«الأرتيست».. عيني علينا يا أهل الفن

«الأرتيست»..  عيني علينا يا أهل الفن

العدد 895 صدر بتاريخ 21أكتوبر2024

    “عيني علينا يا أهل الفن يا عيني علينا” هكذا هيأ عرض الأرتيست الجمهور لحالة العرض بواحدة من أشهر مونولوجات إسماعيل ياسين الذي يبرز معاناة الفنانين والصعوبات التي تواجههم من أجل الوصول لحلمهم، سواء كانت أزمات مالية أو عادات إجتماعية  وقطيعة الأهل التي تري أن مهنة الفن ستجلب لهم العار ، فيتمسك الفنان بحلمه رغم ما به من معاناة .. هذا هو الفن مثل الهواء فهل يستطيع الإنسان العيش دون هواء؟!.
   قُدم على مسرح الهناجر عرض «الأرتيست” تأليف وإخراج (محمد ذكي)، الذي يتناول معاناة الفنانين ونظرة المجتمع لهم وخصوصا المرأة الفنانة مستلهما واحدة من أهم فنانات الكوميديا في تاريخ السينما المصرية «زينات صدقي»، ونحن لسنا أمام عرض سيرة ذاتية ، فالعمل الفني ليس مطالبا بتقديم سيرة ذاتية عن زينات صدقي ، بل ان الكاتب لديه هموم أسقطها من خلال بعض الملامح من شخصية “زينات صدقي”  فظهر لنا عرض “الأرتيست”، وهو ما تعامل معه مؤلف ومخرج العرض (محمد ذكي) بإنتقاء لحظة تنفجر منها الأحداث والذكريات ، فهي مثال لكفاح الفنان وصموده وتضحيته من أجل فنه.
  ينطلق العرض من واقعة حدثت بالفعل حول مكالمة هاتفية؛ أن الرئيس أنور السادات سيكرمها في عيد الفن سنة 1974، بعد أن تم تجاهلها لسنوات إلى أن تقاعدت، وعلى الرغم من سعادتها بالتكريم وعودة الأضواء من جديد إلا أنها تقرر عدم الذهاب للحفل لأنها لا تملك فستاناً تحضر به الحفل ، فحالتها المادية قد تدهورت والديانا يلاحقونها ولا تملك ثمن فستان لتحضر به الحفل.، ومن هنا كانت اللحظة التي انفجر منها العرض ليبرز لنا معاناة وكفاح تلك الفنانة من أجل الوصول لحلمها ، ونعيش معها تلك الرحلة والمعاناة ، ليضع المتلقي أمام مرآة تعكس آماله وطموحاته، ويطرح عليه سؤالا يحمله بالتفكير به ؛ هل كان طريقك في هذه الحياة جديراً بأن تسلكه؟، أم يخذلك هذا الطريق الذي أفنيت فيه عمرك..!؟.
    إعتمد المخرج بشكل أساسي طوال العرض علي تقنية الرجوع إلي الماضي (الفلاش باك) بنعومة وسلاسة والتنقل المستمر من اللحظة الآنية ولحظات الماضي دون جعل المتلقي يشعر بملل أو تشتت، وساعد علي ذلك ديكور العرض من تصميم ( فادي فوكيه) ، حيث قسما خشبة المسرح إلي ثلاث مستويات؛ المستوي الأول وهو الجزء الأمامي من صالة الجمهور الذي عرض خط فرعي لا علاقة له بسيرة الفنانة كما هو مذكور.، فعلى اليسار البدروم وعلى اليمين السطوح وذلك المستوي خصص لعلاقة الحب بين ابن شقيق زينات (محمود الغندور) و ابنة خيرية صديقة زينات (ياسمين عمر) ليواكب حالة العشاق في تلك الفترة حيث كان أغلبية المقابلات إما في البدروم أو السطح، وهو خط درامي فرعي لم يؤثر بشكل كبير في الأحداث بل أضاف نوع من البهجة والسعادة علي العرض وساعد في ذلك الكيميا وخفة الظل بين الشخصيتين.
     أما المستوي الثاني؛ منزل زينات صدقي الذي عبر عن تلك الحقبة بشكل جيد، كما أنه يوحي بالبساطة دلالة علي شخصيتها البسيطة وحالة الفقر التي وصلت لها ، فنجد علي يمين مقدمة المسرح كرسي هزاز تجلس زينات عليه الذي يدل علي تأرجحها بين الماضي والحاضر أمامها تلفاز وراديو أمامه برواز صغير لصورة خيرية (فاطمة عادل) رفيقة كفاح زينات، وعلي الجانب الأيسر بعض الاثاث كرسيين وطاولة وهاتف.، أما المستوي الثالث؛ نجد في مركز عمق المسرح خزانة الملابس (دولاب) التي تأخذنا إلي الماضي و وجودها في المركز جاء بشكل يخدم دراما العرض فهي المركز الذي تنطلق منه الأحداث ، وعلي جانبي الدولاب ستارة تفتح حسب اللحظة الدرامية من حياة زينات صدقي.
          بعد انا تقرر زينات عدم حضور الحفل بسبب الفستان يظهر انكسارها  وتبين ذلك من خلال انحناء ضهرها ونظرتها للأرض في خطوات منكسرة إلا أن تصل لخزانة ملابسها لتأخذنا معها في رحلة عبر الزمن .، تفتح الخزانة ويحدث اظلام تام على خشبة المسرح وإضاءة خضراء صادرة من الخزانة لتركيز المتلقي على الحدث لأنه التي تنطلق منه الأحداث لتأخذه لرحلة معاناة الفنان من أجل حلمه.، وتغير زينات ملابسها فتضيئ خشبة المسرح لتأخذنا لفترة زواجها الثانية.
      يطلب زوجها صلاح (محمد زكي) أن تترك عملها في الفن وكأن هذا الطلب يسلب منها روحها فيخيرها الزوج بينه وبين الفن فتتمسك بالفن التي تجد كيانها به ( ده انا حياتي وروحي في الفن) فيطلقها صلاح .، تبكي وتعود منكسرة مرة اخري للدولاب وتلبس فستان زفاف وترفع الستارة اليمنى بجوار الدولاب لتأخذنا الي غرفتها في بيت أسرتها وهي بعمر خمسة عشرة سنة ونلاحظ فوق سريرها بروز كبير معلق لصورة أبيها دلالة على تحكمه فيجبروها بالزواج من شخص يكبرها بسنوات كثيرة ، يبرز هذا المشهد عادات وتقاليد المجتمع في تلك الفترة في اختيار الأب لزوج الإبنة وأنها لا تملك حتى حقها في الرفض.
     وننتقل إلى طلاقها من هذا الزوج وهروبها وأهلها يبحثون عنها ، وتقابل خيرية (فاطمة عادل) صديقتها ورفيقة دربها والكفاح لتخبرها أن صالة جديدة سوف تُفتح في لبنان ويبحثون عن أرتيست ، لترجع للدولاب وبمجرد غلقه نرجع للحظة الآنية بقدوم السفرجي(محمود حلواني) الذي كان يعمل لديها أيام العز وعندما آل عليها الزمن تركها بسبب ظروف المعيشة وكذلك الخادمة (ريم مدحت) كانت تعمل أيضاً عندها وتركتها وتأتي من الحين للآخر لتنظيف المنزل، و وجود شخصية السفرجي والخادمة تعكس صفات زينات في حب الآخرين لها بسبب حنيتها والمعاملة الحسنة التي كانت تعاملهم بها ، وهما شخصيتين تم إضافتهم لخدمة دراما العرض، فهما يكشفا الوضع المُزري للفن الذي أفنت حياتها فيه (الفن اللي ضحينا عشانه بكل حاجه اخدنا لحم ورمانا عضم).
   وتجلس علي كرسيها الهزاز مع بؤرة ضوئية بعرض المسرح علي رأسها لنغوص مره أخرى في ذكرياتها مع الماضي لتفتح الستارة اليسرى من عمق المسرح لنجد الخياط فاسيلي (أحمد الجوهري) وهو صورة منعكسة لحال زينات؛ حيث هجرتهُ كبار النجمات مثل هند رستم وليلى مراد وغيرهم من النجوم رفضوا أن يأتوا إليه بعد أن أصبحوا نجمات بسبب وجود محله في حارة ضيقة ويرفض هو أن يذهب لهم إلى البيت فيقول: (أنا فنان...أرتيست) وذلك يأخذنا لإسم العمل الذي يكون مدخل رئيسي لقرأة العرض ويشير للجماعية وهم الفنانين ولا يخص زينات صدقي وحدها فإستلهام المؤلف لشخصية زينات ليرمز من خلالها لكل الفنانين ومن ينتمون للفن مثل فاسيلي الخياط...
    ونعود من هذا الفلاش باك الي فلاش باك آخر وهي تؤدي مونولوج في منزل عائلتها لتقدم في معهد التمثيل وشقيقها سيد (إبراهيم الألفي) وهي شخصية غير موجودة في الواقع وضعت لتخدم دراما العرض، منزعج وتحاول أن تقنعه بحب التمثيل وأن يهرب معها إلى مصر ، ويدخل الأب والأم من أجل أن تمحي فكرة التمثيل من عقلها وان هذه المهنة ستجلب لهم العار ليدافع عنها شقيقها، وبالعودة من الفلاش باك للواقع (اللحظة الآنية) يدخل سيد وهو كبير (إيهاب بكير) ونكتشف أنه قاطع أخته هو الآخر وأصبح مرآة لوالده وللعادات والتقاليد ويعاد مشهد الخناقة من جديد مع ابنه (محمود الغندور) الذي يدافع عن عمتهُ مثلما كان يدافع الأب -سيد وهو صغير- عن الأخت وتتجسد صفعة الألم في نفس الثانية أمام المشاهدين بين الماضي والحاضر، ليجعلك تتساءل هل بعد أن دافع طارق (محمود الغندور) عن عمته زينات اليوم، سيكون مرآة لوالده هو الآخر في المستقبل مثلما فعل الاب الذي أصبح مرآة لوالده؟.، و الواقع يخبرنا أن من كان يقيم معها ابنة شقيقتها، وليس ابن وابنة شقيقها.
 ينتهي العرض بتسجيل صوتي لزينات صدقي تقول فيه (اللهم انصر الفنانين على أهليهم اللي هما ما بيعترفوش بيهم) لتثبت أنها نجحت في مشوارها الفني وأن مهنة التمثيل لها كيانها وسماتها الخاصة.
     لعبت الإضاءة دور بارز في عملية التنقل بين الفلاش باك بطريقة سلسلة، كذلك الموسيقى والمؤثرات الصوتية التي عبرت عن الحالات الشعورية المختلفة لزينات وخاصة أغنية ام كلثوم (كلموني تاني عنك...فكروني) التي أيقظت آلام الماضي داخل زينات واسترجاعه ، وجاءت الملابس معبرة عن الفترة التاريخية التي يدور فيها العرض، كما لها دور كبير في عملية الفلاش باك حيث كانت تغير زينات قطعة من ملابسها  للدلالة علي المواقف والأزمنة الدرامية المختلفة كما ساعدت المتلقي علي عدم التشتت بين الماضي والحاضر من خلال لبس زينات الثابت في اللحظة الآنية.
اختار زكي الممثلين بعناية شديدة ، حيث قامت هايدي عبدالخالق بدور (زينات صدقي) بشكل جيد بداية من الشكل الخارجي من تسريحة الشعر ومكياج الوجه ونبرة الصوت ، وكذلك الشكل الداخلي عبرت عن الأحاسيس المختلفة للشخصية بداية من انكسارها بسبب عدم قدرتها على أن تشتري فستان تحضر بيه الحفل، وعندما أجبرها والدها علي الزواج، كما حافظت علي خفة ظل الشخصية بشكل طبيعي وليس مفتعل.، وفاطمة عادل في دور (خيرية صدقي) رفيقة كفاح زينات التي تنصحها دائما حتى بعد وفاتها ظلت موجوده في وجدان زينات فعبرت فاطمة عن الشخصية بشكل جيد، كما أن أداء بقية الممثلين جاء متناغم وعمل على توصيل حالة العرض بشكل كبير.
   استطاع المخرج محمد ذكي أن يصنع عرضا متناغم انسجمت جميع عناصره ليقدم لنا عملا راقي يلمسنا جميعا ، وأن الست زينات ما هي إلا صورة لكل فنان عانى وكافح في سبيل حلمه وسلك طريقا مليئا بالمتاعب والصعوبات لتجد التمثيل الأمثل لحال الفنانين في مونولوج “عيني علينا يا أهل الفن يا عيني علينا».


محمد خالد