا لا يتجزأ من الذات ذاتها. إنه لا يتناول إلا ما أسماه ويليام جيمس الذات الاجتماعية، أو “الذوات”. وكما قال كورت رايزلر في حكمة، فإن الأنا تستجيب لعدد غير محدد من الأنا.
بالطبع، إذا لم نوافق على ما نفعله في “دورنا “ خارج المسرح أو لم نر أهمية له، فإننا سوف نشعر بالغربة . ولكن بشكل يائس، لأن الذي نشعر بالاغتراب عنه هو أنفسنا . وبالتالي نشعر بالاغتراب عنها . وقد نحاول التخفيف من شعورنا بالذنب من خلال تبني موقف جمالي عن دورنا، مثلما يفعل الممثل تجاه الدور الذي يلعبه . ولكن بافتراض قدر من العقلانية، فان هذا لن يؤدي الا الى المزيد من الشعور بالذنب لأننا نكون مسئولين عندئذ عن اتخاذ موقف غير مناسب واتجاه للهروب من المسئولية .
تطمس الاستعارة الفوارق الأساسية بين ما هو خارج المسرح وما هو بداخله .
فعلى المسرح، يُنظَر إلى جميع الأدوار على أنها مناسبة وسليمة :(1) مركبة أو مختلقة، و(2) غير فعّالة سببيًا في أهميتها الموضوعية في مواجهة العالم المحيط بها مباشرة خارج المسرح (فعلى سبيل المثال، يظهر الممثل الذي تُقتَل شخصيته بعد ذلك مباشرة في حانة). ولكن خارج المسرح، لا يُسمَح بمثل هذا التكوين للحظة إذا تم الكشف عنه (إنه زائف، خدعة للثقة)، ولا تُعَد جميع “الأدوار” مركبة على هذا النحو. ويمحو القياس التمييز بين المسموح به أخلاقيًا وغير المسموح به، وبين تلك السلوكيات التي يتم إعدادها للحظة وتلك التي لا تتجزأ، والمألوفة، والمسموح بها، والتي يُنظَر إليها من قبل الجميع على أنها كذلك - تلك التي تشكل هويتي . إن هذا الاختزال هو الذي يرى أن كل “الأدوار” زائفة إلى حد ما، ولا يستطيع أن يفسر كيف يمكن أن نهتم ليس فقط بالظهور بمظهر جيد، بل وأيضاً ـ مهما كان ضعيفاً ـ بأن نكون كذلك. ولا يستطيع أن يفسر كيف قد لا نخشى الكشف فحسب، بل ونخشى أيضاً ألا ننكشف (ونصحح). إن الشعور بالذنب ليس مجرد خوف .
ولكن في النهاية، لا يمكن توسيع مفهوم “الدور” ذاته إلا إلى هذا الحد. ويحاول علماء الاجتماع ترسيخه من خلال ربطه بالوضع الاجتماعي، على سبيل المثال، “دور” الطبيب. ولكن إذا كان مرتبطًا بالوضع الاجتماعي، فلا بد أن يتبع بعض القواعد أو الأنماط العامة، وأن يكون قابلاً للتكرار، وأن يكون قابلاً للتنفيذ من قِبَل عدد غير محدد من الأفراد. ولكن أي عمل إبداعي يقع خارج هذه المصفوفة، كما هو الحال مع النشاط الجنسي غير المقيد، على سبيل المثال، وكذلك أي تكرار للترتيبات الفرعية السابقة للمجتمع ومحاكاة الذات “المتضمنة” في داخلنا قبل أن تصبح أي أفعال محاكاة اجتماعية ممكنة لها. إن نظرية الدور التي وضعها جوفمان تغفل كلًا من ما قبل الاجتماعي وما هو فوق الاجتماعي (الأخلاقي، على سبيل المثال، كما يفهمه كانط)، ولا يعد أي منهما بالضرورة غير اجتماعي ولا معاديًا للمجتمع.
انني مسئول عن سلوكي خارج المسرح بطرق تختلف جوهريًا عن مسئوليتي عن سلوكي على المسرح. وكما لاحظ أرسطو، لا يمكن الحكم على خاصية النشاط الفني إلا من خلال خاصية المنتج الفني الذي تم إنتاجه (في المسرح، أداء عابر، دور تم لعبه). ومن ناحية أخرى، فإن الخاصية الأخلاقية للنشاط اليومي لا تتحدد إلا من خلال جودة ذلك النشاط نفسه، أي على أساس الحالة الذهنية للفاعل، وما إذا كان ينوي القيام بالشيء الصالح لمجرد صلاحه. إن المسؤولية الأخلاقية هي شرط من شروط هوية الذات أنا الكائن، وليس غيره، المسئول عن السلوك، ولا يمكن حصر عواقبه ومعاييره في إطار العمل الفني. إن جوفمان، من خلال إضفاء طابع جمالي على السلوك من خلال نظريته عن الدور، يساهم في تفكك الذات وتحللها.4 إذ يقترب موقفه من العدمية، وقد عبر عن ذلك بشكل مبالغ فيه ناثانيال ويست في إحدى رواياته عندما يصور ممثلاً عجوزاً وحيداً في منزل في تلال هوليوود: ففي عملية الموت الفعلي، يقوم الممثل بدور شخصية تحتضر. وهذا يبدو لنا فاسداً وبائساً لأن الرجل لديه معايير جمالية وأخلاقية مربكة. وهو يتصور مخادعاً أن نشاطه سوف يُحكم عليه وفقاً لمعايير الأداء التي ستترك مكانته ككائن يؤدي (أو لا تمسه إلا مهنياً)، في حين أن وجوده ذاته يموت في الكراهية والارتباك. إن كل دور، سواء كان خارج أو على خشبة المسرح، يشتمل على وعي متجاوز للدور يحكم على خاصية النشاط، وهو الحكم الذي لا يمكن الحكم عليه بدوره على أساس ملائمة معايير الحكم الخاصة به.
ولكن ماذا لو زعمنا أن هذا الوعي المتجاوز بالدور ما هو إلا دور آخر ـ دور يقيم الأدوار، دور فوقي ـ وهو دور مشروط ثقافياً مثل أي دور آخر، وبالتالي لا أكون مسئولاً عنه؟ والإجابة على هذا السؤال مباشرة تماماً: فنظراً للانعكاسية التي لا تنتهي للوعي، ومن ثم الذات الذاتية التي تتراجع باستمرار ولا يمكن إضفاء الصفة الموضوعية عليها، أستطيع أن أدرك هذا “الدور فوقي” باعتباره كائناً مقصوداً، ونشاطاً أكون مسئولاً عنه، وبالتالي لا يمكن اختزالي فيه. وعلاوة على ذلك، ونظراً لظهور أي رؤية إبداعية غير متوقعة أو ربما غير قابلة للمشاركة للوعي، فإن مفهوم لعب الأدوار يفقد كل محتواه؛ فهو مجرد تجارة بالكلمات. والفكر التأملي والخيالي هو الذي يوقفنا في أغلب الأحيان عند رؤى جديدة أو منسية سابقاً، ويعيدنا إلى أنفسنا، ويزيل الآليات ويزيل الدعاية عن سلوكنا.
....................................................................................
بروس ويلشير: فيلسوفً أمريكيً درس في قسم الفلسفة في جامعة روتجرز، والذي تقاعد منها كأستاذ فخرية في عام 2009. بداية كمتخصص في ويليام جيمس، أصبح معروفًا بعمله في الفلسفة والمسرح، وانتقاداته للفلسفة التحليلية، واهتمامه بالفلسفة الأمريكية الأصلية.
نشرت هذه المقالة في ضمن كتاب الهرمنيوطيقا الثقافية Cultural Hermenutics في الصفحات 199 -207.