«اللعبة».. نداهة القرية

 «اللعبة»..   نداهة القرية

العدد 894 صدر بتاريخ 14أكتوبر2024

    أرح ظهرك، وخذ نفساً عميقاً، وراجع شريط حياتك، فربما قد أخطأت في حق الأخرين دون أن تدري، وإذا لم تدرك ذلك...لا تقلق...سيأتي دورك في نداهة القرية...
      على مسرح السامر بالعجوزة قدمت فرقة سوهاج القومية ضمن فعاليات المهرجان القومي للمسرح المصري في دورته السابعة عشرة عرض “اللعبة”، دراماتورج وإخراج (مصطفى إبراهيم) عن قصة العُطل أو العطب للكاتب السويسري (فريدريش دورينمات)، ونلاحظ وجود عرضين في دورة المهرجان لنفس القصة؛ الجريمة البيضاء كتابة يسري حسان وإخراج سامح بسيوني، و النقطة العمياء إعداد وإخراج أحمد فؤاد، فما السر الذي تحتويه هذه القصة ليتم إعدادها وتقديمها بطرق مختلفة ؟.
     لقد كرس دورينمات (1920-1990)  تجربته الأدبية للبحث في جوهر النفس البشرية  وتفكيك القيم العليا والمظاهر التي يتخذها الإنسان قناعاً تحت سطوة الغرائز البشرية، بطريقته الفريدة التي تجمع بين الجدية والعبث والسخرية، لتصبح قصصه وأفكاره تتماشي مع كل زمان ومكان، ومنجما للقراءات، وعرض “اللعبة” واحداً من تلك القراءات.
     تدور أحداث العرض حول تعطل سيارة رجل الأعمال (ألفريدو ترابس) بجوار قرية، وحين يطلب المساعدة من أهل القرية، يخبروه أن السيارة تحتاج لبعض الإصلاحات، وأن إصلاحها سيأخذ وقتاً طويلاً حتي السابعة صباحاً، ليضطر إلى المبيت في القرية، ولا يجد مكاناً سوي بيت القاضي (فيرجن)، ليطلب منه القاضي الإنضمام  للعبة، وهي محاكمة من مجموعة من المتقاعدين يتناولوا فيها القضايا ويحكموا فيها بالعدل، يترأسها القاضي والمحقق والمحامي الذي يدافع عن المتهمين والجلاد وهيئة المحلفين (أهل القرية)، ويقبل ترابس الإنضمام للعبة لكسر حالة الملل التي يعانيها في القرية، وأثناء مرحلة الإستجواب يجد ترابس أنه ارتكب جريمة قتل دون أن يدري ويحكم عليه بالإعدام.
      تدور المُحاكمة في إطار رمزي على محاكمة النفس البشرية على ذنوبها التي لا يدركها الإنسان لأنها ليس لها عقاب في القانون الذي لا يهمه سوى الجرائم المثبتة في الأوراق فقط، ولا يعاقب على النوايا، و الضمير الحي فقط هو من يعاقب على تلك الأفعال التي قد تصل إلى حد الجرائم، ولكنها تبدو طبيعية للفرد لأنه لا يوجد ما يثبتها في نظر القانون.
     قبل بداية اللعبة يقر ترابس لكومر المحامي أنه لم يرتكب أي جريمة ، لذلك يدخل اللعبة وهو مطمئن إلا أن يقع في الفخ الذي ينصبه المحقق تسورن ويوقعه في شباك حديثه، على أنه كان يركب سيار ذات طراز قديم أما الآن يركب سيارة ذات طراز حديث، يثير ذلك اهتمام المحقق ليسأله كيف حدث ذلك في وقت قصير، حيث قبل أن يكون ترابس مديراً كان مندوباً بسيطا، ومن خلال بقية الأسئلة نكتشف أنه لم ينعم بشئ في حياته اللي بعد موت مديره، الذي كان ترابس على علاقة غرامية بزوجته، والذي مات علي أثرها نتيجة أزمة قلبية، وهنا تكمن المعضلة وفكرة العمل التي أوردناها سلفا وهي محاكمة النفس البشرية التي لا يستطيع القانون أن يحاكمها حيث لا يوجد ما يثبتها، فبعد كل المرافعات التي حدثت داخل اللعبة، ينكر ترابس  الحكم وأن كل ما في الأمر مصادفة جمعته مع زوجة مديره في العمل، فبطبيعة شخصيته على أنه زير نساء انزلق في علاقة غرامية، ومديره قد مات علي أثر أزمة قلبية، فما الدليل على التعمد في القتل؟!.، فلا يستطيع القانون أن يعاقبه.، فتحاكمه محكمة القرية بقانونها الخاص والعادل، في لعبة رمزية لتفضح الذات البشرية في محاكاة ساخرة، فيعترف ترابس من خلال هذه اللعبة، أنه خطط إلى إقامة علاقة مع زوجة مديره، ولم يكن الأمر من قبيل المصادفة، فكان يعلم بمرض المدير وتعمد ترابس إبلاغه عن طريق أحد الأصدقاء، ليندفع المدير إلي المنزل ليتأكد من الخيانة، وسرعان ما سقط نتيجة أزمة قلبية يموت على أثرها.، فيحكم علي ترابس بالإعدام بسبب القتل العمد وذلك من خلال اللعبة.. وهذا ما يحيلنا إلي....
     رؤية المخرج التي بنى عليها رؤيته بالأساس، في تغيير اسم النص من «العُطل»؛ وهو ليس العطل الذي حدث في السيارة بل العطل الذي أصاب الضمير والإنسانية إلي “اللعبة”.، اللعبة التي يتحقق من خلالها مالا يستطيع الواقع تحقيقه حتي لو كان بشكل رمزي، لتصبح اللعبة (القرية) النداهة التي تنادي الإنسان ليتطهر من خلالها من آثامه وتعريته أمام نفسه وخلع قناع الفضيلة، ويلقي مصيره العادل جراء أفعاله.
      وليثبت علي أنها لعبة اعتمد على الشخصيات الكرتونية المتمثلة في أهل القرية، فيبدأ العرض بشخصية المهرج (كريم الخشاب) وهو يعزف على الهارمونيكا، وكأنها النداهة التي تأتي بالناس اللي القرية من أجل اللعبة، فبعد عزفها نسمع من خلال المؤثرات الصوتية صوت تعطل سيارة ترابس، هل هي مصادفة أن تتعطل عربة ترابس بجوار هذه القرية؟!، أم القرية (النداهة) التي نادته ؟،  و هو ما جعلني اضع عنوان هذا المقال «نداهة القرية”.، ولعب (كريم الخشاب) دور المهرج ببراعة من أداء صوتي وجسدي وخفة حركة ، وساعده علي ذلك مكياج (أبو بكر مظهر) وملابس (فاطمة ابو الحمد)، وكذلك أيضا بقية شخصيات القرية من أداء كرتوني خدمت رؤية المخرج، ونجدهم يمسكون عصا بيضاء في مقدمتها جمجمة التي ترمز إلى موت الضمير والتضاد بين الجمجمة -كرمز يشير للموت- واللون الأبيض البارز في العصا يبرز فكرتها أنها تعمل على إحياء تلك الضمائر الميتة، وكانت حاضرة بشدة طوال العرض وخاصة في الإستعراضات التي صممها المخرج نفسه (مصطفي إبراهيم) التي كانت متشابهة الى حد ما طوال العرض وكأنهم يؤدون طقوس التطهر، وتحاصر ترابس بشكل دائري دلالة علي أنها ستحيا ضميره الميت.، و كذلك  شخصيات القاضي والمحقق والمحامي والجلاد أدوا أدوارهم بشكل يتماشي مع فكرة اللعبة بما يخدم رؤية المخرج، و شخصية ترابس (مصطفى إبراهيم) هي الشخصية الوحيدة الواقعية وليست كرتونية ليفصل من خلالها العالمين، فجاء أداءه مغاير لبقية الشخصيات، وجسد (مصطفي إبراهيم) مراحل تطور الشخصية بشكل جيد.
      وديكور (فاطمة أبو الحمد) فكان العاهل الأكبر للعرض، فجاء معبراً عن حالة العرض من تصميم القرية بشكلها الكرتوني، يمينا ويساراً نجد منازل القرية وفي مركز عمق المسرح منزل القاضي، على يساره خلفية تروس تتحرك وكأن القرية مجرد لعبة تحركها تلك التروس، وعلى يمينه خلفية ساعة يتدلى عليها عقرب الساعة، بجوارها شجرة عطبة لا تحتوي على اوراق، دلالة على أن كل شيء مكشوف داخل هذه القرية ، ومن يدخلها تتساقط أوراقه.، و في أقصي مقدمة المسرح يميناً ويساراً مقاعد تمثل ساحة القرية.، والديكور ثابت ومع تتطور الأحداث نجد هذه المنازل تدور بشكل دائري، لتفسح لنا عن الغرف داخل قصر القاضي التي تكون غرف السجناء المحكومون عليهم سواء بالإعدام أو السجن المؤبد.، واستخدمت الكراسي في تشكيل بعض التكوينات المعبرة عن حالة الحدث، لنجدها تأخذ شكل السجن واشكال اخري حسب متطلبات المشهد، فدعم الديكور العرض علي المستويين الجمالي والفني.، كما كان المكياج (لأبو بكر مظهر) دور بارز في اللعبة في رسم الشخصيات الكرتونية ، وكذلك ملابس واكسسوارات (فاطمة أبو الحمد) التي جاءت متزامنة مع تلك الفترة من خلال ملابس ترابس والقاضي ورفاقه، وكذلك ملابس شخصيات أهل القرية الكرتونية التي دعمت رؤية المخرج.
    أما الموسيقي والمؤثرات الصوتية فلعبت دورا هاما بداية من صوت دقات الساعة التي عملت على إحداث التوتر والريبة لدي المتلقي وجعلته في حالة من الترقب، وسمعنا مشهد مقابلة ترابس مع زوجة المدير الذي كان يمثل استرجاع للماضي في رأس ترابس أثناء التحقيق من خلال المؤثرات الصوتية.، أما إضاءة (مايكل يعقوب) أوضحت جماليات الديكور والحالة الكرتونية للعرض، وكانت تتداخل الألوان في بعض المشاهد لإبراز حالة الغموض وما تكتنفهُ النفس البشرية بداخلها.، أشعار (محمد أبو زيد) مع ألحان (بهاء صبحي) كانت متماشية مع الأحداث وخصوصا في أغنية النهاية « اخلع قناعك واعترف بما فعلت....” التي تحمل في مجملها فكرة العرض ، أن يقف الفرد أمام نفسه يخلع قناعه ويعترف بما فعل من أخطاء ليتحرر من سجن الضمير.
       إستطاع المخرج (مصطفي إبراهيم) أن يقدم رؤيته الخاصة من قصة دورينمات، من خلال اللعبة التي انسجمت وتتضافرت عناصرها المسرحية لتظهر بشكل جيد في توصيل رسالة العرض للمتلقي ، ولكن يؤخذ على العرض في نهايته بعد الحكم بالإعدام على ترابس، حصل إظلام تام علي المسرح ، فظن المتلقي أن العرض قد انتهي وفجأة نجد هناك مشهد آخر وأن كل ما حدث كان في خيال وهواجس ترابس وما يدور بداخله من تأنيب ضمير، مما أصاب المتلقي بالتشتت وفقدان تركيزه، فلو كان يقصد المخرج بهذا المشهد أن يقول أن الإنسان سيظل كما هو من انعدام الشرف والضمير حتى عندما يعرف بما فعله، ففي اعتقادي أنها لم تصب في مصلحة العمل لأن من بداية العرض وتم وضع المتلقي أمام مرآة تعكس عما يدور بداخله وجعله يفكر ما الخطأ الذي ارتكبه فتعمل علي تطهيره هو أيضاً، وكأنه سيأتي دوره وتندهُ نداهة القرية، فكان إعدام ترابس في النهاية الأولي سيحقق ذلك، ولكن بالنهاية الأخري تم سلب كل ما تم تقديمه.


محمد خالد