العدد 903 صدر بتاريخ 16ديسمبر2024
(2) الفلسفة كتعريف وأنطولوجيا وجوهر :
بقدر ما يتقاطع تعريف المسرح مع النقاش الحالي حول تعريف الفن , فانه مثار جدال في الفلسفة الاحترافية المعاصرة في المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية – بما في ذلك سؤال تفضيل تعريف واحد للمسرح على آخر , وبالطبع سؤال قيمة وهدف هذه التعريفات ( والى أي مدى تدعم تقديم مسرحا أفضل , وتثري خبرات المشاهدين , وتسمح لنا أن نجادل من أجل قيمة المسرح بالنسبة لنقاده وما الى ذلك ) . ومع ذلك , لا يزال التعريف مفهوما غالبا باعتباره سمة مميزة للفلسفة نفسها , ولاسيما التعريف الأنطولوجي , بما في ذلك ما يتعلق بسؤال ما الذي يمكن أن يحدد فلسفة المسرح . ففي كتاب “فلسفة التمثيل المسرحيStaging Philosophy “، على سبيل المثال، يقترح كريزنر وسولتز أن الأسئلة “ما هو المسرح؟” و”ما هي الفلسفة؟” وهي أسئلة فلسفية في جوهرها . ويبدو أن هناك حاجة لدى كثيرين إلى تحديد ما قد يكون حصريًا لنهج “فلسفي” للمسرح (ربما يكون ذلك بمثابة أعراض للحاجة الأوسع إلى تحديد هوية أساسية للفلسفة في حد ذاتها) من أجل تمييزه عن المناهج الأخرى لدراسة المسرح أو حتى عن أنواع التفكير التي تجري في المسرح نفسه وكممارسة له. تتناول الغالبية العظمى، إن لم يكن كلها، من الأعمال الحديثة في الفلسفة التحليلية للمسرح مسألة التعريف في بعض النواحي ــ مع عناوين الفصول إما في شكل أسئلة، مثل “ما هو المسرح؟” (كما يبدأ كتاب ستيرن)، “ما هو الأداء؟” و”ما الذي يجعل هاملت هاملت؟”؛ أو في شكل عبارات مثل “ما هو المسرح”، أو “ما يفعله الممثلون” أو “ما يفعله المؤدون وما يمكن أن يعرفه الجمهور”. بطبيعة الحال، سيكون من السهل للغاية أن نستنتج من مثل هذه العناوين وحدها طموحًا مشتركًا لإنتاج نظرية متعالية شاملة تستنفد طبيعة المسرح. وتحت هذا التشابه الدلالي (وبغض النظر عن النفور الفوري الذي قد يثيره شكل البيان في ممارسي المسرح)، فإن النهج المتبع في الرد على هذه الأسئلة (مفهوم مهمة التعريف، ولماذا قد نحتاج أو لا نحتاج إلى تعريفات للمسرح، و”المكانة” المخصصة للإجابات) يختلف كثيرًا. في الواقع، تقدم الفلسفات التحليلية للمسرح أيضًا طرقًا متعددة لفهم مفهوم التعريف نفسه - تعريفات لتعريف المسرح، إذا شئت، تسعى إلى توضيح ما نسأله عندما نسأل، “ما هو المسرح؟” وتشمل هذه التعريفات : فكرة التعريف باعتباره بيانًا لجوهر المسرح؛ باعتباره إشارة إلى “شروطه الضرورية والكافية”؛ والتمييز بين التعريفات “الضعيفة” مقابل التعريفات “القوية”، أو “الوصفية” مقابل “المعيارية” للمسرح، على سبيل المثال لا الحصر. من جانبه، قد يبدو أحيانًا أن لارويل يرفض التعريف تمامًا بقدر ما يفسر التعريفات على أنها تفرض قيودًا غير ضرورية على التوسع الشامل لكل من الفلسفة والفكر: “بمجرد أن أعطي تعريفًا فإنه يكون فاشلاً. ويتعين علينا رفض إغراء التعريف أو مظهره” . ومع ذلك، وكما سنرى لاحقًا، فإن هذا في المقام الأول نقد لنوع معين من التعريف الجامد والأحادي الجانب، وليس مفهوما لمشروع تعريفي في حد ذاته.
إذا بدأنا بالتعريف في علاقته بالأنطولوجيا ، فربما نلاحظ أن الفلسفات التحليلية المعاصرة للمسرح تميل إلى الدوران حول مجموعة من الأسئلة المشتركة، والتي تتضمن أسئلة أنطولوجية: ما نوع المسرح؟ ما نوع المسرحية أو، على سبيل المثال، ما الذي يجعل هاملت هاملت؟ (وغالبًا ما يُطلَب من هاملت أن يلعب دور “المثال” في هذه المناقشات). ويولي سولتز وكارول وديفيز وودروف بوجه خاص، قدرًا كبيرًا من الاهتمام لهذه المسألة، التي تنطلق من الميل إلى تقييد فلسفة المسرح بتعريف مقيد للمسرح باعتباره دراما (ولكن ربما تعكس أيضًا محاولة لتطبيق نموذج العمل والأداء المستمد من الموسيقى الكلاسيكية)، وترتبط بشكل مباشر بالمناقشات الموسعة حول علاقة النص / الأداء التي تهيمن على الفلسفة التحليلية للمسرح في حد ذاتها (على حساب اعتبارات أخرى مثل العلاقة بين المسرح والسياسة والأخلاق والتاريخ والحيوانية والفضاء والزمان وما إلى ذلك، فضلاً عن الاعتبارات الأساسية للعملية مثل التمثيل والإخراج والتصميم). ولاسيما أن كثير من الأدبيات التي ندرسها تتناول هذا التمييز المفاهيمي بين “الأنواع” و”رموزها” كوسيلة لمناقشة العلاقة بين “نوع عام من الأشياء وحالاته الملموسة الخاصة” . وبدورهم ، تبنى فلاسفة المسرح التحليليون هذا التمييز الأنطولوجي وطبقوه على الاختلافات في سؤال “ما الذي يجعل هاملت هاملت” وكذلك استخدامه كنموذج لفهم العلاقة بين النص والأداء.
ولتلخيص ما سبق، وبعبارات مبسطة إلى حد ما في البداية: فإن مسألة وجود المسرح تعيدنا إلى مناقشات قديمة حول الوضع النسبي لنصوص المسرحيات والعروض المسرحية في تحديد طبيعة هوية “الشيء” الذي نسميه هاملت (حيث يبدو في بعض الأحيان أن هاملت يُنظَر إليه على أنه قابل للتبادل مع اسم أي مسرحية). وإذا علمنا أن المسرحيات تُقرأ وتُؤدى (بل وتُقرأ بصوت عالٍ في سياقات أخرى غير الأداء “الكامل” وتُؤدى بمجموعة متنوعة من المعاني)، فهل لا يزال من المنطقي أن نفكر في “شيء” ما - هاملت - موجود أو يتكرر بطريقة ما في كل هذه المواقف؛ وإذا كان الأمر كذلك، فما هي طبيعة هذا الشيء الذي نشير إليه؟ كما يقول سولتز: “إذا شاهدت مسرحية مرتين، وقرأتها ثلاث مرات، فهل يوجد “شيء” واحد صادفته خمس مرات؟”. أو حتى، بسبب التباين الهائل بين طبيعة العروض التي تصف نفسها بأنها هاملت، يتساءل الفلاسفة التحليليون كيف يمكننا تحديدها جميعًا باعتبارها عروض لعمل “نفس”. هل هناك جوهر لهاملت، يجب أن تشترك فيه جميع عروضه حتى تكون مؤهلة لذلك، وإذا كان الأمر كذلك، فما هي طبيعة هذا الجوهر؟ أو كما يقول ديفيز، “متى يكون العرض المسرحي أداءً لمسرحية معينة؟”. لقد وجد الفلاسفة “هوية المسرحية” محيرة بشكل خاص - نظرًا للطبيعة المختلفة جدًا للطرق التي تبدو بها الأعمال المسرحية موجودة على الصفحة وفي المسرح. على سبيل المثال، يقترح سولتز أن أولئك الذين يرون أن ذلك في حالة الأداء فقط ، وليس مجرد فعل القراءة، اذ يمكننا الوصول حقًا إلى هوية الشيء الذي نسميه هاملت، يواجهون المعضلة التي يبدو أن مثل هذه الرؤية تشير إليها: ألا وهي أنه “عندما لا يقوم أحد بأداء هاملت، تتوقف المسرحية عن الوجود” . ص20
على سبيل المثال، في استكشافه للسؤال “ما الذي يجعل هاملت هاملت؟”، يشجعنا وودروف على البدء في مشروعنا لتحديد جوهر المسرحية بحالات مركزية وليس حالات حدودية، وهو ما يعني به العروض التي تمثل هاملت بوضوح، وليس تلك التي لا نتأكد منها بشكل كافٍ. وهو يعترف بأنه ستكون هناك دائمًا “حالات صعبة” - أمثلة ملموسة يصعب تصنيفها وفقًا لأي مخطط ابتكرناه. لكنه يحذر من “النسبية” المتمثلة في التخلي تمامًا عن مشروع إسناد هويات للأحداث:
إن أي مخطط تصنيف سوف يترك بعض الحالات لتتردد، ومن المؤكد أن هناك بعض الأحداث المشابهة لمسرحية هاملت والتي لا تمثل هاملت تمامًا ولا تشبه أي شيء آخر أيضًا. ولا ينبغي لنا أن ننزعج من هذه الحالات الصعبة، بل يجب أن نكون حذرين بشكل خاص حتى لا نسمح للحالات الصعبة بأن تجعلنا نعتقد أن الأمر برمته تعسفي. إنه ليس كذلك. طالما أن هناك حالات واضحة لهاملت في الأداء، فيمكننا أن نسأل عن السمات التي تميز هذه العروض والتي تجعلها حالات واضحة، ومن ثم يمكننا مناقشة مدى ظهور هذه السمات بشكل معقول في الحالات المشكوك فيها. [...] يجب ألا نسمح لأي شيء أن يُطلق عليه اسم هاملت.
ولكن ما الذي يسمح بالاعتراف بـ «حالة واضحة» لهاملت في الأداء؟ ولماذا تبرر «الحالات الواضحة» على ما يبدو مشروعًا يتعلق بالهوية ومع ذلك لا تشير الحالات الحدودية المفترضة إلى تحدي أو مقاومة لوضع الفيلسوف الذاتي كبوابة ضد النسبية؟ بطبيعة الحال، إنه استخدام هاملت كمثال مناسب بشكل خاص. أي أنه بينما يشير وودروف إلى «شيء» يسمى هاملت من إبداع شكسبير، فإن المتخصصين في شكسبير قد كشفوا – منذ عقود من الزمان - عن صعوبة تعريف هاملت بأي نص موثوق نظرًا للاختلافات بين نسختي الكوارتو والفوليو من المسرحية. وهذا فقط للتطرق إلى «القلق الوجودي» الناتج عن اعتبارات هاملت كنص، ناهيك عن تلك التي يثيرها الأداء. بطبيعة الحال، وودروف يدرك هذا، لا يربط مشروع التعريف بالإخلاص للنص . وعلى نحو مماثل، يعترف وودروف بأن “مسرحية هاملت نادراً ما تُؤدَّى دون بعض الاختصار”؛ ولكن من المؤكد أن هذا يجعل من الصعب مناقشة الدرجة أو الجودة الدقيقة للاختصار التي تحافظ على هوية العمل، وأي منها يقلب الحدث إلى شيء آخر. ومع ذلك، لا يزال وودروف متمسكًا بفكرة وجود أشياء مثل “العروض غير المتنازع عليها” لهاملت، والتي يمكن أن تضمن المعايير لتحديد هاملت على هذا النحو: وهي: “1) أن شخصيته الرئيسية هي هاملت و2) أنها تدور حول حل بعض الصراعات التي تولدت عن حاجة هاملت الشعورية للانتقام لمقتل والده”. ولكن، في المقابل، لا يستطيع وودروف أن يشير إلا إلى الصفات الحاسمة لهذه الحالات غير المتنازع عليها على أساس تعريفه الحالي للمسرح باعتباره “الفن الذي يصنع به البشر أو يجدون فيه عملاً بشريًا يستحق المشاهدة”؛ ويزعم أن الصفتين المذكورتين أعلاه هما ما يجعلان هاملت “يستحق المشاهدة” بالمعنى الأخلاقي لهذه العبارة.
تاريخيًا، ارتبط فن التعريف الفلسفي وشكل سؤال “الماهية؟” من الأسئلة (من قبل البعض، وليس من دون جدال) بالأنطولوجيا، ولاسيما بالسعي وراء الجوهر وفقًا لنموذج أفلاطون. وهنا، يُفترض أن يكون لـ «س” جوهر جوهر عام ومثالي ومتطابق ذاتيًا وأبديًا يكمن وراء مظهره المتغير والمادي والطارئ. وفي حالة وجودية المسرح، فإن الدور الذي ترشحه الفلسفة بذاتها هو توضيح نوع “الشيء” الذي يمثله المسرح. بهذا المعنى، يمكن لنا أن نرى ايماءة الوجودية ذاتها كمسألة فلسفة تجلب اهتماماتها الخاصة للتأثير على المسرح - بغض النظر عن طبيعة المسرح. وهذا يعني أن اهتمام الفلاسفة بما يجعل العروض المسرحية مختلفة عن العروض الموسيقية أو عن الرقص، له معنى في سياق تقليد الاستقصاء الوجودي الذي طبقته الفلسفة على جميع أنواع الأشياء الأخرى، ولكن من الممكن القول إنه لا معنى له من وجهة نظر الممارسة الإبداعية البينية .
الواقع أن الكثير من الأعمال الحديثة في الفلسفة التحليلية للمسرح تبدو وكأنها لا تزال تتبنى وجهة النظر القائلة بأن المسرح ــ أو “عينة” معينة داخل “الأنواع” مثل هاملت لشكسبير (لنقل ما يشكل غالبًا المثال النموذجي للفلاسفة) ــ لابد أن يكون له جوهر ومجموعة من الخصائص الحصرية التي يعود الأمر إلى الفلسفة لتوضيحها (انطلاقًا من الفرضية القائلة بأن هناك شيئًا محددًا يقوم به الممثلون أو المؤدون حصريًا، على سبيل المثال). وهذا يعني أنه في حين يعترف البعض ــ مثل هاملتون وستيرن ــ بالتعقيد التاريخي والتعددية في المسرح، وبالتالي مقاومته للتعريف، فمن الممكن القول إن هناك قدراً أقل من الاهتمام بما يعنيه هذا بالنسبة لكيفية تعريف الفلسفة لنفسها (على سبيل المثال ــ المدى الذي يعني فيه أن الفلسفة قد تكون غير محددة أيضاً؛ أو أن نوع التفكير التعريفي الذي اعتمدته الفلسفة تاريخياً وحصرياً لنفسها قد يكون أيضاً جزءاً مما تسعى إلى تعريفه باعتباره مسرحاً).
ولكن هذا السعي إلى التعريف الوجودي أدى في كثير من الأحيان إلى دفع الفلسفة إلى تولي موقف السلطة المتعالية فيما يتصل بالمسرح. على سبيل المثال، يقترح ألدو تاسي أن “الفلسفة، منذ البداية، كانت مدفوعة بالمنطق باعتباره فن التعريف. إنها نشاط يسعى إلى نقلنا إلى المكان الذي يتم فيه تحديد الحدود حتى نتمكن من “رؤية” كيف تأتي الأشياء إلى الوجود”. وكما سنرى، فإن الأسس التي قد تفترض الفلسفة على أساسها أنها تضع نفسها في مثل هذا الموقف المتميز فيما يتعلق بظهور الهويات هي على وجه التحديد سؤال لارويل. والواقع أن هناك وعي داخل الفلسفة التحليلية للمسرح أيضًا بالاعتراضات المحتملة على فكرة الفلسفة كمشروع تعريفي، ولاسيما بقدر ما اعتقد الفلاسفة تقليديًا أن “الهدف من التعريف هو تحديد الجوهر” . وكما يقترح وودروف :
يتوقع الفلاسفة أن يحددوا موضوعهم في بداية المناقشة [...] ولكن في عالم الفن، يحمل التعريف رائحة الإقصاء، ورسم الخطوط الفاصلة بين الأشياء الجيدة، التي يقدرها الناس المثقفون مثلي، والأشياء السيئة، التي تسلي البرابرة مثلك. لماذا لا نتخلى عن المتعة المزعجة للإقصاء ونستمتع بكل بساطة بكل ما يأتي أمامنا، دون أن نسأل ما هو، ودون أن نسأل ما إذا كان مسرحًا حقًا؟
ان فهم فلسفة المسرح من منظور “الشروط الضرورية والكافية” يعني أن المهمة التعريفية للفلسفة المسرحية تتلخص في “توضيح القضايا ذات الصلة بفهمنا” لما هو المسرح وما ليس كذلك. وكما يلخص ستيفن ديفيز، فإن هذا النهج يفترض أنه “إذا حددنا الشرط الضروري (أو مجموعة الشروط) الكافي ليكون شيء ما هو (س)، فإننا نكون قد أشرنا إلى مجموعة من الشروط بحيث تلبيها جميع )س) فقط، وهي السمة المميزة لتعريف غطاء (ٍس) . إن التعريف هنا يتعلق بالتصنيف، وهو فعل توليد الحجج حول كيفية تحديد الظواهر وأنماط التفكير على أنها تنتمي إلى فئة أو نوع معين (بطريقة تفترض إما حقيقة مثل هذه الفئات الأساسية أو “الفئات” كسمة وجودية للوجود، أو تفترض قيمة تصور العالم بشكل قاطع). الواقع أن دائرية المنطق الذي يدعم فكرة التعريف هذه تبدو واضحة في اللغة نفسها. إن الشرط الضروري لكي يكون شيء ما مسرحًا هو الشرط الذي يجب على جميع المسارح أن تلبيه؛ فالشرط الكافي لكي يكون شيء ما مسرحًا هو الشرط الذي، عند تلبيته، يضمن أن ما يلبيه هو المسرح.
ثالثا – تعريف العمل : النص والأداء والاخلاص
تشكل العلاقة بين النص والأداء اهتمامًا مركزيًا ولاسيما بالنسبة لأنطولوجيا المسرح. ومع ذلك، يمكن تفسير التركيز التاريخي والمستمر على العلاقة بين النص والأداء في فلسفة المسرح أيضًا باعتباره عرضًا للتطبيق - من ناحية، باعتباره تطبيقًا على المسرح لنماذج مفاهيمية راسخة تتعلق بما يعد “عملًا” (فنيًا) مستمدًا من فلسفة الموسيقى؛ ومن ناحية أخرى، من حيث وضع الفيلسوف في موقف متجاوز وحاسم فيما يتعلق بمعرفة موضوعه. وفيما يتعلق بالأول، ربما يكون من المزعج أن نتمكن (كما فعلت هنا) من استبدال كلمة “مسرح” بكلمة “موسيقى” في ملخص بوي لمناقشة الموسيقى في الفلسفة التحليلية: فغالبًا ما تتخذ مناقشة المسرح (كما في الموسيقى) في الفلسفة التحليلية شكل محاولات لتحديد ما يشكل “عملًا” مسرحيًا: هل هو النص الدرامي، أم كل العروض التي تكون “وفية” للنص، أم أي عرض يقترب من الإخلاص أو الأصالة، أم يمكن أن تكون هناك عروض بدون نصوص وما إلى ذلك؟ (والواقع أن نفس خط التساؤل هذا مهيمن بنفس القدر في الفلسفات التحليلية المعاصرة للرقص حيث تؤدي أسئلة “وجود الرقص وهوية عمل الرقص والأداء الأصيل” إلى مناقشات حول “الشروط التي يجب استيفاؤها حتى يكون عرضان راقصان متميزان مثاليان على نفس العمل”. وهذا يعني أن جميع الفلسفات التحليلية الحديثة للمسرح قيد النظر هنا تكرس بعض الوقت لمعالجة هوية المسرح من حيث علاقة النص / الأداء - والواقع أن بعضها، مثل هاملتون وديفيز، معنيون بشكل حصري تقريبًا بهذا السؤال، على الأقل في الكتب المحددة التي نركز عليها هنا. وكما سنرى، فإن فلاسفة المسرح التحليليين يحملون مجموعة من وجهات النظر حول هذه النقطة - من أولئك، مثل وودروف، الذين يزعمون أن هناك “شيء” - العمل المسرحي - يتكرر ولكن لا يمكن اختزاله في عروض وأداء تلك العروض ، في رأي فلاسفة مثل هاملتون الذين يرفضون فكرة أن العروض هي “عروض” لأي شيء خارجي بالنسبة لهم .
وقد طبق نيلسون جودمان التمييز بين النوع type / الرمز token على الفن لأول مرة في كتابه “ لغات الفن Languages of Art “ 1968 , ولا يزال التمييز يستخدم على نطاق واسع في الجماليات الفلسفية التحليلية “لتمييز الأعمال الفنية نفسها (الأنواع) عن تجسيداتها المادية (الرموز)”، ولاسيما فيما يتعلق بما يسمى “الفنون المتعددةmultiple arts “ - مثل التصوير الفوتوغرافي والأفلام وصناعة المطبوعات وبعض الأساليب القائمة على مقاربات النحت - وكذلك الفنون المسرحية، لتمييز العلاقة بين هاملت (في حد ذاتها) والعروض المحددة لها ودراستها. بالنسبة للعديد من فلاسفة الفن التحليليين، فإن الأعمال القابلة للتنفيذ تُفهم على أفضل وجه على أنها “أنواع” , وتُفهم العروض العملية على أنها “رموزها” - وكان ريتشارد فولهايم أول من فعل ذلك مع إشارة محددة إلى العروض المسرحية في كتابه المؤثر عام 1968، “ الفن وأغراضهArt «and Its Objects. في الواقع، يذهب هاملتون إلى حد اقتراح أن “معظم الفلاسفة المنخرطين في علم الجمال التحليلي يقبلون شيئًا مثل نموذج النوع/الرمز باعتباره على المسار الصحيح تقريبًا” . وبالتأكيد، بعد فولهايم، يظل التمييز بين النوع/الرمز أداة مفاهيمية رئيسية ولاسيما عند كل من سولتز وكارول .
....................................................................................
• نشرت هذه المقالة ضمن مطبوعات DE GRUYTER 2018
• لورا كول اوموليركا تعمل حاليا محاضرة ورئيس قسم العلوم التربوية بأكاديمية المسرح والرقص في أمستردام بهولندا .