أداء / مشاهدة الذكاء الاصطناعي على خشبة المسرح(1)

أداء / مشاهدة الذكاء الاصطناعي على خشبة المسرح(1)

العدد 895 صدر بتاريخ 21أكتوبر2024

نبذة مختصرة
     لقد لاحظنا خلال العقدين الماضيين تجارب استخدام خوارزميات الذكاء الاصطناعي كأداة للعروض المسرحية. فمن الاختبارات المبكرة، التي أجريت في الغالب في مختبرات الجامعات، إلى العروض العامة الأولى، أنتجت الممارسة أدلة كافية للنظر في الآثار المترتبة عليها، سواء من وجهة نظر التصميم أو الاستقبال. وقد استخدم علماء الكمبيوتر الأداء والدراما لاختبار إمكانات الذكاء الاصطناعي. واستخدم الفنانون الذكاء الاصطناعي للتعبير عن نقد جديد لكل من حضور والجسم وغيابه. ومع تزايد أهمية الروبوتات في مجتمعنا، سارت خطواتها الأولى على المسرح ؛ وتحاور الوسطاء الاصطناعيون مع الممثلين؛ وتمكنت بعض الخوارزميات من إدارة التفاعل بين المشاركين في العروض التفاعلية. وبالتالي، يمكننا أن نتنبأ بممارسة جديدة متعددة الأوجه في المسرح، وقد يؤثر هذا بشكل أكبر على مفهوم الحدث المباشر. ومع ذلك، فإن تحليل هذه الممارسة ليس ذا صلة بالمبدعين فحسب، بل قد يفتح اعتبارات جديدة من وجهة نظر تجربة الجمهور. إن مفهوم «هنا والآن» الذي جسد علم جمال الأداء باعتباره علاقة بين المؤدي والمتفرج، قد يعاد النظر فيه في ضوء الوساطة الاصطناعية للخوارزمية.

(1) المقدمة : الخوارزمية والوسطاء والروبوتات
     لقد رأينا في العقدين الماضيين أمثلة كافية على الخوارزميات والذكاء الاصطناعي على طول التاريخ المعاصر للمسرح والأداء، على الأقل لنبدأ في التساؤل عما إذا كانت هناك أي عناصر جديدة ذات صلة بالممارسة. وبدلاً من تحديد معنى عام شامل لوجودها، نود في هذه الورقة التحقق من كيفية مشاركتها في دراماتورجيا الحدث المباشر. ومع ذلك، قبل أن نقيم استخدام الخوارزمية والذكاء الاصطناعي من وجهة نظر إنشاء المحتوى (المؤلف والمؤدي) ومن وجهة نظر الاستقبال (الجمهور)، فمن الجدير أن نذكر أساسيات أبطال هذه الرواية في العرض المسرحي. والتعريف البسيط للخوارزمية أنها سلسلة محدودة من التعليمات لأداء مهمة ما . ولعل أحد الأمثلة الأكثر استخدامًا هو وصفة خبز الكعكة : مع إعطاء بعض المدخلات (المكونات)، وتواجد سلسلة من التعليمات (التحضير) التي تنتج الناتج المتوقع (الكعكة) . ومن الواضح أن الخوارزميات في أجهزة الكمبيوتر قد وصلت الآن إلى مستوى عالٍ من التعقيد؛ فهي تحتوي على عدد كبير من الميزات مثل الدور الشرطي if/then/else، والحلقات، والمتغيرات، والقيم التي يجب مراعاتها. ومع ذلك، يجب على المرء دائمًا أن يتذكر أن الخوارزميات عبارة عن تعليمات تصف الإجراءات التي يجب تنفيذها.
     يمكننا أن نستمر في مثال الوصفة لتحديد عناصر أخرى مدرجة في الموضوع الواسع الذي يقع عادةً تحت مصطلح الذكاء الاصطناعي (الذي يُختصر إلى AI من الآن فصاعدًا)، وبالتالي توسيع المفهوم الأساسي للخوارزمية نحو تطبيقات أكثر تحديدًا. باختصار، يمكننا وصف الوسيط الاصطناعي بأنه الشخص الذي لا يعرف التعليمات فحسب، بل يحدد أيضًا محتويات ثلاجتك، ويكتشف أجهزة الطهي لديك، ويكون هدفه الخبز، وينشر خطة تسمح بتسليم الوصفة (ربما يعرف أيضًا أنك تفتقر إلى أربعة وعليك الذهاب للتسوق). بعبارة أخرى، يكون العميل قادرًا على بناء خطة مع جميع الإجراءات اللازمة، وفقًا لموقف معين، لتحقيق النتيجة المتوقعة. ومع ذلك، قد يفضل هذا العميل تحديد المكونات العضوية فقط أو يمكنه وصف كل عملية باستخدام أمثلة كلاسيكية من كتب الطبخ. بعبارة أخرى، يمكن برمجة الوسيط لإظهار بعض سمات الشخصية التي ستميز أفعاله.
     أخيرًا، الروبوت هو الذي تتركه في المطبخ ليخبز الكعكة (يقوم بالأعمال المخطط لها) بينما تتناول مشروبًا مع أصدقائك قبل العشاء. وبغض النظر عما إذا كان الروبوت يشبه الإنسان أو كان جهاز طهي معقدًا للغاية، فإن الحقيقة المهمة هي أنه سيكون قادرًا على التفاعل مع العالم المادي. وقد يكون لديه واجهة صوتية تطلب منك التأكيد قبل بدء كل خطوة من العملية، ويمكنه أيضًا إظهار السعادة عند الانتهاء من الكعكة.
     باختصار: تصف الخوارزمية، من خلال لغة شكلية، والتعليمات لتنفيذ الإجراءات للحصول على نتيجة متوقعة. ويعتمد الوسيط الاصطناعي على خوارزميات تسمح لنا بالوصول إلى هدف معين بفضل الخطط التي تستند إلى التكوين المحدد للحقائق؛ اذ يعتمد الروبوت على قدرة الوسيط ولكنه يتميز بشكل أساسي بقدرته على التفاعل مع العالم الحقيقي .
     من الواضح أن هذه الأمثلة تتجاهل السؤال الأساسي المتعلق بكل المعرفة اللازمة لعمل الآلة: فعلى سبيل المثال، تشير تعليمات مثل «خفق البيض» في وصفة ما إلى أن الآلة «تعرف» كيفية تنفيذ فعل «الخفق» و»تعرف» ما هو «البيض». وقد كانت الأمثلة الأولى للذكاء الاصطناعي مبنية على المعرفة الموصوفة صراحة (أي مشغل بشري يشفر هذه المعرفة بلغة شكلية). وفي الآونة الأخيرة، ظهرت خوارزميات خاصة تسمح للآلة بالتعلم من المثال (أي يمكننا عرض عشر صور لبيض حتى يبتكر الكمبيوتر «فكرته» عن البيض). وهذا ما يسمى «التعلم الآلي». وفي السنوات الأخيرة، وبفضل تطور إضافي في تكوين الأنظمة الحاسوبية (الشبكة العصبية بشكل أساسي)، يمكن للآلة أن تتعلم بشكل مستقل: فبفضل آلاف الساعات من برامج الطبخ التلفزيونية، يمكن للآلة أن تتعلم عن الخبز، بل وحتى اختراع كعكة جديدة.
     وعلى الرغم من أن هذه التعريفات واسعة وبسيطة، وحتى لو كان من المستحيل في التطبيق العملي التمييز بينها في كثير من الأحيان، فإنه يتعين أن نأخذها في الاعتبار عندما نناقش عناصر الذكاء الاصطناعي في الدراما والمسرح.
     هناك أمثلة (سنناقشها لاحقًا) حيث يركز الأداء على التعليمات «مثل قطعة من العمل A Piece of Work» لآني دورسن، وأخرى حيث يكون مركز الاهتمام هو الوسيط المستقل مثل شخصية جيرمايا Jeremiah التي جسدتها سوزان برود هيرست في زهور الدماء الزرقاء Blue Bloodshot Flowers)، وأخرى حيث يكون التركيز على وجود الروبوتات والآلات التي تحل محل الممثلين (مثل روبوتات  أنتونيلي مارتينيز روكا في بولندا). وهناك أيضًا أمثلة يتعلم فيها الكمبيوتر من تصرفات المؤدي ويبدأ في المشاركة في الأداء (مثل شخصيات منفصلة Discrete Figure لدايتو مانابي وكايل ماكدونالد ومجموعة الرقص  ايليفن بلاي) .
     في العقدين الماضيين، شهدنا زيادة في التجارب باستخدام الذكاء الاصطناعي والخوارزميات كأداة للأداء المسرحي. ومع ذلك، قد نتذكر أيضًا التجارب السابقة. فلماذا لا نعتبر اليزا ELIZA، أول روبوت محادثة أنشئ في عام 1966، وأول ارتجال درامي بين إنسان وجهاز كمبيوتر؟ قبل كل شيء، لجأ المؤلف فايزينباوم إلى الدراما عندما شرح البرنامج بقوله : « روبوت مثل إليزا في شهرة بيجماليون، يمكن جعله أكثر تحضرًا، مع ابقاء علاقة المظهر بالواقع، مع ذلك، في نطاق سلطة  الكاتب المسرحي» , مقترنة بجهد أكثر عمومية لتوجيه أجهزة الكمبيوتر المركزية المولودة حديثًا نحو الإبداع. وفي نفس العقد، في الواقع، نتذكر الأمثلة الأولى لتوليد القصة تلقائيًا. ففي أوائل الستينيات، قام اللغوي جوزيف إي. جرايمز ببرمجة جهاز كمبيوتر IBM، في الجامعة الوطنية المستقلة في المكسيك، لتوليد القصص . ولأول مرة، عملت الآلة كراوي للقصص، وأنتجت قصصًا قصيرة (بضعة أسطر فقط) وكانت منطقية للقارئ. وفي عام 1965، استخدم أ. مايكل نول تكنولوجيا الرسوم المتحركة المبكرة بالكمبيوتر لإنشاء أول مثال للباليه الذي تم توليده بواسطة الكمبيوتر في مختبرات بيل للهاتف ، حيث مثلت تركيبة مرتبة بعناية من الخطوط والنقاط مجموعة من الراقصين (ثلاثة ذكور وثلاث إناث) يتحركون على خشبة مسرح مربعة. إلى جانب ذلك، قد يكون المقصود من تاريخ الدردشة عبر الإنترنت بالكامل، والانتشار المستمر لروبوت الدردشة، شكلاً من أشكال الإبداع الدرامي المشترك بين المستخدمين والوكلاء الاصطناعيين. في أواخر التسعينيات، في واقع الأمر، فسرت نينا لينوار عالم لعب الأدوار في  مجال متعدد المستخدمين , باعتباره منطقة تتحدى فكرة اللاعب والممثل . وقد أدت ممارسة مغامرة نصية عبر الإنترنت والتفاعل في الوقت الفعلي مع لاعبين آخرين (بشريين أو اصطناعيين) إلى تكوين نوع جديد تمامًا من الأداء، حيث اندمجت مهارات كاتب المسرح مع مواهب الممثل .
     كان الرقص المعاصر أول من بحث في قوة الخوارزمية. اذ كان في الواقع هو الإطار المثالي للتجربة مع الموسيقى التي نشأت باستخدام الكمبيوتر في حدث مباشر، ولكن ثبت أنه مناسب أيضًا للتدرب على تصميمات الرقص التي تقودها الخوارزمية، واختبار وجود عناصر موجهة بواسطة الكمبيوتر على المسرح. ومن المعروف أن ميرس كانينجهام استخدم برنامج أشكال حية LifeForms لإنشاء تصميمات الرقص منذ عام 1991، ولكننا قد نتذكر أيضًا أن الملحن مايكل ماكناب  قد أنشأ في عام 1985 النوتة الموسيقية لـ « المدن الخفية  Invisible Cities» حيث تضمنت تصميمات رقصات بريندا واي حركة ذراع آلية. يمكننا تتبع التطور المستمر للتكامل بين الرقص والخوارزميات؛  اذ اتخذ هذا الاستيعاب عادةً شكل شبكة من البرامج والأجهزة التي تسمح للراقصين بالتفاعل مع محتويات الوسائط. ومن الجدير بالذكر أن برنامجًا مشهورًا للأداء الرقمي التفاعلي وهو (إيزادورا) كان نتاج تعاون بين الفنان/المبرمج الإعلامي مارك كونيجليو فرقة الرقص ترويكا رانش.
     وقد استُخدمت خوارزميات معقدة في ممارسة المسرح أيضًا لتعزيز الوساطة في الأداء. وهناك سلسلة كاملة من البرامج المصممة للحصول على التحكم الحاسوبي في الأداء، وقد لعبت هذه الأنواع من تطبيقات الكمبيوتر دورًا رئيسيًا في تاريخ العلاقة المتبادلة بين الأداء وعلوم الكمبيوتر/الهندسة .
     وقد ظهر المسرح والأداء بعد الرقص بفترة وجيزة. خذ على سبيل المثال
حالة مارسيلي أنتونيز روكا في عرض «أفازيا Afasia» (1998). حيث انضم الفنان إلى المهندس سيرجي جوردا لإنشاء روبوتات صوتية (روبوتات تعمل كأدوات موسيقية يتم التحكم فيها عن بعد) تعمل بفضل جهاز يمكن ارتداؤه (ما يسمى بالهيكل العظمي). ولهذا الغرض، أنتج أنتونيز روكا أيضًا الإصدار الأول من برنامج يدير جميع عناصر تكنولوجيا المسرح (الفيديو والأصوات والأضواء والروبوتات)؛ وقد تم تطويره وتسميته بعد عرض عام    2002 « باستخدام برنامج popular openion leader(POL). ويهدف برنامج POL إلى تزويد المؤدي بالتحكم الكامل في شبكة التكنولوجيا بأكملها على خشبة المسرح.
     توجد قائمة كبيرة من هذا النوع من البرامج؛ فهي تشترك في تنوعها في هدف التقاط الأحداث والإجراءات وتحليلها، ولكن يمكن استخدامها أيضًا لإنشاء أحداث الوسائط المتعددة أو السمعية والبصرية أو، بشكل عام، أحداث الوسائط المتعددة. وفي جميع الحالات، تعتمد على الخوارزمية وقد تتضمن بعض أشكال الذكاء المستقل.
     في عام 1997، قدم كلوديو بينهانيز وآرون بوبيك مسرحية  “أنا/هو: مسرحية تفاعلية» في مختبر الوسائط التابع لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. ومرة ??أخرى، مثل مسرحية «إليزا»، كانت هذه المسرحية اختبارًا لتطبيق الخوارزميات الذكية، وليست اقتراحًا لنوع مسرحي جديد. ومع ذلك، فقد قدمت لمحة عن التكامل بين الذكاء الاصطناعي والمسرح الدرامي . وفي هذا الأداء، لم تكن الشخصية الاصطناعية تشارك في محادثة، بل كانت نوعًا من الكيان الخفي الذي يتفاعل مع تصرفات الشخصية البشرية عن طريق الأصوات والأضواء وعروض الفيديو على خشبة المسرح. كانت المسرحية تتكون من أربعة مشاهد قصيرة حيث قدم الكمبيوتر للممثل العديد من التحديات. وبالمقارنة مع «إليزا»، كانت الخطوة الأساسية إلى الأمام، في هذه الحالة، هي حقيقة أن الوسيط، على الرغم من عدم تجسيده من خلال سطر معين من النص أو من خلال صورة مجسمة، كان يثبت أن الخوارزمية يمكن أن تنتج وساطة درامية. فبدلاً من الاستجابة لمحفزات المستخدم، كما فعلت «اليزا» ELIZA، كان للوسيط المستقل مبادرته الخاصة وأعطى إشارة للممثل البشري للرد وفقًا لذلك. لذلك، تم إظهار الوسيط - كشخصية درامية - من خلال قصده الخاص .
     وقد فتح هذا مجالاً جديدًا للبحث , رأى أن قصد الفعل هو العنصر الأساسي للأداء الدرامي الذي سيتم تنفيذه في البرنامج. وهنا اندمجت التجارب المبكرة لتوليد القصة مع هدف إنشاء سلوك وكلاء مدفوع بالبرنامج، وكانت هذه خطوة نحو سرد درامي رقمي تفاعلي.
     في عام 2005، أصدر مايكل ماتياس وأندرو ستيرن أول لعبة درامية تعمل بكامل طاقتها بعنوان واجهة Façade. اذ شارك اللاعب في ارتجال درامي مع شخصيتين اصطناعيتين (تريب وجريس، وهما زوجان) دعوه لتناول مشروب في شقتهما. تُلعب اللعبة من منظور الشخص الأول على شاشة كمبيوتر حيث ظهرت الشخصيتان في شكل يشبه الرسوم المتحركة ولكنهما تحدثتا بأصوات حقيقية (مسجلة وليست مُصطنّعة) - والأهم من ذلك - أظهرتا سلوكيات بشرية يمكن تصديقها. أثناء اللعبة، سرعان ما أدرك اللاعب أن الزوجين كانا يعانيان من أزمة زواج وكان عليه التعامل مع الحجج والمشاجرات .
  كانت «واجهة Façade» واحدة من التجارب الأولية لاستخدام الذكاء الاصطناعي لإنشاء تجربة درامية؛ فهي تضع اللاعب في موقف يشبه الارتجال المسرحي , ولا يعتمد على مكافآت نمط اللعبة النموذجية. في الواقع، من أجل أبحاثه حول هذا الموضوع، صاغ ماتياس مصطلح الذكاء الاصطناعي التعبيري لتحديد مجال محدد للتجريب في مجال الذكاء الاصطناعي والفنون.
....................................................................................
• أنطونيو يبسو : يعمل أستاذا للمسرح والدراما بجامعة تورينو بايطاليا
• نشرت هذه المقالة في  SKENÈ Journal of Theatre and Drama Studies 7:1 (2021), 91-109


ترجمة أحمد عبد الفتاح