العدد 905 صدر بتاريخ 30ديسمبر2024
خلال العامين الأخيرين شهدت قاعة يوسف بمسرح السلام عودة الروح إليها بفتح بابها بعد إغلاقها مدة تزيد عن الـ10 سنوات لتستأنف نشاطها المسرحي، ولتعود إلى استقبال الجمهور لمشاهدة عروض فرقة المسرح الحديث التابعة للبيت الفني للمسرح، تلك القاعة التي يرجع تاريخ افتتاحها لعام 1992، وشهدت عبر سنواتها عروضا لعدد كبير من نجوم المسرح المصري، وينسب هذا النشاط لمديرها الفنان القدير محسن منصور، ولقد شاهدت فيها خلال السنتين المنقضيتين مسرحيات «خلطة كيوبيد، امسك نفسك، كازينو» قدم بها كل من تلك العروض في ظل حماس مديرها لمواسم مختلفة ولم تغلق القاعة بابها، ولقد شاهدت مؤخراً عرضها الثالث «كازينو» الذي افتتح في الأسبوع الأخير من أغسطس الماضي ولازال مستمر في عروضه، وهو من كتابة الشاعر «أيمن النمر» فكرة وإخراج «عمرو حسان».
و «عمرو حسان» ممثل ومخرج مسرحي شاب، تخرج من المعهد العالي للفنون المسرحية 2013، أخرج العديد من المسرحيات التي لاقت استحسان الجمهور وإشادات النقاد والمتخصصين، بدأ نشاطه الإخراجي فترة دراسته بالمعهد بتأسيس ومجموعة من الشباب لفرقة «سايكو» التي أخرج لها عدة مسرحيات، وقد شاهدت له في بداية تكوينها مسرحية «المجانين» عام 2010م في اطار مشاهدات عروض نوادي المسرح بإقليم القاهرة.
عبر مسيرته القصيرة قدم «حسان» العديد من التجارب بجهات مختلفة، فأخرج للهيئة العامة لقصور الثقافة «مسرحيات منها «عظمة» لفرقة بيت ثقافة طامية بالفيوم، «زواج فيجارو» لفرقة قصر ثقافة السادس من أكتوبر، «من 15 سنة» لفرقة السامر، «كونكان” لفرقة قصر ثقافة الجيزة، وللفرق الخاصة قدم مسرحيات نذكر منها “كيبوبيد في الحي الشرقي” و”العشيقة” لفرقة مسرح “سيتي ستارز”، “المجانين” و»امسك مفتش” و”مظهر بيه الأرناقوطى وحرمه” لفرقة سايكو، و”رحلة عمري” لفرقة “سوكسيه”، وللبيت الفني للمسرح قدم مسرحيات منها “الحادثة” لفرقة الغد واستمر عرضها ثلاثة مواسم على التوالى، “يوم عاصم جداً” لفرقة المسرح الكوميدي، ومؤخراً قدم مسرحية “كازينو” لفرقة المسرح الحديث، وقد شاركت عروضه في عدد من المهرجانات منها المهرجان القومي للمسرح، مهرجان نقابة المهن التمثيلية، مهرجان الختامي لفرق الأقاليم، مهرجان آفاق، مهرجان الأردن المسرحي في دورته الـ25، وقد حصد عن مشاركاته العديد من الجوائز.
ومن خلال متابعاتي لعروض المخرج الشاب “عمرو حسان”، فهو مخرج يتسم بالحماس ويهتم بتفاصيل شخصيات عروضه، يعايشها كممثل ليشارك الممثل احساسه وينقل له رؤيته معتمدًا على مهاراته كمدرب تمثيل في توظيف الحركة مع الأداء فيما يخدم الشخصية علي المسرح، وهو مخرج له رؤية، تستهدف عروضه كل أفراد الأسرة، ويحرص أن تكون مناسبة للأعمار المختلفة وأن ترضي كل الأذواق، ويميل للكوميديا في عروضه حيث كان مشروع تخرجه من المعهد عن الكوميديا “ديلارتي” في مسرح “داري فو”، إضافة إلى عمله مع مخرجين ومؤلفين لديهم حس كوميدي، وهو في اختياراته لموضوعات عروضه يركز على الأفكار المختلفة التي تبعث على الدهشة، ولا يحصر نفسه في موضوعات بعينها، إلا أنها في الغالب تنتمي للاجتماعية، أو تتعلق بما يجوب بالمجتمع قريبة من المتفرج، وهو يقوم بإعداد نصوصه ليصب فيها رؤيته، أو يعتمد على الشاعر “أيمن النمر” في الكتابة فهما بمثابة ثنائي عمل اذ اشتركا معا في كثير من العروض، أما اختياراته في التمثيل فنجده دائما ما يعتمد على الممثلين الشباب القربين له سنا وفكريًا ورحاً بما يسهل من مساعدته في تقديم رؤيته، وكذلك في اختياره لباقي عناصر العمل حيث يحرص على روح الجماعة والتناغم فيما بين أفرادها بما ينعكس على العمل ككل ويلمسه الجمهور بما يسهم في نجاح عرضه.
تدور أحداث العرض داخل كازينو، بالدور الثالث أسفل الأرض، وتجسد أحداثه مجموعتين كل منهما من أربعة أفراد، الأولى للعاملين بالكازينو (البار مان صاحب الكازينو، فتاتان صالة “ميمي ياسمين”، ساحر ومساعد صالة)، والمجموعة الثانية من زبائن اعتادوا ارتياد الكازينو للتسرية عن أنفسهم في أوقات فراغها (إيمان هانم الإعلامية سيدة المجتمع، حسام بيه رجل الأعمال اشاب، دكتور تامر الطبيب المشهور، وزكي باشا المسن اللي مجنن البنات)، في أجواء كباريه بين رقص وغناء وإيقاعات وشرب ومداعبة، وتجاذب أطراف الحديث بين الرواد أثناء لعب الكون كان، وضحكات خليعة للفتاتين إلى أن يدخل عليهم شاب نعرف أنه خطيب “ياسمين”، والتي كذبت عليها بأنها تعمل بمستشفى، يحتد عليها ويحاول أن يخرج بها من المكان فيتصدى له “حسام” وتتوتر الأجواء، ويتبدل الحوار لعنف، وعند خروجه يفاجأ بحدوث زلزال تسبب في اغلاق سلم الصعود للخروج من المكان، يعود ويخبرهم، ويتعذر اتصال المجموعة بالخارج لعدم وجود شبكة للموبايل تحت الأرض، بما يعني بقائهم بالمكان الذي قد يتحول لمقبرة لهم، ليصاب الجميع بالهلع، وبين عطش وجوع ومصير غير معلوم تبدأ رائحة الموت تحوم حولهم، فلا تصبح للثروة قيمة وتسقط سلطة الجاه، وتفضح لحظات التطهر في مواجهة الموت أفراد المجموعة الثانية، وتسقط الأقنعة لتبدو الشخصيات عارية في مواجهة خطاياها، ويظهر قبح ممارسات الفساد، .. ويتصدر البار مان المشهد ليساوم الجميع على ثمن الماء، وتصدح طلقات الرصاص، السلاح والمياه، الموت والحياة، ويحتدم الصراع في صالة القمار ويعقد المزاد على ثمن زجاجة (المياه/الحياه)، المزايدة بالملايين، وليفتدي حسام حياته بكتابة شيكا بملايين الجنيهات ليمتلكه، ومع الخمر تأخذ الأحداث مسارات أخرى، يموت المسن الثري السكير بغيبوبة السكر، ولتتوالى الأحداث لتتكشف العلاقات التي تفضح الكثير من فساد المجتمع، الأجواء مشحونة بالإثارة تتحول لأجواء كابوسية تضعهم على حافة الموت، صراع من أجل الحياة، من يستطيع أن يظفر بها، ..
فجأة ؛ تتكشف الحقيقة بأننا - جميعاً وليس حسام باشا فقط - كنا أمام لعبة محكمة الإعداد من قبل “البار مان” وفتيات الصالة وخطيب الفتاة للحصول على الملايين، لم يتوقف الأمر على ذلك فقط، ولكن في اكتشافنا أن إحكام التخطيط كان من صُنَّاع العرض ككل تجاه المتفرجين أنفسهم ..!
وبشكل عام فإن فكرة لعبة التطهر أمام لحظة الشعور بالموت تيمة تكررت بكثير من أعمال الدراما - وقد توارد على ذهني لحظة المشاهدة المثالين الأشهر (مسرحية “سكة السلامة” وفيلم “بين السما والأرض” - وقد نجح العرض في توظيف تلك التيمة لقراءة ما يجوب بالمجتمع من فساد وعلاقات مشبوهة، عبر رؤية طبقية لمجموعتين؛ “فقيرة واهنة” أمام “ثرية ذات نفوز”، ومن خلال صراع بين “شر” و “أخر أكثر توحش” بين “مجموعة الكازينو” ومجموعة “الزبائن الأثرياء الفاسدين” ..، الأمر الذي قد يصل شعور المتفرج فيه للحظة التمني بأن يكون يصبح الكازينو مقبرة للمفسدين .. هكذا بدا العرض!
مسرحية “كازينو” فكرة المخرج، لذا كان اهتمامه الأكبر وتركيزه بكل ما يخدم عليها، فهي لعبة مزدوجة، بين الممثلين وبعضهم، وبين الممثلين والجمهور، ولقد تسرب لي من مقعدي كجمهور شعورًا - ربما غلبه ذائقتي كناقد - بوجود شيء غير طبيعي يدفعني لترقب ما يحدث دون تفاعل سريع، وهو ما تكشف لي بنهاية العرض التي لم تحقق الارتياح لدي، إذ أنه وبشكل عام يجب لأي عمل درامي ألا تأتي نهايته بدون إشارات تؤدي إليها، أو دون وجود “كعب إخيل” الذي يدعم النهاية التي يضعها المؤلف حتى نتقبلها، فلكل معطيات نتائج، أو لكل نهايات مقدمات، وفي هذا السياق يأتي تفسير لقيام “البوست” في بداية العرض بإجراء بروفة ما، حيث أن التفاصيل الدقيقة تصنع الفارق - وتلك وجهة نظر- وتلك الملاحظة لم تمنع رسالة العرض الواضحة في فضح علاقات الفساد بالمجتمع، والتي تقترب به من حافة الهاوية، وطرح العرض لبعض القضايا التي يعاني منها مثل؛ تجارة الأعضاء البشرية وكذلك تحول مهنة الطب للمتاجرة بالمرض بالعيادات والمستشفيات الخاصة، أيضا فضح نجوم المجتمع من رجال وسيدات وإعلاميين يتشدقون بشعارات ليست منهم بشيء ولا يعملون بها، وتجار يستعلون ظروف البشر ليتاجرون بها دون شفقة، واضطرر الفتيات للانحراف للتغلب على ظروفهن المعيشة الصعبة، وكشف العرض توحش الرأس مالية المتسببة في اندياح الطبقة الوسطى واتساع قاعدة الفقر والتي تقوده إلى الجريمة من أجل الحياة، الأمر الذي جعلني كمتفرج أتمنى المكان وكأنه مقبرة للفساد، ما يجعل من العرض بمثابة جرس إنذار للجميع.
لجأ المخرج لتقديم الشخصيات عند دخولها من خلال الساحر بشكل استعراضي يمكن تقبله على سبيل الترحيب وفق طبيعة المكان، بينما لم أجد مبررا للجوئه لاستكمال التعريف بواسطة التعليق الصوتي المنبعث من سماعة الصالة، هذا وقد واجه المخرج مأزق طبيعة القاعة وصغر حجمها بما يلائم العرض، بعمل من خلال الديكور عل تحويلها إلى كازينو كبير يحوي المتفرجين بما يجعلهم جزء من العرض، وهو ما قام مهندس الديكور به بلجوئه للديكور الواقعي في تصميمه صالة كباريه - الاسم الأدق - مع نثر بمتيفات كوتشينة على جدران القاعة لتحيط بها الجمهور، واعتمد المخرج على اختصاص منطقة التمثيل بالإضاءة لتميز منطقة التمثيل والحافظ على الحالة المسرحية، باستثناء بعض لحظات للغناء اعتمد فيها على الإنارة أو “الفلو لايت” بما يتناسب مع صالة كباريه تحوي الجميع، وكذلك تم توظيف الموسيقى بشكل جيد كمؤثرات تصويرية مصاحبة ومعبرة عن اللحظات المختلفة، وفي ألحان الأغاني التي كانت ذات إيقاعات سريعة تعمل على سرعة إيقاع العرض ذاته، وجاءت كالومضات فلم تكن عبء عليه، أما الاستعراضات فلم يكن هناك مساحة لها بالمكان، بعض جمل حركية أو دراما حركية محدودة لا مجال لتقييمها.
أما عن فريق التمثيل؛ فإن فكرة لعبة العرض الجديدة كان لها أثرها في اختيار سكك الأداء أو التحكم في أداء الممثل - “تمثيل داخل تمثيل” ولكن بشكل غير مباشر- إذ كان المتفرج فيه مثله كمثل شخصية حسام، ورغم مأخذي على الإغراق الكامل في إحكام التمثيل، إلا أن أداء الممثلين وإتقانهم لأدوارهم أمتعنا، ويحسب للمخرج في ذلك صبغ أجواء العرض الكابوسية بمسحة من الكوميديا، فلم تكن وجوه شخصيات الشر متجهمة بل مبتسمة تلقي بإيفهات للإضحاك، وقد تميز فريق التمثيل بالكامل، كل في دوره بدا مستوعبا لطبيعته وللأبعاد النفسية والاجتماعية للشخصية، لم تكن بينهم شخصية تشبه الأخرى، تفوقوا جميعا، بدء من النجم “كريم الحسيني” الذي جسد دور “حسام” الشاب الفاسد، وهو شخصية مركبة صنعتها الظروف لتبدو شريرة بينما في داخلها خيرة، وقد كان - بما يتسم به من تمكن وموهبة - ترمومترا للعرض، ولعب دورا كبيرا في الحفاظ على إيقاعه، وشاركه في ذلك الفنان “مجدي البحيري” الذي جسد دور “بوست/ البار مان” حيث كان بمثابة مركز الثقل للعرض، يدير الأحداث بالكلمة وبالإيماءة، ويسيطر على ساحة التمثيل في توقيتات حضوره، ومعهما الفنانتان الشابتان (نسمه عادل ونيجار محمد) رمزاً للجمال الذي شوهته الظروف باستغلاله وسلبه حق الحياة المناسبة لهما، وقد تفوقتا بأداء شخصيتين مختلفتين رغم طبيعة العمل الواحدة، وان اتسعت مساحة الدور لشخصية “ياسمين” لتبرز أداءات لمشاعر مختلفة أبرزت امكانياتها، ومعهما تميزت الفنانة القديرة (نوال سمير- إيمان هانم سيدة الإعلام)، كذلك (أحمد محسن منصور - خطيب ياسمين) الذي تميز باختلاف طبيعة دوره وكونه محور لحظة تحول الأحداث، كما تميز كل من (شادي أسعد- الطبيب الفاسد تامر)، و(محمود البيطار- زكي باشا رجل الأعمال المسن المتصابي)، (محمد دياب - المنادي/ الساحر).
تحية خاصة لفريق عمل “كازينو” الشاعر أيمن النمر كاتب النص، والموسيقى والملحن حازم الكفراوي، والموزع الموسيقي المتميز محمد الكاشف، وفنان الاستعراض حسن شحاتة، ومصمم الديكور محمد عبد الحميد، ومصممة الأزياء مها عبد الرحمن، ومعهم “عز حلمي - الإضاءة”، “أمل حسام - المكياج”، و”خالد مهيب” الفوتوغرافية والدعاية والمادة الفيلمية ..، وتبقى التحية للمخرج الشاب المجتهد “عمرو حسان” مع التمنيات بمزيد من التميز.