ما حدش واخد منها حاجة

ما حدش واخد منها حاجة

العدد 896 صدر بتاريخ 28أكتوبر2024

أعلن الريحاني عن عرض مسرحيته الجديدة «ما حدش واخد منها حاجة» على أنه سيبدأ عرضها يوم 31 يناير 1940 على تياترو ريتس بشارع عماد الدين، على أن يقدم حفلة نهارية بأسعار مخفضة يومي الخميس والجمعة، ولكن الظروف لم تمكنه من العرض في الموعد المحدد، فأعلن عن موعد جديد هو يوم السبت الثالث من فبراير، وبالفعل تم العرض في موعده. والمسرحية تأليف مشترك – كالعادة – بين الريحاني وبديع. وذكر الناقد «عبد الشافي» - صاحب مجلة «الصباح» وناقدها الفني – ملخصاً وافياً عن العرض قال فيه:
افتتح بهجت أفندي محل حلواني أسماه حلواني العز، وكان يعلق عليه آمالاً واسعة في الربح والثراء، لكن خاب أمله فلم يصب إلا البوار والكساد ووقف الحال .. حتى أصبح في آخر الأمر يتهرب من الدائنين تارة، ويعجز عن تنفيذ مطالب زوجته تارة أخرى، مما أدى إلى جعله موضع عناية حماته دائماً، وما أدراك ما عناية الحموات! وزاد الطين بلة حينما سمع الجرسون «كوكو» يقول لزوجته «عيوشه»: «قتيل الهوى وحبيبي” فتسرب إلى نفسه أن بينهما غراماً وهوى، فطرد الجرسون من الخدمة. كما طرد زوجته فسافرت مع أمها إلى الإسكندرية مسقط رأس الأسرة، بعدئذ يقع نظر بهجت أفندي على أحد زبائن المحل فإذا هو «أبو العلا» زميله من عهد الدراسة في المهندسخانة فيشكو إليه حاله ويقص ما يعانى من المآسي! ويستمع أبو العلا إلى حديث يجري بين مخرج سينمائي وممثل من زبائن المحل فيقول المخرج للممثل: “أنت متضايق من الدنيا.. ولازم ترمي روحك من فوق كوبري قصر النيل”. وحينئذ تخطر له فكرة أن يذيع وينشر في الصحف أن الذي قذف نفسه من على كوبري قصر النيل هو «بهجت أفندي» ويتخذ بهجت أفندي له شخصية أخرى هرباً من الدائنين .. ويشاء سوء حظه أن يحدث هذا في اليوم الذي تربح فيه «نمرته العقارية» التي كان يدفع أقساطها [أي نوع من الياناصيب] ولكن كيف يصرفها ونبأ الوفاة نشر في الصحف! أخيراً يرى أن يحتفظ بها إلى الوقت المناسب! ولا تقف المسألة عند هذا الحد.. بل أن عامل التليفون بجريدة الأهرام، يرسل النبأ إلى «الحانوتي» فيحضر مع رجاله سريعاً إلى المنزل ليقوم وحدة بمهمة الدفن .. كما تحضر حماته من الإسكندرية! وهنا يجد بهجت أفندي في زيه الذي تخفى فيه العجب .. فيرى ويسمع الذين حضروا للتعزية أو للسير في الجنازة وما يرمون إليه من أغراض ومآرب .. وأن الأصدقاء والأقارب والأصهار ليسوا جميعاً إلا عصابة من الأشرار .. ما عدا الزوجة فهي وحدها التي لم تتحدث عن زوجها إلا بالحسنى .. ويناديها قلبها بأنه لم يمت! ويكتفي بهجت أفندي بهذا الدرس البليغ فيكشف للعائلة عن نفسه وتكون المفاجأة الكبرى، فيجري العتاب بينه وبين زوجته ويسألها عن مسألة “قتيل الهوى وحبيب قلبي»، فتخبره أن هذه أسماء خيل تراهن عليها لأنها اعتادت أن تشترك مع الجرسون في بعض «باروليهات» كل أسبوع!
بعد هذا الملخص، ذكر الناقد بعض الملاحظات على موضوع العرض، قائلاً: المعروف أن الأستاذين نجيب الريحاني وبديع خيري في كل رواية يقدمانها إلينا يكون لهما فيها هدف اجتماعي يرميان إليه، وتتفرع من هذا الهدف نواح اجتماعية شتى جديرة بالنقد، ولكن لم تكن هذه رغبتهما الصادقة في رواية «ما حدش واخد منها حاجة» .. فقد وجها جهودهما كلها إلى الناحية الفودفيلية التي كانت محبوكة الأطراف مكونة من قصص مسبوكة ومفاجآت متتالية .. ولم نجد حواراً اجتماعياً إلا في القليل .. أو فيما نستنتجه نحن من الرواية كمتفرجين! ولقد صادف تأليف الرواية على هذا النحو نجاحاً كبيراً جداً حيث كنا نضحك، وكان الجمهور يستمر في الضحكات دون انقطاع من بدء الرواية إلى نهايتها .. وهذه مهارة جديرة بالإعجاب والتقدير .. إلا أننا مع ذلك نعتقد أن الأستاذ نجيب الريحاني بينه وبين نفسه لا يمكن أن يضع موضوع الرواية من الناحية الاجتماعية إلى جانب رواياته الأخرى. وهناك بعض ملاحظات سريعة يجب أن نذكرها: أولاً، وجدنا محل «حلواني العز» كثير الزبائن .. ولكن لم نفهم بعد سر هذا الكساد .. وكان يمكن أن نفهمه إما من الحوار أو من بعض زبائن بلطجية، كان يجب أن نراهم من بين زبائن المحل. ثانياً، المُحصل الذي دخل إلى المحل فأنكر بهجت أفندي نفسه، ألم يُحصل منه شيئاً من قبل حتى يجهل شخصيته؟ وإذا كان لم ينظر إليه فهل من المعقول أن يعرف بأنه قد ربح «بريمو» العقاري دون أن يبلغ هذا النبأ السار إلى موظف المحل؟ ولماذا أنبأهم بعد أن علم بوفاته؟ ألم يكن من الأحسن زيادة عدد المحصلين الذين يحضرون من لدن البنك .. حتى نجده هو في أحرج المواقف في الوقت الذي يتسابق فيه كل منهم ليبلغه هذه البشرى السعيدة. ثالثاً، رأينا الزوجة تغضب لأن بهجت أفندي زوجها أخذ منها الخمسين قرشاً التي أخذتها لشراء «كمامات» ليدفعها قسطاً من الديون المتراكمة عليه، بينما الوفاء الذي رأيناه في هذه الزوجة كان يجب أن يحملها على التفاني في سبيل إرضاء زوجها بقدر الإمكان .. وإذا كان لا بد من أن تغضب فكان يجب أن تكون الخمسون قرشاً ثمناً لأشياء ضرورية جداً مثل الأكل والشرب، لا لمسائل كمالية مثل «الكمامات»! فإننا لا نعرف أسرة مأزومة تشترى «كمامات»!
وتحت عنوان «الإخراج» قال الناقد «عبد الشافي»: كان إخراج الشخصيات في غاية الجمال وفي منتهى القوة .. وإذا عرفنا أن وقائع الرواية كانت سريعة ومفاجآتها كانت متتالية، عرفنا المجهود الذي بذله الأستاذ نجيب الريحاني كمخرج مع تلامذته وتلميذاته الأفذاذ ويكفي دور «المُنجمة» الذي كانت تمثله ممثلة ناشئة لكنه خرج نداً للأدوار الكبيرة في الرواية. وعن «التمثيل»، قال الناقد: الأستاذ نجيب الريحاني قام بدور «بهجت أفندي» صاحب محل حلواني العز، الذي كسدت تجارته .. ومن أجل هذا الكساد حدث ما حدث، فهو بعينه الريحاني صاحب الشخصية الجبارة التي تسيطر على المتفرجين فيتيهون إعجاباً بفنه وقدرته. السيدة «ميمي شکيب»، دورها صغير جداً، ولم يكن له أهمية في الرواية وقد قامت به كما يجب. أما «زوزو شكيب» هي بطلة الرواية، ولكنها لم تنتهز هذه الفرصة لتظهر مواهب تجعلها جديرة بمثل هذه الأدوار العظيمة، فهو دور زوجة وفية لزوجها، وزوجها يتهمها بأنها عشيقة لجرسون. فلم نجد منها القدرة التي تبرهن بها على أنها لا تقبل هذا الحكم من زوجها عليها. نعم أن الحوار لم يكن فيه شيء من هذا القبيل، ولكن قليلاً من التمثيل يغني عن الكثير من الحوار! والسيدة «ماري منيب» كانت مدهشة جداً وناجحة جداً، فلها كل تهنئة. و«حسن فايق» قام بدور «أبو العلا» صديق بهجت أفندي، فكان موفقاً. و«ألفريد حداد» قام بدور المرابي أو «الفايظجي» فكان صورة طبق الأصل. و«محمد كمال المصري» قام بدور «شادوف أفندي» فكان ظريفاً. و«محمد مصطفى» قام بدور أحد المعزيين وهو دور قصير ولكنه كان ناجحاً فيه كما لو كان يمثل دوراً كبيراً. و«محمد جمال» قام بدور «كوكو الجرسون» وهو أول دور كبير له في فرقة الريحاني، وهو جدير بأن تُعهد له أدوار أخرى كبيرة. و«محمد حسن الديب» - قام بدور «الممثل السينمائي» فكان طبيعياً إلى أبعد حد. و«عبد اللطيف المصري» أدى دور «المخرج السينمائي» وهو صغير وناجح. و«سعدية القصري» كانت في دور «النجمة» مدهشة جداً. و«زينات صدقي وإيزابيل» دوران صغيران لا بأس بهما. وخير ختام لهذه الكلمة أننا نهنئ الأستاذ نجيب الريحاني على نجاح هذه المسرحية القوية وما بذله فيها من مجهود موفق.
أما ناقد مجلة «الاثنين والدنيا» فكانت له وجهة نظر أخرى في العرض، قال فيها: الرواية نوع جديد لم يألفه نجيب ولم يغذ به مسرحه قبل اليوم، ولعلها تجربة رغب بها أن يقف على شعور جمهوره من ناحية وأن ينوع رواياته من ناحية أخرى، فلا يقتصر على اتجاه واحد يكرر ويعيد فيه دون أن يمل عنه قيد شعرة! فعلى سبيل المثال هناك مواقف تناولها المؤلفان بشكل طريف، مثل ظهور طائفة المعددات بملابسهن السوداء يندبن المنتحر الذي ألقى بنفسه من كوبري قصر النيل فيكون بكاؤهن على نغمة “يا وابور قوللي رايح على فين» وهن بالفعل يقلن “يا غريق قوالي رايح .. الخ”. والرواية من نوع الفودفيل، ولكنه فودفيل جديد ابتكره المؤلفان بديع ونجيب ووصلا فيه إلى مستوى الشعب فلم يرتفعا به إلى المستوى الذي اعتاده الجمهور في مسرح الريحاني منذ نشأته. ومع ذلك فالرواية بلغت حداً كبيراً من النجاح من الوجهة الشعبية، ويكفي أن نذكر بأن المرء يقضي سهرة ممتعة لا يكف خلالها عن الضحك دقيقة واحدة. وفيها إلى جانب ذلك نقط انتقادية حساسة ولذعات في الصميم وغمزات اجتماعية هي صورة مطابقة للأصل لكثير من الأمراض التي تصيب المجتمع المصري، وقد رويت بأسلوب حكيم فلم يقف فيها الممثل على المسرح يدعو إلى الوعظ والإرشاد بل وقف يعرض تلك المآخذ عرضاً صحيحاً متمشياً مع العادات المعروفة، تاركاً للجمهور لمس العظة بمفرده واقتناص العبرة بحاسته. وهذا في نظرنا هو الوعظ الصحيح والإرشاد على أتم وجوهه. ولا يفوتني وأنا أتحدث عن هذه الرواية أن أقول بأنها كانت جرأة ولا شك من الريحاني أن يقدم على عرض مثل ذلك الموضوع على النظارة فإن النجاح كان مشكوكاً فيه إذ المعروف أن الموت وإن كان كأساً سيشربه کل حي، إلا أن النفوس البشرية تعافه وتكره الاستماع إلى حديثه، فما بالك إذا أقدمت فرقة فكاهية على نسج موضوع يدور بأكمله على الموت والجنائز وحصر التركة والعزاء .. الخ!
وفي يوم 16/2/1940 نشر «م.ص.س» صحفي متقاعد، هكذا وقّع على كلمة له في مجلة «الصباح» تحدث فيها عن انطباعاته المهمة، ومنها قوله: مثّل الأستاذ الريحاني لأول مرة، روايته الجديدة «ما حدش واخد منها حاجة» فكانت مثار إعجاب رواد مسرحه بل كانت بمثابة درة في تاج التمثيل العربي في تطوره الحديث. وإذا كان القدر قد أرغمني – بحكم الشيخوخة وضعف البصر – على التخلي عن القلم، فإن الأستاذ الريحاني قد استطاع بروايته الجديدة أن يرجع بي – في ليلة واحدة – إلى ثلاثين عاماً مضت من نضرة العمر وبهجة الشباب. فلقد استطاع الريحاني بروايته «ما حدش واخد منها حاجة» أن يهز وجداني هزاً وأن يبعث قلمي من مرقده ليكتب كلمة إعجاب بالرواية الجديدة في شخص أستاذ نجيب الريحاني وزميله الأستاذ بديع خيري. لقد شهدت الرواية في مكان قصي من المسرح وأنا أحسبني أكاد لا أسمع ولا أبصر شيئاً من حوادث الرواية، ولكني أخذت بروعتها رأيتني وقد استحلت شاباً يافعاً أضحك وألهو وقد أحالني الضحك إلى شبه غيبوبة أو حلم لذيذ .. وصفوة القول إن كل ما يمكن إجماله من وصف الرواية، أنها طبعت بطابع خاص، وأنها تمتاز عن كل ما ظهر من الروايات على المسارح العربية بلون خاص لم تظهر به رواية قبل الآن. فهل أتيح لأحد قبل الآن أن يشهد رواية فكاهية تدور حوادثها حول مأتم فقيد عزيز. وهل سبق لأحد أن يغرق في الضحك لدرجة الجنون من شهود المآتم وولولة النائحات؟ وهل كان الحانوتي – ذلك الرجل ممقوت الطلعة – في يوم من الأيام رجلاً ظريفاً يثير مجرد ظهوره على المسرح عاصفة من الضحك والمرح؟ كل ذلك لم نكن لنستطيع أن نحسه ونلمسه قبل ظهور رواية «ما حدش واخد منها حاجة».
وسط هذا النجاح نشرت مجلة «الصباح» خبراً حول احتمالية انتقال الشقيقتين الممثلتين «ميمي وزوزو شكيب» إلى الفرقة القومية!! وفي العدد التالي للمجلة، نشرت كلمة عنوانها «الأستاذ الريحاني وأعضاء فرقته»، قالت فيها: أشرنا في العدد الماضي إلى المفاوضات التي تدور مع الأختين ميمي وزوزو شكيب بشأن انضمامهما إلى الفرقة القومية. وقد حدث أن الأستاذ نجيب الريحاني حينما اطلع على ما كتبناه يوم الأربعاء الماضي حيث كانت تقوم الفرقة برحلتها بين عواصم الوجه البحري أن دهش من هذه المفاوضات التي لم يكن على علم بها وأراد أن يتلافى الموقف بما عرف فيه من قوة المنطق وعذوبة الحديث فجمع أفراد الفرقة من ممثلين وممثلات وخطب فيهم خطبة مستفيضة شرح لهم فيها لماذا هو يعمل في فن التمثيل حتى الآن .. فهو وإن كان محبوباً من الجمهور .. والجمهور يقبل على فرقته باستمرار .. إلا أنه مع ذلك لا يسعى وراء الربح حتى يقال إنه يعمل بفرقته طمعاً في الربح بل هو يعمل بفرقته ويثابر في العمل ليحفظ كيان الممثلين والممثلات بصفة عامة وليحفظ كيان وسمعة الممثلتين: ميمي وزوزو شكيب بصفة خاصة .. وطلب من أفراد الفرقة بعد أن عرفوا هذه النوايا الطيبة من جهته أن يتضامنوا ويتفانوا في سبيل ذلك. وقد أحدثت كلمة الأستاذ نجيب أثرها إلى حد أن بكت كل من ميمي وزوزو شكيب وقالتا والدموع منهمرة من عينيهما: إنهما لم تفكرا في العمل بالفرقة القومية، وإن المنولجست «فتحية شريف» هي التي أشاعت عنهما هذه الإشاعة وأنها هي التي أبلغت النبأ إلى «مجلة الصباح» فنشرته، وأنهما بدافع إخلاصهما للأستاذ نجيب الريحاني وتقديرهما لفنه لن تفكرا في ترك فرقته والانفصال عنها بأي حال من الأحوال. ونحن نعود فنقول إن هذه المفاوضات دارت فعلاً. وأن فتحية شريف لا علاقة لها بهذا النبأ ولا تعلم عنه شيئاً، ومع كل هذا نتمنى أن تكون الأختان ميمي وزوزو شكيب عند حسن ظن الأستاذ نجيب الريحاني بهما وأن تكونا قد عدلتا بعد ذلك عن التفكير في الالتحاق بالفرقة القومية.


سيد علي إسماعيل