محمد ومرقص وكوهين !!

محمد ومرقص وكوهين !!

العدد 900 صدر بتاريخ 25نوفمبر2024

هكذا قالت جريدة «المقطم» في سبتمبر 1942: «قريباً «محمد ومرقص وكوهين»»!! وسريعاً ما علمنا أنها المسرحية الجديدة لفرقة الريحاني والمعروفة باسم «حسن ومرقص وكوهين»!! وقد فسرت مجلة «المصور» هذا الاختلاف في الاسم قائلة: “بدأ الريحاني موسمه الرمضاني في هذا الأسبوع وسيوالي تمثيل رواياته المعروفة على أن يعرض روايته الجديدة «حسن ومرقص وكوهين» عقب أيام عيد الفطر المبارك. ومن طريف ما يروى عن هذه الرواية الجديدة أن دور حسن أسند إلى «حسن فايق»، وكان قد اختير لهذا الدور اسم «محمد» ولكن لاعتبارات خاصة أن يبدل به اسم «حسن» أما دور «مرقص» فيقوم به شرفنطح، وأسند دور كوهين إلى الأستاذ بشارة واكيم. ويقوم الريحاني بشخصية ظريفة لرجل يدعى عباس أفندي وهو أحد المستخدمين لدى حسن بك”.
تم عرض المسرحية مرة أخرى – بعد فترة - في دار الأوبرا الملكية لفترة قصيرة، لا تتناسب مع عرض جديد للفرقة!! مما جعل مجلة «الصباح» تنشر تفسيراً لذلك تحت عنوان «فرقة الريحاني بالأوبرا»، قائلة: بعد مفاوضات ومداولات بين الأستاذ نجيب الريحاني ولجنة ترقية التمثيل العليا رؤي أن يُمثل الأستاذ الريحاني مع فرقته 20 يوماً بمسرح الأوبرا وينتظر أن يبدأ التمثيل من 15 فبراير إلى 5 مارس بروايته الجديدة «حسن ومرقص وكوهين» .. وقد أقنعت اللجنة الأستاذ الريحاني بأن هذه المدة القصيرة ليس معناها سوء التقدير لفرقته أو لفنه، بل يرجع إلى ارتباط الأوبرا مع بعض الفرق الأجنبية وببعض حفلات الجمعيات الخيرية.
وأحداث المسرحية تدور في متجر يملكه ثلاثة هم: حسن ومرقص وكوهين، ولديهم عامل يعمل معهم منذ عشرين سنة اسمه «عباس» يلقى منهم الأمرّين، وفي ذات يوم يموت عم هذا العامل ويترك له ثروة قدرها أربعون ألف جنيه ولكن عباس لا يدري بهذا الإرث والذي يعلم به هو مرقص أفندي أحد أصحاب المحل! فيتفق مع شريكين على ربط عباس بعقد كبير وبمرتب كبير مقابل شرط جزائي ضخم لمن ينقض هذا العقد. ويعلم عباس بعد توقيع العقد بالإرث ويفهم سر العقد ويأبى أن ينقضه، ولكن حسن ومرقص وكوهين حاولوا تمرير الأمر والتغاضي عن أمور كثيرة أملاً في أن يقوم عباس بمخالفة العقد، ولكن عباس تحامل على كل ذلك .. وحاول حسن ومرقص وكوهين الاحتيال عليه لفض الكونتراتو عن طريق زواجه من «بلقيس» ابنة حسن، ولكنها لم تكن مائلة إليه وسمع بذلك عطية وأخبر عباس بذلك وعندما بدأت بلقيس الحديث معه حاول عباس إيهامها بأنه لا يحبها مع أنه يكن لها حباً جماً في صدره منذ أن كان فقيراً. وحاولت بلقيس التمثيل عليه لإيقاعه في حبها ولكن عباس على علم بتلك الرواية. فعند حضور حسن ومرقص وكوهين مزق عباس العقد متنازلاً عنه فأعجبت به بلقيس وقبّلا بعضهما البعض وبذلك تنتهي أحداث المسرحية.
مخطوطة المسرحية كانت تشتمل على تقرير رقابي مؤرخ في فبراير 1943، يقول إن قصة المسرحية تعود إلى الكاتب المسرحي المعروف «فيدو» وقد تُرجمت ومُصرت ومُثلت منذ خمسة عشر سنة باسم «عشرين ألف جنيه». وبالبحث وجدت بالفعل مسرحية بهذا الاسم قدمتها فرقة رمسيس ليوسف وهبي عام 1926، وكانت من اقتباس «استفان روستي»، وتمثيل كل من: حسين رياض، استيفان روستي، فاطمة رشدي، عزيز عيد، مختار عثمان، حسن البارودي، أحمد علام .. إلخ. والتشابه بين المسرحيتين كبير ويؤكد أنهما مقتبستان من قصة واحدة!!
وأحداث مسرحية «20 ألف جنيه» تدور حول الشاب «زردق» الذي راعاه الثري سليمان باشا، ثم تركه يسعى في طلب العلم، فاضطر إلى العمل جرسوناً في خمارة الخواجة «كوباليدس» ليضمن العيش اليومي بجانب دراسته. وفي يوم عثر «مقار» أحد أقارب الباشا على وصية من الباشا يهب بها مبلغ عشرين ألف جنيه لزردق، فيذهب مقار إلى الخواجة ويتفق معه على خطة للاستيلاء على مبلغ الوصية، بأن يقوم الخواجة بكتابة عقد عمل لزردق لمدة عشرين سنة بمرتب كبير. وما أن وقّع على العقد تأتيه البشارة بالوصية، وهنا يكتشف مؤامرة فيتمسك بالعقد ويرتضي بالعمل عشرين سنة!! وتسير الأحداث بعد ذلك حول حبك المؤامرات والمواقف من قبل الخواجة ومقار لإجبار زردق على نقض العقد ودفع الشرط الجزائي، ولكن زردق يعاند، وتنتهي المسرحية بزواج زردق من ابنة الخواجة!!
بعد النجاح السريع لمسرحية «حسن ومرقص وكوهين»، بدأ الريحاني الاستعداد للسفر إلى فلسطين ليقدم أعماله المسرحية هناك بعد غياب طويل! وعندما كلف أعضاء فرقته من ممثلين وممثلات بعمل «تحقيق شخصية» استعداداً للسفر .. وعندما عرض الأمر على الموظف المختص قال: “إن الفرقة التي حظيت بشرف التمثيل أمام جلالة الملك يجب أن تُعفى من تحقيق الشخصية”. أما «إبراهيم الشنطي» صاحب امتياز جريدة «الدفاع» الفلسطينية ورئيس تحريرها، فقد نشر في يونية 1943 موضوعاً بعنوان «من هو الأستاذ نجيب الريحاني»، جاء فيه بمعلومات جديدة، قائلاً:
يزور فلسطين بعد أسبوعين نابغة المسرح المصري الممثل الكوميدي الشهير الأستاذ نجيب الريحاني ولا شك في أن نجيب الريحاني – رغم أنه لم يزر فلسطين منذ خمس عشرة سنة – معروف كل المعرفة لدى الجمهور الفلسطيني الكريم الذي قدر مجهوداته الفنية وأعجب بتمثيلة الرائع وأدواره المتقنة فيما مثله من روايات. والريحاني أقدر ممثل كوميدي يضع الحوادث الواقعة في أدواره المضحكة لانتقادها أو لإظهار محاسنها. ورواياته كلها فيها درس وعبرة وتسلية، وميزة الأستاذ الريحاني التي تفرد بها دون غيره من ممثلي مصر الكبار هي أنه قام بالتمثيل أمام عدد كبير من الملوك والأمراء والكبراء. فقد قام بعرض قطع من فنه الرائع أمام المرحوم الملك فؤاد كما مثل عدداً من رواياته أمام صاحب الجلالة الملك فاروق وصاحبة الجلالة الملكة وأنعم عليه حضرة صاحب الجلالة الملك فاروق بنيشان النيل تقديراً لفنه العظيم ونبوغه النادر بالتمثيل. وفي سنة 1938 حينما زار سمو الأمير شاهبور القاهرة لعقد قرانه على صاحبة الجلالة الأمبراطورة فوزية عرض الأستاذ الريحاني فنه وتمثيله أمام الأمبراطور فأعجب به الأمبراطور وشجعه وأنعم عليه بجوائز ثمينة. ولم يكتف الريحاني بتقدير الملوك لفنه بل حاز أيضاً تقدير الحكومات والهيئات، فقد أمرت له الحكومة المصرية في هذه السنة بألفي جنيه مصري إعانة لفرقته وهذا المبلغ أكبر مبلغ تحصل عليه فرقة تمثيلية مصرية من حكومة مصر وفي هذا ما فيه من تقدير خاص لفن الريحاني ونبوغه. ولم تكتف الحكومة المصرية بتقديم الهبات المالية له بل عمدت أخيراً وأباحت له التمثيل في دار الأوبرا الملكية دار الحكومة الرسمية للتمثيل مع أن التمثيل في الأوبرا مقصور فقط على الفرقة المصرية الحكومية. وهناك ميزة أخرى للأستاذ الريحاني وهي أنه حظي بعطف وتشجيع وتأييد جميع الطبقات الشعبية فمسرح ريتس في شارع عماد الدين بالقاهرة يزدحم كل ليلة بالأمراء وصفوة الكبراء والزعماء وفضليات السيدات والأوانس لمشاهدة هذا الممثل العجيب الذي طبق فنه الآفاق والميزة الثالثة للريحاني الذي سيصل يوم 24 حزيران الجاري لهذه البلاد هي أنه قادم ليعرض آخر منتوجاته الفنية العظيمة لا طمعاً بالشهرة فشهرته قد سبقته وإنما حباً بالجمهور الفلسطيني ورغبة منه في أن يشاهد الجمهور العربي ما وصلت إليه الفنون المصرية من تقدم ونجاح.
أما مجلة «الصباح» فقد أجرت حواراً مع الريحاني قبل سفره إلى فلسطين يوم 24 يونية، وبعد أن تم الاتفاق معه – من قبل المتعهد - على عشر حفلات قابلة للتجديد ..(س): ما هو الغرض الذي ترمي إليه من رحلتك إلى فلسطين، (ج): إذا كانت لي آمال من رحلة فلسطين فإنها تنحصر في أمل واحد، هو أن أعمم رسالتي الفنية في هذا القطر الشقيق .. ففلسطين كقطر متحضر، وشعب فلسطين كشعب شقيق عزيز .. له علينا حق واجب .. هذا الحق هو أن يفوز بنصيب من الفن المصري فيستمتع به .. ويأخذ منه ما يراه من دروس .. وليسجل ما يراه عليه من نقد وملاحظات. (س): لقد مضت أعوام طويلة لم تسافر فيها إلى فلسطين فلماذا؟ (ج): لا تتم سؤالك فإنني أعرف ما ستقول .. إن تفكيري في رحلة فلسطين هذا العام، لم يكن من أجل الشهرة، أو السعي وراء الربح. ولكن لأطفئ لهيب الحنين الذي اندلع بين جوانحي لهذه البلاد الشرقية المجيدة التي أحمل لها في نفسي كل إعزاز وإكبار. (س): هل ستسافر فرقتك إلى فلسطين بكامل أفرادها أم سيتخلف منها أحد؟ (ج): ستسافر فرقتي بأكملها وبجميع عناصرها من ممثلين وممثلات. (س): وماذا أعددت من الروايات؟ (ج): جميع رواياتي ستكون رهن إشارة الشعب الفلسطيني وإني على استعداد لأن أمثلها كلها إذا شاء هذا الشعب. (س): هل لك رسالة تبلغها قبل سفرك إلى فلسطين؟ (ج): أبعث إلى صحافة فلسطين الحرة تحية الفن المصري على صفحات «الصباح» كما أحيي شعب فلسطين كله تحية صادرة من أعماق قلبي.
سافر الريحاني بفرقته إلى فلسطين، وطوال شهر يونية 1943 لم تتوقف الصحف – في فلسطين وفي مصر – من نشر إعلانات الريحاني ومسرحياته المعروضة في فلسطين. ففي فلسطين تولت جريدة «الدفاع» الإعلان عن مسرحيات «الستات ما يعرفوش يكذبوا» و«حسن ومرقص وكوهين» .. إلخ! أما في مصر فقامت مجلة «الصباح» بنشر إعلانات الريحاني، ومنها هذا الإعلان، وفيه تقول: اليوم 24 يونيو تبدأ الأعياد الفنية في فلسطين الأستاذ نجيب الريحاني وفرقته، يقدم أقوى الروايات الممتازة من خلاصة إنتاجه الفني في عدة أعوام. «القدس» على مسرح زيون، «يافا» على مسرح الحمراء، «حيفا» على مسرح عين دور. يقوم بالدور الأول ملك الكوميديا والفودفيل الأستاذ نجيب الريحاني مع صفوة ممثلي وممثلات الدرجة الأولى. الروايات المقرر تمثيلها: حسن ومرقص وكوهين، الدلوعة، استنى بختك، الستات ما يعرفوش يكدبوا.
وفي أواخر يونية 1943 نشرت جريدة «الدفاع» كلمة بعنوان «فرقة الريحاني الفنان والممثل»، قالت فيها: الرجل الذي يبدد هموم الناس نجيب الريحاني، هذا هو الفنان الموهوب. صديق النفس المتعبة المهمومة. يبعث إليها بالمسرة والراحة. هذا هو الذي جعل القاهرة تضحك منذ وقف على مسارحها قبل عشرين عاماً وإلى اليوم. إبداع في كل شيء. تشهد له روايته اليوم. وتشهدها غداً، وبعد سنة. فإذا بها جديدة عليك، وإذا أنت المشوق إليها دائما. موهبة شخصية يتسلط بها على جماهيره فإذا هو يبدد منها الهموم والمشاغل ويجعلها تمضي وقتاً غير قصير في جو من المرح لا تحظى به في مواقف وحالات أخرى. والرجل أديب أخلاقي. مع ما له من اتصال وثيق بجماهيره، فإنك لا تسمع في كل رواياته كلمة أو عبارة تؤذي الذوق السليم. إنه يعتمد على مقدرته البارعة وطبيعته المدهشة، في جعل جماهيره تضحك ملء قلوبها، وليس على الإشارات والعبارات غير اللائقة. ومن هنا كانت سمعة الريحاني، ومن هنا كانت عبقريته. والرواية الوحيدة التي تمثل في القاهرة لتسعين ليلة متوالية هي رواية الريحاني أيا كانت هذه. ومع ذلك ففي كل ليلة يمتلئ مسرحه المعروف، بأرقى الطبقات والبيوت. ومجرد ظهوره على المسرح، كاف لأن يدخل البشاشة على الوجوه وأن يعد النفوس لساعات جميلة خفيفة يذهب وقتها دون حساب. والريحاني في رواياته يتناول صميم الحياة. ثم يضفي على مواضيعه ألواناً من المسرة لا يستطيع إضفاءها مؤلف أو ممثل آخر غيره. يعاونه في ذلك أديب فنان مثله، هو «بديع خيري». كل واحد منهما متمم للآخر. والعنصر النسائي في الفرقة غني بما للآنسات الممثلات ميمي وزوزو شكيب من مقدرة رائعة لا تتم روايات الريحاني إلا بها. ولقد تقيم في القاهرة أسابيع لا تريد الذهاب في لياليها إلى أي مرسح، لكنك تذهب فقط إلى نجيب الريحاني إذ تنشد نسيان نفسك في ذلك الجو المفرح الحافل بألوان السرور النقية. هذا هو الريحاني كما سنراه الليلة.
وتستكمل جريدة «الدفاع» كلمتها في اليوم التالي قائلة تحت عنوان «فرقة الريحاني على مسرح الحمراء»: مثلت فرقة الريحاني ليلة أمس رواية «قسمتي» وليلة أمس الأول رواية «الدلوعة». وكانت قاعة سينما الحمراء والواجهات مزدحمة بالمئات من الذين جاءوا لمشاهدة فن الريحاني وتمثيله. وقد أمضى الجمهور وقتاً ملأ السرور فيه قلوبه. وكما ذكرنا في عدد «الدفاع» أمس تنطوي روايات هذا الفنان الموهوب على صميم الحياة، لكنه يتناول ذلك تناولاً يقلب فيه المأساة إلى كوميدية مضحكة. ومن هنا كانت المقدرة التي انفرد بها الريحاني. إنه يعرض لأبأس الأحوال والشئون في الحياة ولمواضع النقد، لكنه يجعل من كل ذلك أسباباً قوية تشفق جماهيره على نفسها من الضحك المفرط. وقد أظهر الريحاني تفوقه المألوف المعروف، كما أظهر أفراد الفرقة براعتهم. والريحاني يحتاج إلى مسرح تبسط السكينة جناحها عليه. فكل عبارة بل كل كلمة يتفوه بها وأفراد فرقته ينبغي سماعها وإلا ضاعت على النظارة فرصة. لأجل ذلك يرجى إلى الجمهور المحافظة التامة على السكون والنظام. وفي الحق أن الجميع راعوا هذا ليلة أمس والتي قبلها. والفرقة تشكرهم على ذلك مزيد الشكر. ولرواية «قسمتي» منزلة خاصة بين روايات الفرقة، وقد عرضت في القاهرة شهوراً طويلة بل أطول مدة عرضت فيها أية رواية أخرى. وفيها تمتع الجمهور بوقت خفيف أنساه أعباء الحياة في تلك الساعات القليلة. والشيء الحسن الذي لاحظناه أن الأستاذ الريحاني كان يسرع بين الفصل والآخر فلا يترك النظارة إلا نحو ربع ساعة ثم يعود إليهم. وقد استقبل في الليلتين بالتصفيق المتواصل كما استقبل أيضاً به أفراد الفرقة الذين يعرفهم الجمهور من أدوارهم البارعة في الأفلام.


سيد علي إسماعيل