«أوبرا العتبة».. صدمة وصفعة للمثقفين

«أوبرا العتبة»..  صدمة وصفعة للمثقفين

العدد 903 صدر بتاريخ 16ديسمبر2024

جرأة وشجاعة كبيرة جدًا من مدير مسرح الطليعة الفنان عادل حسان في إقدامه على إنتاج عرض «أوبرا العتبة» الذي يعد ثورة على التقاليد المسرحية المعروفة والمتبعة، فهو مختلفًا في شكل ومضمون العروض المسرحية، العرض تأليف وإخراج الفنان هاني عفيفي، والذي قام فيه بدور الجراح الشاطر الذي يقوم بفتح الجرح وتطهيره حتى يضمن التئامه وسرعة شفاءه، فقد أشار إلى ما نراه يوميًا واعتبرناه عاديًا وتعايشنا معه، ليقول لنا انتبهوا أيها المثقفون...
متى وكيف ولماذا حلت الفوضى والعشوائية والسلوك الاستهلاكي، متى وكيف ولماذا افتقدنا القيم الإنسانية كالرحمة والاحترام والنخوة، متى وكيف ولماذا انتشر هذا الكم من اللغو والبلطجة، متى وكيف ولماذا تعلمنا أن ندين الآخرين حين يقوموا بالأفعال نفسها التي نمارسها، كل هذه الأسئلة وغيرها دارت في رأسي بينما أتابع عرض «أوبرا العتبة» الذي أشعرني بالصدمة، لكن هذا ما أعتدته في عروض المخرج هاني عفيفي، فهو يشير إلينا ويجعلنا ننتبه إلى أشياء قد تبدو عادية، في الحقيقة هي لم تكن عادية بالنسبة لي، وطوال الوقت وأنا مستفزة من هذه السلوكيات التي تصادفنا يوميًا، لكن الصدمة هي وضع هذا الكم من الممارسات السلبية والسيئة أمامنا على خشبة المسرح لنراها جيدًا ونرى أنفسنا أيضًا كمثقفين منعزلين تمامًا في برجنا العاجي نقرأ لدرويش وسوفوكليس وغيرهما، في لامبالاة وكأننا لا نرى ما يحدث حولنا وليس لنا تأثير أو دور يذكر، على الرغم من أن الحقيقة أننا عكس ذلك، لكن الموقف أصبح أكبر من كل المثقفين ومن الصعب تغييره، بل أن هذه العشوائية والبلطجة اقتحمتنا عنوة ودخلت حياتنا وسيطرت عليها تمامًا، كما حدث في العرض المسرحي «أوبرا العتبة».
العرض تجربة مختلفة جدًا للمخرج هاني عفيفي، فهو لا ينتمي إلى المسرح التقليدي، فليس به حدث ولا مقدمة ولا عقدة ولا نهاية، لكن به صراع مستمر ولم ينته حتى بعد انتهاء العرض.
 في البداية حاول إزالة السور الحاجز بين المسرح وما يدور بداخله وبين سوق العتبة، فخرج بالمسرح إلى الشارع لكنه خرج بغناء أوبرالي، ليس هذا فحسب بل جعل وجه مطربا الأوبرا  للمسرح وليس للشارع، فاتسعت الفجوة بدلاً من التئامها، وانصرف الناس ولم يهتموا، ثم انتقل بالعرض داخل المسرح وأدخل معه الباعة، وهوما نجح في تجسيده من خلال مجموعة الممثلين الذين قاموا بأدوار الباعة داخل قاعة العرض، فإذا بهم لم يلتفتوا إلى العرض وانصرفوا إلى عرض بضائعهم على الجمهور.  
وعلى خشبة المسرح نرى منطقة عشوائية يقطن بها أحد المثقفين المنهمك طوال الوقت في قراءاته وعزف كلاسيكيات لا يعبأ بما يحدث حوله، وفي المنزل المقابل له نرى سيدة تشتري كل شئ بكميات كبيرة جدًا حتى الأدوية، وغير معلوم الهدف الحقيقي وراء هذا السلوك فهو يحتمل عدة دلالات ربما هو سلوك شخصي لشخص استهلاكي يشتري ما يلزمه ومالا يلزمه، فهل تقوم بالشراء لبيعها بأسعار أعلى، أم أنها تعلم أن الأسعار سترتفع فتبادر بالشراء قبل ارتفاع الأسعار، أم تنتقم من زوجها الذي هجرها وسافر للعمل في دولة أخرى، في إشارة واضحة لحجم الفجوة بين أناس يعيشون في مكان واحد، في المساحة بين المنزلين وأمامهما نجد ممارسة السادية على فتاة فقيرة تبيع الأحذية نيابةً عن والدها المريض، ونجد الضوضاء المتمثلة في أصوات الباعة وأغاني المهرجانات والأفراح الشعبية وإذاعة أخبار العالم عبر المذياع، في تحد واضح لأغاني الأوبرا التي لازالت معروضة بعد دخولها من الشارع، كما تتداخل وتعلوا فوق صوت أم كلثوم المنبعث من منزل المثقف، مع صوت البرنامج الصباحي وسطحيته وتفاهته حيث يناقش من يحب السبانخ أكثر السيدات أم الرجال، كما يعرض الظواهر الجديدة على المجتمع مثل جروبات الماميز.
ويستعرض كم كبير من المشكلات التي نعاني منها مثل: مشكلات التعليم المتمثلة في الدروس الخصوصية وطرق التدريس العشوائية، انقطاع النت والتعامل مع شركات الاتصالات، السرقات والضرب، كما يستعرض تفاصيل مما عبر السوشيال ميديا من حوارات مثل أيهما أفضل شراء شهادات استثمار أم ذهب، جرائم التيك توك، الموضات والتنافس في العري خاصة في المهرجانات، وارتفاع الأسعار....
كما نرى أيضًا المترو بزحامه والممارسات اللاأخلاقية التي تمارس فيه من دون تدخل من أي شخص، وكأنها سلوكيات عادية، وكذلك الميكروباص الذي يضم فئات مختلفة من المواطنين فبه المدرس والطبيبة والتاجر وكلهم بلا استثناء يمارسون سلوك السائق نفسه الذي قام برفع قيمة الأجرة فورًا حين سمع خبر ارتفاع سعر الوقود، وبعد نهرهم له واتهامه بالاستغلال فقد قاموا جميعًا برفع أسعارهم من خلال الاتصال بأماكن عملهم، وبذلك لا يمكن أن يكون المثقف وحده معادل موضوعي لهذا الكم من العشوائية والسلوكيات السيئة، فيقتحموا عليه خلوته ببضائعهم التي حجبت رؤية الكتب وأخرست صوته، فربما أنه قتل إثر هذا الهجوم والعشوائية التي اجتاحت كل شئ.
لم يكتف هاني عفيفي بهذا الاستعراض الصادم، بل أنه أراد بروز هذه الصدمة حين وضع أمثلة من التناقضات أمامنا منها: الشاعر مقابل أغاني المهرجانات والإسفاف، المثقف مقابل رجل سلفي وسيدات منتقبات، الأفراح الشعبية وتشويه أغاني أم كلثوم، مكتبة المثقف بجمالها وترتيبها مقابل منزل السيدة الاستهلاكية المزدحم بالكراتين والأجولة. الإضاءة الخافتة مقابل إضاءة المهرجانات والأفراح.
وعلى الرغم من أن العرض لا ينتمي إلى المسرح التقليدي فلم يكن به مقدمة وعقدة ونهاية، ولا بطل ولا قصة إلا أن به عناصر العرض المسرحي الناجح ففيه فكرة تحمل مضامين كثيرة، وأداء تمثيلي لمجموعة من الموهوبين الذي جسدوا عدة أدوار باحترافية هم: محمد عبد الفتاح كالا «المثقف»، دعاء حمزة «السيدة الاستهلاكية»، إياد رامي «مغني المهرجانات»، إيما عاطف «بائعة الأحذية»، بكر محمد «نوباتجي الأفراح»، هاجر عوض «انفلوانسر»، أحمد سعد «مذيع الراديو والمدرس الخصوصي»، ياسمين محمد «مذيعة الراديو»، نوران شرف الدين ومحمود إيهاب «مطربا الأوبرا»، كما أن الديكور الذي صممه عمر غايات جاء متسقًا مع هذه العشوائية فهو عبارة عن أبنية غير متسقة من الخشب ومجموعة كبيرة من الكراتين وحبال ملعق عليها الملابس التي تعبر عن سوق العتبة، إضاءة خافتة تعبر عن ضبابية الموقف والخوف من المستقبل المجهول في ظل هذا الواقع الفوضوي، وإضاءة أخرى تحتوي كل الألوان الصارخة والصاخبة للمهرجانات، ينطبق ذلك أيضًا على الموسيقى التي أعدها حازم الكفراوي التي عبرت بدقة عن الحالة بكل تناقضاتها.
كما أن الملابس التي صممتها مي كمال لعبت دورًا كبيرًا في التعبير عن اللحظة الراهنة فيما وصلنا إليه من تدني الذوق المتمثل في البهرجة والألوان الصاخبة لمطربي ومطربات المهرجانات والأفراح، وكذلك ملابس البسطاء من البياعين، وملابس المثقف والتي عبرت أيضًا عن المواطن البسيط، وملابس مطربا الأوبرا الكلاسيكية وغيرها....


نور الهدى عبد المنعم