الستات ما يعرفوش يكدبوا!!

الستات ما يعرفوش يكدبوا!!

العدد 891 صدر بتاريخ 23سبتمبر2024

كان ناقد جريدة «البلاغ» الفني «أنور عبد الملك» أول من نشر كلمة عن مسرحية «الستات ما يعرفوش يكدبوا» في أواخر أبريل 1938، قال فيها: لقد وفق الأستاذان بديع خيري ونجيب الريحاني في ترتيب حوادثها وجعلها عامرة بكل طريف مستحب، ولذلك أخرجت الرواية تحفة فنية جميلة حاوية لجميع ما تتطلبه الرواية الكوميدية من شروط النجاح ولم يفتهما في ثناياها أن يوجها انتقادهما اللاذع لأكاذيب السيدات التي تسبب لهن ولأزواجهن متاعب كثيرة يمكن تحاشيها بذكر الصدق وعدم الإمعان من التلفيق.  
ولا بد من الإشارة هنا إلى توفيقهما في اختيار العبارات الخاصة بكل شخصية من شخصيات الرواية فهما يجعلان كل واحدة منها تتحدث بلسانها الطبيعي الذي تنطق به في الحياة مما يدل على اختيارهما ومعرفتهما التامة بالأوساط المختلفة التي يدمجان بعض شخصياتها في رواياتهما وعنايتهما باختيار كل كلمة حتى لا يوجد بينها ما يسيء إلى الذوق السليم. وقد أخرجت الرواية بإتقان تام دلّ على سلامة ذوق الأستاذ الريحاني فبدت مناظرها وأجيد تنسيق الأثاث فوضعت كل قطعة منه في المكان المناسب وبذلك أمكن لجمهور المسرح أن يشاهد كل شيء بوضوح تام وعرف الأستاذ الريحاني كيف يحرك شخصيات الرواية الحركات المناسبة التي جعلتنا نشعر بأنها شخصيات حية لا أثر لصناعة التمثيل فيها. ولم تحتوِ الرواية على أكثر من منظرين أعظمهما الإضاءة الجميلة رونقاً ممتازاً وشكلاً معبراً عن ذوق فني صحيح. ولا يفوتنا التنويه بعمل فلاديمير الذي أمكنه أن يوفق في إدارة المسرح إلى حد بعيد. ومثل الأستاذ نجيب الريحاني دور «نوح أفندي» ومن العبث أن يحاول الكاتب التحدث عن الريحاني ومقدرته على أداء أدواره وكل ما يمكن أن نقوله عنه هو أنه حاول أن يتفوق علي نفسه في جميع أدواره السابقة ويخيل إلينا أن محاولته كانت ناجحة. وكانت شخصيته في هذه المرة موافقة له تماماً فهو الرجل البريء الذي يذهب ضحية الأكاذيب وقد استطاع أن يعبر بحركاته وإشاراته عن مقدار الظلم الذي وقع عليه، كما أن خفة روحه وظرفه المتناهي وبهجة حديثه جعلتنا نضحك من أعماق قلوبنا. ولا نستطيع أن ندعي أن الريحاني قد أجاد أحد الفصول دون الفصلين الآخرين ولكن يمكن القول بأنه موفق مع مبعوثي مستشفى الأمراض العقلية في نهاية الفصل الأول كان نصراً له فقد أثبت جنونهم مع أنهم حضروا لإثبات جنونه. ومثل الأستاذ حسن فائق دور «نظمي» فكان من أحسن أدواره التي مثلها ونجح فيه إلى حد بعيد. ومثل الأستاذ الفريد حداد دور «بنايوتي» فكان ظريفاً وأمكنه أن يدخل في روعنا أنه يوناني حقيقة. ومثل الأستاذ محمد كمال المصري دور «الباشجاويش» فكان نجاحه تاماً لعادته في كل مرة. ومثل الأستاذ عبد الفتاح القصري دور «مبيض النحاس» فأداه على أحسن وجه. أما الأدوار النسائية فقد مثلت السيدة ميمي شكيب دور «بسيمة» الزوجة الكاذبة فكانت لطيفة جداً وهذا الدور يعد من أكبر الأدوار التي رأيناها تمثلها فهي تظهر على خشبة المسرح من بداية الرواية حتى نهايتها وهي أهل لكل ثناء وتقدير. ومثلت السيدة زوزو شکيب دور «المرضعة» فكان دوراً صغيراً ولكنها أجادته إجادة ظاهرة فكانت «بنت بلد» حقيقة وأمكنها أن تنطق عبارات دورها. ومثلت السيدة ماري منيب دور «بثينة» وقد أدته بدون تكلف. ومثلت زينات صدقي دور «نبوية» ابنة مبيض النحاس فكانت ظريفة وكان الدور مناسباً لها. ومثلت السيدة فيكتوريا حبيقة دور «أم إلياس» فكان دوراً موفقاً لها. واشترك في التمثيل عدا هؤلاء السيد فخر الدين أفندي والسيدة شفيقة جبران. وفي النهاية أرى نفسي مضطراً لتهنئة جميع أفراد فرقة الريحاني على مجهودهم الموفق في إظهار هذه الرواية الجميلة بهذا الشكل الرائع.
كما نشرت مجلة «الصباح» في أواخر أبريل 1938 أيضاً مقالة عن المسرحية، جاء فيها الآتي: من قال أو من يجرؤ أن يقول إنهن كذابات؟ مَنْ مٍن الرجال يستطيع أن يقرر هذه الحقيقة الرائعة ولا يناله أشد مما نال نظمي بك الصنافيري الذي تزوج من بسيمة هانم التي لا تعرف شيئاً في الدنيا سوى الكذب ومع ذلك فهي تتنكر أنها كاذبة وهي ماضية في كذبها الجريء حتى لقد خلقت من المتاعب والمشاكل لزوجها ما لا قبل لأمة بأسرها احتمالها! تخرج إلى الطريق فتلتقي بصديق زوجها «نوح أفندي» ولعلك عرفت من هو نوح أفندي هذا، أنه الأستاذ نجيب الريحاني ولا ريب في ذلك، المهم أنها تلتقي بنوح فتدعوه لأن يذهب معها إلى السينما حتى يحول بين الشبان الفاسدين وبينها، وطاوعها نوح المسكين وهو لا يعلم ما سوف يلقاه من متاعب وما سوف يناله من أذى. وعادت الزوجة المصونة الكرامة إلى بيتها لتدعي كذباً أنها كانت تشاهد «طلعة المحمل» التي فات عليها ستة شهور فظن الزوج بزوجته السوء وأضمر لها الشر وبينما هو على وشك أن يعرف شخصية من كان مع زوجته في السينما إذ بنوح يضحي ببضع عشرات من الجنيهات في سبيل إسكات عامل السينما الذي كان معتزماً أن يدلى باعترافه! ويجن جنون الزوج فيفضل السفر إلى الهند في عمل تجاري بعيداً عن هذه الزوجة الكذابة التي لا تعرف للحياة طعماً إلا في ظل الكذب الذي يشكك الزوج فيها ويزيد في متاعبه وآلامه. فإذا ما سافر فقد تفتقت ذهنية الزوجة الكذابة عن كذبة جريئة فتدعي أنها حملت من زوجها وولدت بينما هي قد اتفقت على شراء طفل حديث الولادة. وهي تريد بهذه الكذبة أن ترغم زوجها على الحضور على عجل وقد حضر فعلاً ليشاهد ولده العزيز فإذا ما عاد فقد كان سعيداً بهذه البشرى الجميلة وقد غفر لزوجته كل ذنوبها من أجل عيون المولود السعيد. وهنا تحدث حوادث عجيبة ومفاجآت طريفة حول الطفل المتبنى بل حول الأطفال الذين بلغوا ثلاثة بسبب الارتباك الذي لازم المواقف كلها فزادها جمالاً وظرفاً. وأخيراً تتكشف اللعبة وتعرف الحقائق أو الأكاذيب. ومع ذلك فالستات ميعرفوش يكدبوا!! والرواية ظريفة إلى أبعد حدود الظرف وهي أظرف روايات الموسم بلا منازع. ويبدو جلياً أن المؤلفين قد اعتنيا كل الاعتناء بها وبصناعة الألفاظ والجمل التي يستمع إليها المتفرج فيعجب بها ولها ويرى فيها عناء ما تبلغ إليه الصناعة اللفظية الفنية التي تعجز الكثيرين. 
أما التمثيل فقد بلغ الغاية التي ليست بعدها غاية في أمثال هذه الروايات حتى لم نعد نشك أننا أمام أقوى فرقة هزلية في هذه البلاد. الأستاذ نجيب الريحاني أو نوح أفندي للمرة المائة بعد الألف نقول إنه ليس لدينا من جديد نقوله عن هذا الممثل النابغة، لكن هذا لا يمنعنا إطلاقا من أن نقول ونكرر أننا أعجبنا به كل الإعجاب وأنه كان ظريفاً لبقاً يعرف كيف يبتدئ الجملة وكيف ينتهي منها وكيف يقولها فيبلغ ما يريد بها ويبلغ من التأثير على النظارة مبلغاً يحسد عليه، ومن العجيب أنه بعد أن نال شهرته في شخصية «كشكش بك» عمدة كفر البلاص استطاع أن يخلع عنه هذه الشخصية التي عرف بها وأن يعود رجلاً عادياً على المسرح ومع ذلك فقد أحتفظ بمكانته بل قل ارتفع بها ونال إعجاب الجميع. أما الأستاذ حسن فائق في دور نظمي بك، فقد نجح في هذا الدور نجاحاً عظيماً ووفق فيه كل التوفيق، وفي رأينا أن حسن فائق قد تبدل شخصاً آخر غير الذي كنا نعرفه في الماضي، ولقد كشف في هذا الدور عن مقدرة تامة على القيام بأدوار ممتازة فنهنئه. والأستاذ محمد كمال المصري هذا هو «الشاويش» الأول في مصر، ومن المسلم به أنه لا يوجد من ينازعه في شخصية الشاويش، ومهما بلغ الدور من البساطة فإن كمال المصري بمجرد ظهوره على المسرح يجعل منه شخصية هامة. والفريد حداد في دور «بنايوتي» رغم أن الدور كان صغيراً لكن الفريد كان لبقاً في تأديته على الوجه الأكمل. ومحمد مصطفى «الدكتور» دور صغير وممثل ناجح! وميمي شكيب في دور «بسيمة هانم» أصبحت من الشخصيات الممتازة على المسرح من كل الوجوه، فشخصيتها جذابة وفنها رائع، وهي تمثل بطبيعتها تمثيلاً ناجحاً إلى أبعد حدود النجاح وقد وجد فيها الأستاذ نجيب الريحاني خير زميلة تعاونه على العمل بالطريقة التي يعمل بها، وهي محاولة الظهور بهـذه الغرائب التي يمثلها بالمظهر الطبيعي البسيط الذي يرضي المتفرج ويعجبه ويجعله يغرق في الضحك كما غرقنا نحن إلى الآذان. أما زوزو شکيب فقامت بدور المرضعة بمنتهى البراعة، وهي ليست مرضعة بالمعنى المفهوم لهذه الكلمة ولكنها «بنت لعبيّة» ترى من حقها إذا عملت في بيت من البيوت أن تشترك مع الزوجة في سيد البيت ورب العائلة! وهي لا تأبه لعرف ولا تعرف معنى الأدب وهي فاتنة ساحرة جذابة تلعب بالبيضة والحجر. ومن حق بسيمة هانم أن ترفض مرضعة كهذه فقد رفضتها ولكن «نوح أفندي» لم يسلم من لسانها الظريف ذي اللكنة المحببة، وراح نوح أفندي هو أبوح أفندي في نظرها لا أكثر ولا أقل. أما ماري منيب في دور «بثينة» فكان دورها عادياً لأنه همزة الصلة بين أبطال الرواية لكن صاحبته الممثلة الجديرة بمهنتها قد جعلت فيه شيئاً مذكوراً بتمثيلها الطبيعي فاستحقت كل ثناء. وزينات صدقي «نبوية» فدورها شاذ يلفت النظر ونجحت فيه زينات نجاحاً ملحوظاً، وبقدر ما أعجبنا بزينات في أدوار النساء العابثات الساخرات و«الشلق» فقد أعجبنا بها في هذا الدور العجيب، هي فتاة ريفية ساذجة، لكن سذاجتها من نوع غريب، وامتزجت الغرابة بالطبيعة فأنتجت شيئاً بديعاً حقاً. أما فيكتوريا حبيقه في دور «أم إلياس» فقد خرجت عن نطاق حياتها العادية والتزمت الصدق تماماً. وشفيقة في «زوبة» دور ظريف وممثلة ناجحة. وقام محمد مصطفى بدور الدكتور وأحمد جمال بدور الشاويش والسيد محي الدين بدور بُحلُق فكانوا موفقين. وبعد فقد ضحكنا منذ رفعت الستار وظللنا نضحك حتى بعد إنزال الستار وكلما تذكرنا المواقف الجميلة المسبوكة والمفاجآت الظريفة المحبوكة عدنا نضحك ونضحك حتى لقد ظن بنا البعض سوءاً وما بنا من سوء ولكنه الإعجاب ثم الإعجاب ثم الإعجاب.
أما مجلة «المصور» فكانت الأخيرة في متابعتها لهذا العرض والكتابة عنه، قائلة: «الستات ما يعرفوش يكدبوا» هذه هي الرواية الثانية والأخيرة لموسم الريحاني. وقبل أن نبدأ في الكلام عنها، نحب أن نسجل ظاهرة جديدة امتازت بها هذه الرواية، وهي أن الفصل الثالث فيها كان منتهياً قبل تمثيلها بثلاثة أيام، وهذا ما لم يسبق حدوثه في رواية من رواياته بل كان الفصل الثالث ينتهي دائماً يوم التمثيل، إن لم يكن قبل بدء التمثيل بساعات. وهذه الظاهرة الجديدة نرحب بها كل الترحيب ونسأل الله أن يديمها نعمة على المؤلفين بديع ونجيب .. وتتلخص هذه الرواية في أن بسيمة زوجة نظمي بك تكذب كثيراً لمجرد حبها في الكذب وقد تملكها هذا الحب لدرجة أنها كانت إذا سئلت عن الساعة قدمت الوقت أو أخرته! وتصادف أنها كانت ذاهبة إلى السينما فقابلت في طريقها «نوح» أفندي وهو أحد أقربائها وصديق حميم لزوجها ..... [إلخ القصة].
وتحدث الكاتب عن «الإخراج والتمثيل»، قائلاً: سر نجاح الروايات هو إسناد الأدوار إلى الممثلين الذين تتفق أخلاقهم مع تلك الأدوار فلا يجوز مثلاً أن يعطى دور الرجل العصبي إلى رجل من أخلاقه البرود والعكس بالعكس. وهذه النظرية بالذات هي سر نجاح نجيب في إخراجه، فهو يوزع الأدوار بين ممثليه حسب اتفاق شخصياتهم مع الأدوار بدون التفات إلى أن هذا الممثل كبير أو صغير أو أن الممثل يجب أن يؤدي دوراً ليستحق أجره. ففي هذه الرواية لا يظهر جمجوم بالمرة وليس هناك من ينكر مقدرة جمجوم ولكن ليس في هذه الرواية دور يتفق مع أخلاقه الشخصية ويجعله يظهر بالمظهر الفني الذي هو جدير به. وقد قام نجيب بدور نوح فكان الرجل الطيب القلب حقاً الوفي حقاً في سهولة وبساطة طبيعية ينسى معها الإنسان أنه أمام ممثل على خشبة المسرح. وعاش حسن فائق في دور نظمي فأثبت أنه ليس اختصاصياً فقط في أدوار «العبط» وإنما يستطيع أن يؤدي أدواراً أخرى. أما ميمي شكيب فقد كانت مالكة دورها منذ رفع الستار إلى نهاية الرواية فكانت تكذب أشنع الكذب ببساطة تجعل الإنسان يعتقد أنها في حياتها كذلك. وشاركتها في هذه الميزة ماري منيب فلم يكن من السهل معرفة أيهما أجنح إلى الطبيعة وأجرأ على الكذب. وللمرة الثانية تظهر زوزو شكيب بالملاية اللف والحق يقال إنها كانت جميلة جداً في هذا الزي وكانت مرضعة يتمنى كل واحد أن تكون مرضعة طفله. وكذلك أحسنت زينات دور الريفية الفقيرة. بقيت فكتوريا حبيقة «أم إلياس» وقد برهنت هذه الممثلة على أن الجوهر لا يصدأ وأن الذهب لا يمكن أن يتحول حديداً. وقد أثبت القصري أنه الاختصاصي الوحيد في الأدوار البلدية. وقد عني نجيب عناية خاصة بمناظر الرواية فجاءت خليطاً من الذوق والأناقة والفخامة.


سيد علي إسماعيل