العدد 895 صدر بتاريخ 21أكتوبر2024
على الرغم من التأكيد في عنوانها على أنها «مش روميو وجولييت» إلا أن كل ما في المسرحية التي أعدها وأخرجها للمسرح القومي المخرج الكبير عصام السيد، وشارك في إعدادها محمد السوري، وكتب الصياغة الشعرية للحوار فيها الشاعر الكبير أمين حداد، يحيل إلى رائعة وليام شكسبير الأشهر «روميو وجولييت».
فهناك أولا تيمة العداء بين عائلتين التي تقف حجرا أمام علاقة الحب بين روميو وجولييت في نص شكسبير، وتجلت في المسرحية في العداء الطائفي داخل المدرسة، وقد أشعلت شرارته شائعة عن علاقة حب بين اثنين من المدرسين: زهرة المسلمة، ويوسف المسيحي.
وعلى الرغم من تأكيد الاثنين أن الحب بينهما أخوي، هو حب في الإنسانية والوطن والحياة والذكريات المشتركة، فإن تيمة الحب الذي ينشأ في بيئة محتقنة ظلت مؤشرا صريحا يحيل إلى مسرحية شكسبير.
هناك أيضا مسرحية «روميو وجولييت» الأصلية التي قررها مدير مدرسة الوحدة كنشاط طلابي يضاف إلى أعمال السنة، في محاولة مبتكرة لاحتواء الفتنة الناشبة في المدرسة وتعزيز قيمة الحب بين الطلاب والمدرسين، الأمر الذي يجعل «روميو وجولييت» حاضرة بقوة عبر لعبة المسرح داخل مسرح، التي وظفها عصام السيد ببراعة.
نحن إذن في مسرحية هي «مش روميو وجولييت»، ونقدم من خلالها بروفات مسرحية «روميو وجولييت» في مشاهد الشرفة والمبارزات وحوارات العائلتين، ولا مانع من الإشارة إلى مسرحية شكسبيرية ثانية في استخدام طبق التقاط بث تليفزيوني بوصفه القمر، وسلم متحرك بوصفه الشرفة، في تناص طريف مع المشهد التمثيلي لفرقة الحرفيين في «حلم ليلة منتصف الصيف».
ومع ذلك فالمسرحية (الإطار) هي بالفعل «مش روميو وجولييت»، فالحدث فيها لا يقع في فيرونا الإيطالية وإنما في حي شبرا القاهري العريق، والصراع فيها ليس صراع عائلتين، وإنما هو صراع طائفي أثارته طيور الظلام الطارئة على مجتمعنا المصري، والتي ارتدت شخوصها في العرض ملابس سوداء منسدلة توحي بالشر والظلامية والشيطنة.
أما الحب في المسرحية فليس حب الذكر للأنثى والأنثى للذكر، بقدر ما هو حب الإنسان للإنسان والجار للجار والزميل للزميل والمواطن للمواطن.
ولعل أهم ما يميز مسرحية «مش روميو وجولييت» أنها «كوميديا موسيقية» Musical أو هي «أوبريت»، فالأوبريت، بحسب المعجم المسرحي لفنون العرض، تتداخل في كثير من الأحيان مع الكوميديا الموسيقية ذات الأصول الإنجليزية لدرجة يصعب معها التمييز بينهما، ويمكن أن يصنف العمل الواحد تارة كأوبريت وتارة ككوميديا موسيقية وتارة كأوبرا بالاد، وبخاصة أن هناك ندرة حقيقية في هذا النوع المسرحي في أعمالنا المسرحية المعاصرة، حتى وإن اعترفنا بأن تراثنا المسرحي شهد العديد من الأوبريتات في مطلع القرن الماضي. فقد سمح الطابع الغنائي للمسرح في بداياته المعاصرة في مصر باستيعاب الأشكال والأنواع المسرحية الموسيقية والغنائية ومن ضمنها الأوبريت، خاصة وأن هذه الأنواع تضمن إقبال الجمهور الذي يجذبه الغناء، بالإضافة إلى انتقال الكثير من المغنين ومنشدي الأناشيد الدينية إلى عالم المسرح ومنهم سلامة حجازي وسيد درويش ومنيرة المهدية وغيرهم.
ولأنها كوميديا موسيقية، فمن الطبيعي أن تكون حكايتها بسيطة مع حبكة مشوقة، تعمد إلى إبراز الإلقاء المُنغَّم Recitative في الحوار، وخضوع الحدث بشكل دائم للانقطاع لتقديم الرقصات والأغاني، حيث تعطي الكوميديا الموسيقية المتفرج إمكانية الهروب من الواقع إلى عالم الحلم.
وهكذا تُعالج مشاكل الحياة اليومية من خلال السحر والعجائبية، كما أن المشاكل الاجتماعية والاقتصادية تُحل دائما بنظرة توفيقية، لا سيما وأن غلبة طابع الإمتاع والإبهار تحوِّل ما هو درامي في الحكاية إلى مشهد بصري، الأمر الذي يتناسب مع مفهوم «المسرح الشامل» وهو مسرح يجمع بين فنون متنوعة، سمعية وبصرية، كالرقص والغناء والموسيقى والديكور والحركة والإضاءة والألوان، وهو بذلك يتوجه إلى كل الحواس معا.
وهذا ما تجلى في عرض «مش روميو وجولييت» من خلال الحل السحري للأزمة الطائفية بين الطلاب، إثر نوع من إساءة تفسير عاطفة الحب، والذي تمثل في اشتراك طلاب المدرسة جميعهم في تمثيل مسرحية عن الحب، هي «روميو وجولييت»، في تأكيد على قيمة كل من الحب والفن على حد سواء في معالجة أمراض المجتمع. بينما اعتمدت المسرحية في تنفيذها على الرقص والتعبير الحركي، حيث استطاعت مصممة الاستعراضات، شيرين حجازي، توظيفها وفق مقتضيات الدراما، ونجحت من خلالها في تمييز الفريقين المتصارعين من الطلاب والمدرسين في الأحداث من خلال الحاجز الوهمي الفاصل بين الفرقاء في لحظات الصراع، وتأكيد هذا الفصل بالإيماء والحركة والتكوين الجسدي، ومن ثم تذويب هذا الانفصال بين الخصوم في لحظات تشاركهم معا في أداء البروفات.
وحتى يتحقق هذا الاندماج استخدم المخرج أكثر من مستوى من عمق الخشبة لتقديم مشاهد متزامنة، من بينها مشهد بروفات قراءة النص بين الطلاب الذكور بقيادة أحدهم، علي، وإشراف الأستاذ يوسف، والطالبات الفتيات بإشراف الأستاذة زهرة، فيما سمحت ستارة شفافة في منتصف الخشبة في تحقيق نوع من المزج الإيحائي بين المجموعتين، ليكتمل المزج بين المجموعتين في مشاهد المبارزات ومشهد الشرفة في شكل لقطات متتالية بأسلوب أقرب إلى الفوتومونتاج.
كان الديكور (محمد الغرباوي) أحد أبطال العرض الأساسيين، بما سمح به من إمكانات بارعة في توظيف الإضاءة (ياسر شعلان)، وعروض الفيديو وتقنيات الجرافيك (محمد عبد الرازق) في تحويل نفس مساحات الديكور المنتظمة في ثلاثة مستويات من عمق الخشبة إلى عدة مشاهد جسدت فناء المدرسة أولا، وغرفة مدير المدرسة بعدها، ثم فصول الطلبة والطالبات، ثم قاعة البروفات المسرحية، ثم إحدى الكنائس، ثم فناء المدرسة وفي خلفيته مبناها أثناء احتراقه في المشهد الأخير.
وجاء استخدم الفيديو لعرض مشاهد تسجيلية لحي شبرا في أزمنة حديثة متنوعة بين عقود مختلفة، كما جاء استخدام الجرافيك والإضاءة ساحرا في تجسيد مشهد الكنيسة الذي ساهمت الإضاءة الزرقاء المرصعة فيه في إضفاء أجواء وادعة وشجية، كما حققت مؤثرات الجرافيك والإضاءة الشعور بالحريق الذي أشعلته طيور الظلام في المدرسة احتجاجا على التناغم والانصهار بين الطلبة مسلمين ومسيحيين، وعلى تشاركهم في تقديم عرض مسرحي، في دلالة صريحة على موقف تلك التيارات الظلامية من الفنون عموما.
أما الموسيقى (أحمد شعتوت) فهي بالضرورة أهم أبطال العرض، كونه كوميديا موسيقية، إذ كان للموسيقى النصيب الأوفر في العرض، سواء في الغناء المنفرد المتبادل بين الحوارات، أو في الحوارات المنغمة «الريستاتيف» في معظم حوارات العرض.
وجاء استخدام البلاي باك ضروريا، وخصوصا في أغنيات الممثلين غير محترفي الغناء، رانيا فريد شوقي وعزت زين وميدو عادل... سمح المخرج للمطرب الكبير علي الحجار بمساحات من الارتجال الحر والحي (لايف) في أكثر من مشهد، مستفيدا من إمكانات الحجار كمطرب متفرد، وهو الأمر الذي حدث أيضا مع المطربة أميرة أحمد.
وفي التمثيل أبرز العرض إمكانات الأداء المميزة لمعظم الممثلين سواء الأبطال: ميدو عادل وعلي الحجار ورانيا فريد شوقي وعزت زين ودنيا النشار وطه خليفة وآسر علي وطارق راغب، أو المجاميع، على مستوى التعبير الانفعالي في المواقف الدرامية والحوارات، أو على مستوى الأداء الحركي الراقص، الذي ساهم مع السرعة في تغيير المناظر في تحقيق إيقاء حيوي متسارع للعرض، بما حول فعل المشاهدة إلى متعة جمالية مكتملة ساهمت في إشباعها بالتة ألوان مبهجة توفرت في عناصر الملابس والديكور والجرافيك.
أما القصة فجاءت بسيطة بما يتناسب مع النوع المسرحي، وخلت من التعقيدات الدرامية المركبة أو الميلودرامية الصريحة التي كان يمكن للعرض أن يسقط في فخها لولا رهافة نسيجه وضبط إيقاعه بما يتناسب وحالة البهجة المطلوبة في الكوميديا الموسيقية عموما.
بقي أن نشير إلى أهمية العرض على مستوى الطرح الاجتماعي الذي يتبنى نبذ التفريق بين المواطنين على أساس من الاختلاف الديني أو العقائدي، لصالح التعايش والمراعاة في ظل وحدة قيم الوطن والإنسانية، وهو ما كان مقصودا في اسم المدرسة التي دارت الأحداث فيها، مدرسة الوحدة.