العدد 903 صدر بتاريخ 16ديسمبر2024
ظل نجيب الريحاني عاماً كاملاً لم يقدم فيه مسرحية جديدة – بعد مسرحية «إلا خمسة» - حيث انشغل في السينما وتحديداً فيلم «لعبة الست»، وما دار حوله من مشاحنات ومقالات وردود صحافية كثيرة. وفي مارس 1946 قدم عرضه الجديد والأخير، وهو مسرحية «سلاح اليوم»، الذي كتب عنها الدكتور طه حسين كلمة منشورة في مجلة «الكاتب المصري»، قال فيها:
ليس الأستاذ نجيب الريحاني في حاجة إلى أن يُعرف إلى الناس ولا إلى أن يهدى إليه الثناء، فقد عرفه الناس كأحسن ما يعرف الفنان البارع، وأهدى إليه الثناء حتى لم يدر ماذا يصنع به. ولست أكتب هذه الكلمة وأنا على جناح سفر إلا لأسجل إعجابي الذي لا حد له بالقصة الأخيرة التي يعرضها الأستاذ نجيب الريحاني على النظارة في هذه الأيام. فسلاح اليوم قصة طريفة حقاً. والغريب أن طرافتها تأتي من أنها لا تعرض على الناس شيئاً مبتكراً وإنما تعرض عليهم حياتهم التي يحيونها في كل يوم. وهي من هذه الناحية درس من أقوم الدروس التي تلقى على الناس، لا في الأخلاق وحدها، بل في تصوير الحياة الاجتماعية وما تشتمل عليه من عناصر الفساد التي لا سبيل معها إلى بقاء أو إلى استقرار. فسلاح اليوم في قصة الأستاذ الريحاني ليس جداً، ولا جهداً، ولا كفاية، ولا عملاً خصباً منتجاً، ولا صدقاً في القول، ولا إخلاصاً في العمل، ولا وفاءً للصديق، ولا اعترافاً للجميل، وإنما هو كل ما يناقض هذه الخصال من الأخلاق. وهو ليس سلاحاً يصطنعه فريق من الناس دون فريق ولا طبقة منهم دون طبقة، وإنما هو سلاح شائع يصطنعه كل من قدر عليه، والناس جميعاً يحرصون على أن يقدروا عليه ويصطنعوه، لأنهم جميعاً يريدون أن يغيروا من حالهم ويخرجوا عن أطوارهم ويبلغوا منازل أرقى من المنازل التي قدرت لهم. يريدون أن يصلوا، ولا يترددون في سلوك السبيل التي تنتهي بهم إلى ما يريدون مهما تكن شائكة ومعوجة، بل هم يسلكون السبل الشائكة المعوجة لأنها وحدها التي توصل في سرعة إلى ما يريد الوصوليون. فالصديق وهو من الطبقة الدنيا يتملق صديقه الموظف في أحد المصارف حتى يجد له عملاً في المصرف الذي هو موظف فيه. ثم لا يلبث أن يخونه في صراحة ووقاحة لا حد لهما، وهو يأخذ عمله، ويستهوى صديقته، ولا يزال يرقى من خداع إلى خداع ومن كيد إلى كيد، ويرقى مع ذلك من درجة إلى درجة ومن خيانة إلى خيانة حتى يخون مدير المصرف، ويشتري منه مصرفه بثمن بخس، وقد رشا أعضاء مجلس الإدارة جميعاً. فهو يعبث ما شاء أن يعبث ويفسد ما وجد إلى الفساد سبيلاً، وينعم من أجل ذلك بلذات الحياة كلها لا يستثنى منها شيئاً لأنه لا يهمل من وسائلهما شيئاً. وهو في أثناء ذلك لا يجد من الناس إلا ثناء وحمداً. فإذا استكشف أحد بعض أوزاره وهم أن يعرضها على مجلس الإدارة لم يجد من يسمع له أو يحفل به، وإنما وجد الإعراض والازدراء والتهديد بالوقوف أمام القضاء. وليس هذا إلا رسماً يسيراً قصيراً مقارباً للموضوع الذي تدور القصة حوله، فبراعة القصص عند الأستاذ الريحاني لا تأتي من الموضوع وحده، وإنما تأتي من الحوار الذي يصور العقل المصري على اختلاف طبقات المصريين أدق تصوير وأصدقه، ومن التمثيل الذي يخلب النظارة منذ المنظر الأول، ومن أصوات الممثلين ونغماتهم حين يتكلمون، ومن أشياء كثيرة لا سبيل إلى تصويرها في هذا الحديث القصير. والأستاذ الريحاني معلم يلقي دروسه الاجتماعية والخلقية على المصريين منذ أكثر من ربع قرن، وهو في الوقت نفسه صاحب فكاهة رائعة حلوة مرة في وقت واحد، يسلي المصريين عن همومهم وأحزانهم العامة والخاصة منذ أكثر من ربع قرن أيضاً. فليعرف المصريون له ذلك وليقدروه قدره وما أراهم يفعلون. وأنه لم المؤلم حقاً أن ينفق الأستاذ الريحاني حياته كلها معلماً للمصريين ومسلياً لهم عن الهموم والأحزان، وأن يؤثر المصريون أنفسهم بدروسه وفكاهته دون أن يجد من الدولة عناية أو تشجيعاً. والغريب أن الدولة تفكر في إنشاء جامعة شعبية. ولتعذرني الدولة إذا قلت إن مسرح الأستاذ الريحاني هو خير قسم من أقسام هذه الجامعة الشعبية. [توقيع] طه حسين.
وكتب زكي طليمات تقييماً للمسرح المصري في عام، نشره في مجلة «الكتاب» في منتصف عام 1946، وتحدث فيه عن أهم الفرق العاملة، ومنها فرقة الريحاني، قائلاً عنها: إن خطتها صريحة ومتواضعة، ولكنها على تواضعها تجري على منهاج قويم. ففرقة الريحاني لا تعمل إلا في مسرحيات فكاهية لها أصل في المسرح الفرنسي، ولكن الاقتباس فيها يجري بلباقة وحذق على أيدي نجيب الريحاني وزميله في المبدأ بديع خيري، وللأول في هذا اختيار المسرحية التي يجري الاقتباس منها وتعديلها، وللثاني الصياغة في لهجة عامية رشيقة تختار عباراتها بميزان دقيق، لتكون في نطاق الفكاهة الممتازة، وتجري فيها النكات من غير افتعال ولا إقحام، فتخرج المسرحية وهي تتنفس عن صبغة محلية فاقعة تضيع معها معالم الأصل الغربي، وتخاطب المزاج المصري العام في كل ما يتوق إلى سماعه تبعاً للظروف التي تحيط به. وتعتبر هذه المقتبسات من أبرع ما ورد من نوعها في المسرح العربي منذ نشأته الأولى، أي منذ أن عملت الذهنية العربية في اقتباس فن التمثيل عن الأدب الغربي في العقد السابع من القرن الماضي وإقراره في نطاق الأدب العربي المستحدث. ويعمل الأستاذ الريحاني في مسرحياته هذه على أن يعلي جانب الفكاهة إلى أبعد مدى، مع محاولة صادقة من جانبه أن يقول شيئاً ذا وزن. بيد أنه هذا الشيء يضيع أحياناً وسط أكداس الفكاهة، فيصبح كحبات من القمح في ركام من التبن! ولكن يعوض عن هذا، حسن الأداء التمثيلي من جانبه ومن جانب أفراد فرقته والأداء التمثيلي من المسرحية مثل «الصياغة» من المعادن والأحجار اللامعة، وأقرّ بأن الريحاني «صائغ» ماهر، ولا عجب فهو على رأس كبار الممثلين الفكاهيين، بل هو أقدرهم حرفة وأخصهم موهبة، وأوسعهم علماً بوسائل التأثير في الجمهور. ويمكننا أن نلخص نتاج فنه بأنه من أحسن ما يمكن أن يتذوقه الجمهور المصري في مختلف طبقاته، من الصفوة المختارة إلى العامل ورجل الشارع. بيد أن نشاطه محدود، فهو لا يخرج في الموسم الواحد أكثر من مسرحيتين، وفي هذا الموسم القائم لم يقدم غير مسرحية واحدة «سلاح اليوم». وما هو هذا «سلاح اليوم» الذي يشير إليه؟ أدع التفسير للقارئ الذي شاهد المسرحية، ورأى أن سلاح قام منذ أن خلق الإنسان، ولن يزال قائماً ما دامت الإنسانية يستخفها الملق والمداهنة والرياء، وما دامت المرأة تلعب في مصاير الناس.
بعد مسرحية «سلاح اليوم» لم يقدم الريحاني أية مسرحية جديدة طوال ثلاث سنوات، وفشلت جميع محاولاته بألا يجعلها الأخيرة!! لذلك وجدناه يعيد عرض مسرحياته القديمة مثل «استنى بختك» في ديسمبر 1946، ثم تعرض إلى وعكة صحية أدخلته المستشفى، فأوقف موسمه التمثيلي وقالت مجلة «الصباح» تحت عنوان «الأستاذ الريحاني هل يؤجل التمثيل هذا الموسم؟»: كان الأستاذ نجيب الريحاني قد استعد للموسم التمثيلي الحالي واتفق مع الممثلين والممثلات فعلاً، ولكن حدث أن فوجئ بمرضه الذي أشرنا إليه قبل الآن، وبعد أن شفي وخرج من المستشفى نصح له الأطباء بعدم العمل على المسرح في هذا الموسم وإلا سيكون عرضة لعودة المرض في أي وقت. ولذلك قرر الأستاذ نجيب الريحاني اعتزال التمثيل في هذا الموسم وأبلغ ذلك إلى جميع أفراد الفرقة الذين سبق وأن تفاهم معهم على العمل. ولهذا السبب قام «يوسف وهبي» باستئجار مسرح ريتس وبدأ موسمه فيه من يناير 1947. أما الريحاني فاهتم بإنهاء فيلمه «أحمر شفايف» الذي تم عرضه في سينما رويال.
بعد ستة أشهر اشتد المرض على الريحاني فنشرت جريدة «البلاغ» خبراً في يوليو 1947 قالت فيه: “قرر الأستاذ نجيب الريحاني عدم التصريح باليوم الذي ينوي فيه السفر إلى إحدى المصايف في مصر أو الخارج خشية أن يصاب بمرض يلزمه الدخول في إحدى المستشفيات لإجراء عملية جراحية”. وبعد أيام نشرت الجريدة خبراً آخر بعنوان «نجيب الريحاني وتحية كاريوكا على مسرح واحد»، قالت فيه: “تم الاتفاق أخيراً بين الأستاذ نجيب الريحاني والنجمة السينمائية تحية كاريوكا على التمثيل في فرقته على أن يعهد إليها بالدور الأول في رواية افتتاح موسمه الجديد «ما تلعبيش بالنار» والذي سيبدأ في الأسبوع الثاني من شهر نوفمبر المقبل”. وتم الاتفاق على أجرها بخمسة جنيهات عن كل ليلة تمثيل.
وفي أكتوبر 1947 أعلن الريحاني عن افتتاح موسمه بمسرح ريتس بعرض مسرحية «30 يوم في السجن»!! مما يعني أنه يعيد المسرحيات القديمة، ولم يفتتح بمسرحيته الجديدة التي أعلن «ما تلعبيش بالنار»!! الغريب أن إعلان الريحاني عن افتتاح الموسم جاءت فيه هذه العبارة: «وقريباً جداً الرواية الجديدة «أحب حماتي»». ونشرت مجلة «الصباح» خبر الافتتاح بقولها: تم الافتتاح يوم السبت الماضي برواية «30 يوم في السجن»، وسيحدد قريباً موعد تمثيل روايته الجديدة «ما تلعبيش بالنار»!! وأصبحنا لا نعلم هل الريحاني سيعرض «ما تلعبيش بالنار» أم «أحب حماتي» أم هما مسرحية واحدة باسمين مختلفين!!
مهما كانت الحقيقة فالريحاني لم يمثلهما ولم يمثل أية مسرحية منهما، وانشغل بأمور أخرى مثل معركة المقالات المنشورة في الصحافة، والتي كان يرد بها على «زكي طليمات» وطلاب المعهد العالي لفن التمثيل العربي، وكانوا يردون عليه بالمثل. أما عروض الفرقة، فقد أعادت عرض مسرحياتها القديمة حتى منتصف عام 1948 ومنها مسرحيات: «قسمتي»، «ما حدش واخد منها حاجة»، «حكاية كل يوم»، «الدنيا على كف عفريت»، «الدلوعة».
هذا الوضع أثر سلباً على الفرقة، حيث نشرت مجلة «الأستوديو» خبراً، قالت فيه: قررت لجنة ترقية المسرح حرمان فرقة نجيب الريحاني من نصيبها في الإعانة الحكومية نظراً لأن الريحاني لم يقدم روايتين جديدتين وفقاً للشروط المتفق عليها ولم تمنح أفراد فرقته سوى 600 جنيه. وقد تقدم ممثلو وممثلات الفرقة بشكوى إلى اللجنة يطلبون فيها منحهم الإعانة كلها نظراً للجهود التي بذلوها في الموسم الأخير.
زاد المرض على الريحاني فسافر إلى أوروبا وتحديداً إلى إيطاليا وفرنسا لتلقي العلاج، وعندما عاد قام بتمثيل مسرحية «حكم قراقوش» في مارس 1949 مجاملة للدكتور طه حسين الذي طلب منه هذا العرض ليقدمه إلى ضيف مصر «جان كوكتو»، بوصفه المدير الفني لفرقة الكوميدي الفرنسي. وبعد شهر عرض الريحاني على مسرحه «الدنيا على كف عفريت»، ثم نصحه الأطباء بالسفر إلى أوروبا لاستكمال العلاج، وأكدت جريدة «البلاغ» هذا الأمر قائلة: “لم يعرف بعد مصير فرقة الريحاني وتدل الدلائل أن الريحاني يبغي السفر إلى أوروبا لإكمال علاج القلب وذلك نزولاً على نصيحة الأطباء ولهذا يرغب في إعادة «العربون» الذي تسلمه من شركة أفلام أنور وجدي وقدره ألف جنيه”.
وفي مايو 1949 أكدت جريدة «البلاغ» هذا الأمر، قائلة: “رفض الأستاذ نجيب الريحاني إقامة موسم صيفي في الإسكندرية بسبب سفره إلى أوروبا لإتمام العلاج والاستعداد للموسم القادم الذي ستخرج فيه فرقته خمس روايات جديدة”. وللأسف لم يسافر الريحاني إلى أوروبا، وأقام موسماً صيفياً في الإسكندرية على مسرح محمد علي من 23 إلى 29 مايو 1949 مثل فيه ثماني مسرحيات من عروضه السابقة، كانت مسرحية «الدنيا على كف عفريت» آخر عرض له في الإسكندرية يوم الثامن من يونية 1949، حيث قالت جريدة «البلاغ» في اليوم التالي تحت عنوان «آخر كلمة له»: «مما يذكر أن رواية «الدنيا على كف عفريت» كانت آخر رواية مثلها نجيب الريحاني في الإسكندرية وفي نهاية الرواية يقول نجيب أو «كشكش بك»: «صحيح يا إخواني الدنيا دي على كف عفريت»!! وصمت الريحاني عن الكلام .. صمت إلى الأبد .. فقد مات الريحاني!!