العدد 903 صدر بتاريخ 16ديسمبر2024
فقدان الأمل، عدم القدرة على التواصل، النظرة التشاؤمية للحياة، غياب المعنى، أسباب كثيرة تجعل الإنسان يتمنى ترك هذه الحياة. فكل شخص لديه حكايته التي تجعله يصل لمرحلة اليأس. فمن منا -في بعض اللحظات- وسط هذا العالم البائس وضغوطات الحياة وما نقاسيه لم يتمنى الموت ليرحمه من هذه المأساة؟.
تلك المشاعر الملتبسة سوف تشعر بها حين تشاهد عرض “فرصة” الذي قدمته كلية الآثار جامعة القاهرة على مسرح المدينة الجامعية بجامعة القاهرة ضمن فعاليات مهرجان المسرح الجامعي، مأخوذ عن مسرحية “الوردة والتاج” للكاتب الإنجليزي (جي بي بريستلي) دراماتورج (سيف الدين محمد)، إخراج (عمر عصام).
كتب بريستلي (1895-1985) مسرحيته ذات الفصل الواحد سنة 1946 عقب إنتهاء الحرب العالمية الثانية وما تركته من دمار وأسى انعكس على مواطني أوروبا، وعلى الرغم من ذلك لم يعرض بريستلي الحرب من قريب أو بعيد، بل عرض الانعكاسات المأسوية التي جعلت الكثير يشعرون بعدم وجود أمل ولا معنى للحياة، كارهين العيش وسط قاتمة هذا العالم.
وعلى الرغم من ذلك سعى بريستلي الي إعادة إحياء الأمل والتفاؤل في نفوس مواطنيه وتخطي الألم وإعادة النظر في رؤيتنا للحياة. من خلال تجمع ست شخصيات داخل حانة في لندن تسمى «الوردة والتاج»، تلك الشخصيات يائسة محطمة نفسيا تنظر للحياة بنظرة قاتمة فلكل منهم سبب يجعله رافض الحياة يتمنى الموت. تنقلب الأمور عندما يصطدمون بالموت ليكتشف الجميع أنهم يحبون الحياة ويتمسكون بها.
تلك هي التيمة العامة لنص بريستلي التي خطى عليها الدراماتورج (سيف الدين محمد)، ولأن القضية إنسانية لا تخص شعبا أو زمن محدد تتماشى مع كل زمان ومكان، قام سيف بتغيير أسماء الشخصيات التي تنتمي للغرب (إنجلترا) إلى أسماء شرقية عربية (صالح، سيف، كرمة، زهرة، عليا، سيد)، مما يسهل على المتلقي الإندماج معها، بالإضافة إلى استخدام اللغة العامية بديلا للفصحى لتسهيل التواصل مع الجمهور، كذلك تحويل الحانة إلى مقهى (كافيه) لتتناسب مع جو وثقافة الشرق ولجعل الأحداث والمشاعر أكثر قربا من المتلقي ولا يشعر معها بالغرابة.
فكان ديكور (باسم وديع) بسيطا معبرا عن المقهى. على اليسار باب الدخول والخروج، منتصف عمق المسرح البار يحمل ادوات المقهى أكواب وزجاجات مياه وغيرهم، أعلاها لافتة (اليوم العالمي للكيف) اليوم الذي تتجمع على شرفه الشخصيات داخل المقهى ماعدا الزوجين ( سيف وكرمة) بسبب تعطل سيارتهم خارج المقهى. يمين البار منطقة تفريغ الطاقة التي يستخدمها الزوج من أجل تفريغ غضبه، على جانبي البار اكوابا لزيادة الاحساس بجو المقهى، على اليمين جدار وبجواره بانوها على شكل نصف دائرة فوق بعضهم ليملئ فراغ المسرح، وعلى يسار أقصى مقدمة المسرح منطقة التدخين، بالإضافة إلي المقاعد التي سيجلس عليها الوافدين.
يطرح العرض من خلال المقهى النظرة التشاؤمية والإحباط واليأس من الحياة لدى رواد المقهى منتظرين فرصة الموت رحمة من تلك المعاناة التي يعيشونها. فالسباك العجوز (صالح) يعاني من الوحدة، بعيد عن أهله وذويه، يحتسي القهوة، المرتبطة في ثقافتنا بالموت والعزاء والحزن، يقضي وقته في قراءة الجرائد التي تحمل الاخبار التشاؤمية كإصطدام قطارين ببعضهم، وكأن لا شيء يبعث البهجة في هذه الحياة.
زهرة المغنية التي فقدت بريقها وباتت منسية، فشلت في جميع انواع الارتباط والحب، تعاني من نظرة الناس لها على أنها فتاة ليل لكنها ترى -من وجهة نظرها- أنها مغنية محترمة وليست فتاة ليل كما يظنون، مما يجعلها تشعر أن الحياة لا تستحق التعب من أجل ان نعيشها.
الزوج سيف الذي يرى أن الحياة منفرة مليئة بالمتاعب، لديه أعباء كثيرة في العمل، ويحمل مسؤوليات عديدة، دائماً غاضب. الزوجة كرمة متزوجة في بيت عائلة، شخصيتها ضعيفة، لا تشعر بكيانها مع زوجها فتسير معه مثل الظل، دائما تحس أنها مهمشة من قبل الزوج فتتمنى الموت في بعض الأحيان، لكنها محبة للحياة وان رغم صعوبتها هناك امل دائما لنعيشها
أما العجوز عليا كانت متزوجة من ضابط في البحرية عندما كانت شابة، لديها منه ثلاثة أبناء توأم أثناء سفرهم مع الأب لقوا حتفهم في حادث كبير وماتوا هما الأربعة، ومن يومها وأصبحت وحيدة، الجميع ينفرها، فتتمنى أنها لو كانت مدفونة معهم تحت التراب بدلا من شقائها في هذه الحياة. أما سيد ذاك الشاب المفعم بالحيوية يحب الحياة والأكثر حرصا عليها، ينشر البهجة والمحبة داخل المقهى ويساعد جميع الشخصيات. ليكون سيد -هاري لدى بريستلي- الشخصية التي تحمل رسالة العمل وشعاع النور الذي ينبعث منه الأمل والتفاؤل وسط قاتمة ويأس هذا العالم. وهو ما قصده بريستلي.
ويوضح سبب حبه للحياة والفائدة من انك تعيش مائة عام تتعامل مع الأجيال المختلفة وتترك في حياتهم بصمة يظلوا بقية حياتهم يتذكرونك على أثرها، تلك هي الحياة التي يعيش سيد من أجلها. ومن خلال مجموعة من المشاحنات والسخرية الكئيبة على أحوالهم، تبقى شخصيات المقهى أغلبها محطمة وغير راغبة في الحياة إلى أن يظهر الغريب....
بملابسه السوداء ومكياج وجهه ونبرته المتسلطة يتضح أنه مندوب الموت، أتى في مهمة محددة؛ أخذ روح واحد منهم، ويترك لهم حرية الإختيار فمن سيضحي ليحيا الجميع؟!، ويمهلهم دقائق معدودة. من هنا يبدأ الصراع الحقيقي لحظة التحول فيرفض كل منهم الموت ويبدأ في ذكر الأسباب التي تدعوه إلى التمسك بالحياة رغم إعلانه المستمر عن الرغبة في الموت.
ليتجلى التناقض البشري ومكاشفة النفس البشرية بين الرغبة الزائفة والحقيقة الباطنة؛ رغبته المستمرة في الموت وحين يصطدم به تظهر الحقيقة وأن رغم قاتمة الحياة يحبونها ويريدون أن يعيشوها، فيدفع كلا منهما الآخر بأن يضحي بنفسه مقابل أن يعيش الباقي فيسرد كلا منهم أسبابا تجعله متمسك بالحياة ويرفض الموت، فيضطر مندوب الموت بإعادة الزمن للوراء (فلاش باك) ظاهرا حديث كل شخصية عن الرغبة في الموت ليبرز ذلك التناقض، ووضعهم أمام رغبتهم الزائفة.
لتحاول الزوجة كرمة أن تضحي لتشعر أن لها قيمة وسط ضعفها في الحياة لكن بسبب خوفها من ترك زوجها وحيدا تتراجع، ليقرر سيد في النهاية أن يكون هو الشخص الذي يضحي بنفسه ليترك فرصة الحياة لغيره ليعيشها، على الرغم أنه أكثرهم حبا للحياة، لكنه لا يخشى الموت حتى عندما شعر أن الموت قد جاء من أجله، فسيد يعلم أن رغم موته سيكون حاضرا في نفوس الأشخاص تاركا آثارا جميلة في حياتهم، ينير لهم تلك الحياة التي فقدوا آمالهم فيها، تاركا «فرصة» الحياة، وان ينظروا لها نظرة أخرى... فيرحل وهو يردد جملة مندوب الموت الأخيرة.. “لو كانت الحياة وردة.. فالموت هو التاج» التي تأخذنا إلى فلسفة العلاقة بين الحياة والموت...
الوردة رمز للحياة، فتمثل السعادة والجمال المؤقت في الحياة؛ حيث الوردة لها عمر ويأتى وقت عليها وتزبل وتموت مثل الحياة التي يعيشها الإنسان تماما. والتاج رمز للموت ومن المتعارف عليه أن التاج خاص بالملوك والسمو، أو التتويج بشيء مشرف. فالموت هنا يُرى كتتويج للحياة، فهو الخاتمة التي تضفي معنى، فكما التاج يزين الرأس.. فالموت يزين الحياة ويمنحها المعنى والقيمة. وهو ما أراده سيد وكرمة، ويتجلى ذلك في حديث كرمة بعد ما قرر سيد بالتضحية لينول ذلك الشرف. فتقول: « هفضل طول عمري مكسوفة من نفسي إن ضيعت فرصة أحس أن ليا قيمة».
لعب (يوسف رياض) شخصية فريد صاحب المقهى، تلك الشخصية الغامضة التي لا تتحدث طوال العرض، فهي شخصية رمزية تعتبر وسيطا بين الحياة والموت حيث يمكن اعتبار المقهى رمز للحياة يستخدمه فريد بمساعدة مندوب الموت على مواجهة الإنسان نفسه بالحقيقة داخل المقهى، وبرع رياض في أداء تلك الشخصية وجعلنا نشعر بغموضها دون أن ينطق بكلمة واحدة، بجانب أداءه الحركي المميز.
ولفتت (جرمين علي) الأنظار بتجسيدها شخصية عليا العجوز على الرغم من الفارق العمري بينهم، فوازنت بين تفاصيل الشخصية من أداءها الصوتي وحركة الجسد، كما عبرت عن معاناة الشخصية بشكل جيد، بالإضافة إلى خفة ظلها. كذلك (داليا علاء) في دور سيد، لم نشعر أنها فتاة التي تقوم بذلك الدور بسبب اتقان داليا للشخصية. أما (ميرا هاني) في دور المغنية زهرة، ممثلة جيدة ولكن عليها التركيز أن تعطي الكلمة حقها فكانت تتحدث بسرعة في أغلب المشاهد فلم أفهم كلامها. (تقى اشرف) نجحت في التعبير عن الزوجة لكن كانت تحتاج أن ترفع من صوتها فعلى الرغم من جلوسي في الصف الثاني من الصالة لم اسمعه في بعض اللحظات. أما الزوج سيف (محمد نادي) ممثل جيد لكنه كان يحتاج إلى التدريب على الدور بشكل أكبر حيث كان يتلعثم في بعض المواضع مما جعله ينفصل عن الشخصية. أما (محمد إيهاب ) في الدور العجوز صالح، ممثل يمتلك الموهبة لكن الدور ظلمه بسبب الفارق العمري بين الشخصيتين فلم اشعر بمعاناة الشخصية او تصديقها لذلك السبب.
الإضاءة جاءت عشوائية وغير منظمة وإنارة أغلبية الوقت، لم تعبر عن دراما العرض إلا في بعض المواضيع القليلة مثل استخدام اللون الاحمر للدلالة على التوتر والخطر أثناء دخول مندوب الموت، وزرقاء لإبراز حالة جمود الشخصيات أثناء محاولة هروبهم من المقهى، وتداخل اللونين معا لإبراز حالة الصراعات بين الشخصيات، حتى كان هناك مصابيح (لمبات) في المقهى كانت إنارة طوال الوقت لم يتم إستخدامها إلا مرة واحدة وكانت عابرة لحظة دخول الغريب كانت تضيئ وتنطفئ لإبراز حالة التوتر والريبة، فكان يمكن استغلال ذلك كأنها ضربات قلوبهم في حالات التخبط بيت الحياة والموت، فالإضاءة كانت تحتاج للتوظيف بشكل أفضل من ذلك، أما موسيقى (مصطفى عبدة) عبرت عن حالات العرض المختلفة فجاءت مبهجة مع فريد وهو ينظم المقهى وكذلك مع دخول كل شخصية، وبعثت التوتر والغموض احيانا اخرى، ولعبت مع الدراما الحركية التي صممها (محمد بحيري) في التعبير عن صراع الشخصيات وما تحمله النفس بداخلها، ونجح بحيري في رسم حركات عبرت عن دراما العرض، بإستخدام الكراسي التي ترمز للحياة، كما استخدمت في تكوينات أخرى كالسجن بإحاطة جميع الشخصيات ببعضهم، وأحيانا أخرى تأخذ شكل القبر.
وضع المخرج (عمر عصام) الجمهور أمام نفسه بكسر الجدار الرابع ونزول الغريب (مندوب الموت ) للصالة وجلوسه على كرسي موجه للمتلقي، فشخصيات العرض تعكس ما يحس به المتلقي اتجاه الحياة وشكوته منها بشكل مستمر، فلكل منا حكايته الخاصة التي تجعله يتمنى الموت، وجعله مشاركا في الاختيار مثل الشخصيات ويحمله بالتساؤل : ماذا اذا جاءك الاختيار هل ستضحي ام ستحتاج فرصة للعيش والنظر للحياة بنظرة أخرى؟...فوراء كل رغبة للموت ألف فرصة للحياة.