قراءة فى كتاب بريشت فى المسرح الخليجى التغريبى وكسر الجدار الرابع

قراءة فى كتاب بريشت فى المسرح الخليجى التغريبى وكسر الجدار الرابع

العدد 896 صدر بتاريخ 28أكتوبر2024

صدر الكاتب والباحث العراقى ظافر جلود كتاب جديد 2024 ومهم عن دائرة الثقافة بالشارقة، والكتاب بعنوان بريشت فى المسرح الخليجى التغريب وكسر الجدار الرابع
يعد بريشت من أهم الأسماء المسرحية التى أحدثت ثورة درامية فى القرن الماضى وعى ثورة قدم صاحبها جماليات مضادة للشعرية الأرسطية، أعاد النظر فى المدونة المسرحية الغربية واسهم فى ميلاد مسرح المستقبل، كما ظل صاحب هذه الثورة يحظى بقراءات جديدة تكشف عن جوانب أخرى فى مساره المسرحى.
ويعد كتاب (ظافر جلود) أحد هذه القراءات المميزة وهو اول محاولة بحثية في قراءة العرض المسرحي المحلي لمسرحيي خلجيين يتداخل مع المفاهيم والقواعد واسس بريشت في نظريته المشهورة المسرح الملحمي في رصد توثيقي لتجارب مهمة قدمت عبر مسارح مختلفة من دول الخليج العربي.
الكتاب الذي يقع في « 279» صفحة مركزا على التعريف بمنهجية المسرح الملحمي كمصطلح يجمع بين نوعين أدبيين هما الدراما والملحمة، أي شكلي الأدب المسرحي والسردي في عشرينيات القرن الماضي، حيث ينفصل المسرح الملحمي عن مفاهيم المسرح النوعية التي تقلل من قيمة العناصر السردية على المسرح عبر تجسيدها في تمثيل حي.
كما يتطرق المؤلف الى ان تجارب المسرحيين الخليجيين خصوصا والعرب عموما في محاولة تناول ومعالجة القضايا الراهنة شكلاً ومضموناً، فالتفتوا إلى العالم بحثاً عن النموذج الذي يمكن التعلّم من تجربته والاقتداء به، فوقعوا على بريشت الذي كان تأثير مسرحه كبيراً في أوروبا، وتعود أسباب اللقاء مع مسرح بريشت إلى أمور عدة، منها أنه مسرح سياسي اجتماعي بامتياز، وأنه شكل فني جديد لافت للنظر، وله حضور أوروبي، ثم توفر ترجمات أعماله المسرحية والنظرية إلى الفرنسية والانكليزية كل هذا قد لعب دوراً كبيراً في حضوره في المسرح العربي.‏
ويشير المؤلف الى أن نظرية المسرح الملحمي لبرشت قد مزجت بين تقاليد المسرح الغربي وجماليات الشرق وهو المزج الذي جدد المسرح الغربي ومنحه أفقا جديدا للتجريب، أن هدف بريخت هو التوصل الى مسرح يدفع الجمهور الى تغيير العالم بدلا من تفسيره، وهو ما لم يصل إليه لكنه انتهى الى تغيير المسرح نفسه. ثم إن المسرح العربي تأثر كثيرا بالمسرح الملحمي وكانت تجارب مخرجين مثل إبراهيم جلال وسعد اردش وعوني كرومي وفؤاد الشطي وصقر الرشود ومحمد العامري وحمد الرميحي وخليفة العريفي وعماد الشنفري ومؤلفين مهمين مثل الشيخ الدكتور سلطان القاسمي وعبد العزيز السريع وسعد الله ونوس وإسماعيل عبد الله وسامح مهران اسموا في تعزيز النظرية البرشتية بمحاولات راهنت على قراءة واعية للمسرح الملحمي. لأن بريشت راهن على أهمية المسرح أكثر من السياسة، وأن المرحلة الشرقية في حياة بريشت حولته من المسرح التعليمي الى المسرح الملحمي. وأن المسرح الملحمي هو محاولات تجريبية لتجاوز المألوف وإنتاج عرض مسرحي يحمل بين مضامينه الفكرية روح العصر، كما استند المسرح الملحمي إلى ابتكارات تسعى للتجاوز والهدم والبناء في محاولة لتغيير رسالة الدراما التي تعتمد على التطهر والاندماج.
وخصص الكتاب الفصل الأول والثانى للحديث عن تجربة بريخت ومدرستة المسرحية حيث يعتبر برشت من أهم كتاب المسرح العالمي في القرن العشرين. ويقوم مذهبه في المسرح على فكرة أن المشاهد هو العنصر الأهم في تكوين العمل المسرحي, فمن اجله تكتب المسرحية, حتى تثير لديه التأمل والتفكير في الواقع, واتخاذ موقف ورأي من القضية المتناولة في العمل المسرحي. ومن أهم أساليبه في كتابة المسرحية:
المزج بين الوعظ والتسلية، أو بين التحريض السياسي وبين السخرية الكوميدية. كذلك استخدام أغنيات بين المشاهد وذلك كنوع من المزج بين التحريض والتسلية. من خلال استخدام مشاهد متفرقة، فبعض مسرحياته تتكون من مشاهد متفرقة, تقع أحداثها في أزمنة مختلفة, ولا يربط بينها غير الخيط العام للمسرحية. كما في مسرحية «الخوف والبؤس في الرايخ الثالث» 1938. فقد كتبها في مشاهد متفرقة تصب كلها في وصف الوضع العام لألمانيا في عهد هتلر, وما فيه من القمع والطغيان والسوداوية التي ينبأ بحدوث كارثة ما، أما فى الفصل الثالص والرابع كان الحديث عن أثر بريخت عربياً
ويركز الكتاب على ملامح التجريب البريشتي بالمسرح الخليجي، لنتذكر البدايات الأولى في شأننا المسرحي العربي. ضمن خطوات متفرقة لم تُشكّل مرجعية علمية للاهتداء بمسببات التجريب الصحيح تنتصب أمامنا محاولات كان لها فضل الريادة التاريخية. إن مسرحنا العربي اليوم يمر بقطيعة ثقافية مع رواد ذلك الجيل. لهذا يتفاقم شعورنا بأنّ المسرح يتراجع وأننا لا نتقدم معه خطوة، وأن ممارستنا للعملية التجريبية ما تزال تتخبط وتعاني من استهجان يشترك فيه المجتمع، ونخبة من (المتمسرحين) غير أولئك الذين تلقوا التجريب من منابعه الأصلية بجهودهم الذاتية.
وفي ظل هذا السياق ننظر إلى جهود الرواد بذات أهمية كبيرة، وأوضح مثال دال تمثل في توظيف بعض تجليات المسرح الملحمي في مسرحنا العربي؛ نتيجة لأوضاع الوطن العربي السياسية والأيديولوجية، في حين أنه يصعب تجاهل مخرجات الواقع الاجتماعي العربي الذي باتت تقنيات المسرح الملحمي قديمة بالنسبة إليه لارتباطها في منشئها الأساسي بظروف سياسية بحتة قد تغيرت اليوم. ولهذا سوف تظل بعض الكتابات تدور بنا في فلك الأسطورة أو التأثر بالنظريات الغربية وهو تأثر واقع لا محالة، أما في أَضعف الأحوال فسوف يتكرر السؤال التقليدي: لماذا لم يعرف العرب المسرح في تاريخهم الحضاري الطويل؟
ومع أن المسرحيين في الخليج العربي لم تتيح لهم الفرص للاطلاع على مؤلفات بريشت النظرية والمسرحية، إذ لم يترجم منها إلى العربية سوى مقالات متفرقة حتى نهاية السبعينات وما ترجم لا يقدم وجهة نظر بريشت، ولهذا كان استيعابه قاصراً إن لم نقل مشوهاً، وأصبح بريشت موضة كما حدث مع معظم التيارات الوافدة إلى المسرح العربي عموما ، فأخذ المسرحيون العرب في الخليج او ببعض العواصم المعروفة باهتماماتها المسرحية ومعاهدها ومنهاجها المسرحية يستخدمون الراوي والتغريب وتدخله في الحدث وتوجيه الممثل إلى الجمهور واستخدام الأغاني ونزول الممثلين إلى الصالة، وكانت هذه المحاولات مقلدة لا تنبع من الروح الملحمية البرشتية أكثر منها إبداعية، لكن في ذلك الوقت توجه مجموعة من المسرحيين العرب إلى الاستيعاب المبدع لبريشت الذين درسوا في الغرب أو الشرق مثل كاتب ياسين الذي التقى بريشت قبل وفاته في باريس، وتحدث معه عن مسرحيته «الجثة المطوقة».
كما نلاحظ أن مسرحيات سعد الله ونوس في سوريا منذ السبعينيات مثل سهرة مع أبي خليل القباني ومغامرة رأس المملوك جابر والملك هو الملك، وحتى مسرحياته الأخيرة جاءت استيعاباً إبداعياً لمسرح بريشت ومدى اندماجه في بنية المجتمع العربي، وذلك من خلال البنية الملحمية، والتأكيد على التأريخية وبينة النص المفتوح التي تتكامل عبر الارتجال في عملية الإخراج.‏
أما في مصر الذي تلقى الأصداء الأولى لمسرح بريشت منذ نهاية الخمسينيات، فقلما نعثر على كاتب تجلت في مسرحياته تأثيرات بريشت بشكل إبداعي، إلا إذا اعتبرنا البينة الملحمية في مسرحيات نجيب سرور الشعرية، ياسين وبهية وآه ياليل يا قمر، أه يا بلد، وأوبرا الشحاذين دلالة غير مباشرة على تأثره بمسرح بريشت الشعري في إطار توجهه الوطني ذي الصبغة اليسارية، فيما كان كمال عيد يحلل مسرحيات بريشت المبكرة بعل، وطبول الليل، نجد مخرجاً آخر هو سعد أردش الذي اطلع على تجارب بريشت حاول في بعض أعماله استلهام منهج بريشت في الإخراج والتمثيل ، فيما أن بعض المسرحيين في تونس والجزائر والمغرب والعراق قدموا عروضاً بريشتيه تلامس بنية قضايا المجتمع العربي، وكان الختام فى الفصل الخامس للحديث عن أثر بريخت فى مسرح سلطان القاسمى
وبخصوص مفهوم التغريب بين النص التاريخي والملحمي في اعمال الدكتور سلطان القاسمي بعد ان افرز له المؤلف فصلا فى كتابه حيث يجد ان المقارنة بين المسرح السياسي والوثائقي والتاريخي فهما يركزان على الواقع ومن يعمل به يبتعد عن التقليد الملحمي أو السياسي وهو ما يراه ارتقاء فنيا. إن مسرح الواقع لديه تاريخ وأساطير وأشكال فنية وأهداف سياسية اجتماعية فهو ليس حركة موحدة وهو ظاهرة مليئة بالتناقضات وهو يحتوي على بعض صفات المسرح الوثائقي،
ولكنه لا يلتزم بتعريفات المسرح الوثائقي فمسرح الواقع هو الفئة الأكبر التي تظهر ميزة مشتركة بين العديد من الأشكال المسرحية التي تشمل المسرح الوثائقي الدرامي والمسرح اللفظي ومسرح الواقعية ومسرح الحقيقة ومسرح الشاهد وعروض القرية ومسرح السيرة الذاتية. حيث نجد أن مسرحيات الشيخ الدكتور سلطان القاسمي مزجت بين الرؤية الواقعية وجماليات العرض الملحمي البريشتي، أن كل مسرحية كتبها الشيخ الدكتور سلطان القاسمي استندت إلى التاريخ، حيث أدرك  القاسمي أن ما في التاريخ من أحداث ووقائع يمكن أن يستفاد منها وتكون صورة من صور الواقع إذا لم تكن بحرفتيها فبأهدافها وتأويلاتها وأحداثها والرؤى المعاصرة تنظر للتاريخ باعتباره مصدراً للإلهام ومنجماً للموارد والشخصيات والحوادث والأفكار والمواقف.
ففي مسرحية “النمرود” التي تتألف من ثلاثة فصول وتجسد نهاية الطغاة والمتغطرسين والجبابرة في الأرض من خلال شخص سعى لينصب نفسه إلهاً على البشر إلى أن أرسل الله له جيش البعوض يقضي على ملكه ويجعله عبرة لمن يعتبر. كما تناولت مسرحية “شمشون الجبار” في ثلاثة فصول قصة الصراع الأزلي بين الفلسطينيين والإسرائيليين بالعودة إلى العام 1010 قبل الميلاد عندما كان شمشون الجبار يقتل الفلسطينيين وينكل بهم ثم انتهى بأن قتل نفسه مع آلاف منهم وتسجل المسرحية انتصار الفلسطينيين على الملك شاؤول أول ملوك بني إسرائيل.
وجاءت مسرحية “عودة هولاكو” لتجسد ما حدث في الدولة العباسية قبل سقوطها مع إسقاط هذه الأحداث على الواقع العربي. وقدمت مسرحية “القضية” قراءة لواقع الأمة من خلال استحضار تاريخها. وخصص الشيخ الدكتور سلطان القاسمي مسرحيته “الواقع طبق الأصل” للقضية الفلسطينية وتوقف عند الانتفاضة وأبرز الوعي المعاصر الذي أفرز مقاومة جادة لتحرير القدس ،وتأتي مسرحية “الإسكندر الأكبر” ليسقط مؤلفها أحداث القصة على واقع منطقة الخليج والواقع العربي من خلال صورة حية لصراع القوى قديماً وحديثاً. لذلك فان الدكتور سلطان القاسمي جعل مسرحه كله مخلصاً للتاريخ والوثيقة التاريخية وبحث عن صياغات فنية جديدة في إطار تاريخي أو بالأصح اتخذ منحى تاريخياً للوصول إلى دلالات وبراهين وتفسيرات جديدة.
. نجن أمام كتاب جاد وجديد ومحاولة مميزة لناقد صاحب رصيد طويل من الجهد المسرحى امتد لقرابة أربعة عقود من الإنتاج المسرحى المنوع.


محمود سعيد