العدد 905 صدر بتاريخ 30ديسمبر2024
الهدف من هذه الورقة هو مناقشة التحدي الذي أطلقته (مفاهيم معينة) لفنون الأداء، ولاسيما بعض الأشكال الحديثة، ضد المفهوم الجمالي للفن. ويزعم بعض المنظرين أن الفنون الأدائية لا يمكن فهمها من حيث التجربة الجمالية، والتمايز الجمالي، والمسافة الجمالية، لأنها - ولاسيما الأشكال منها - لا تستند في المقام الأول إلى “الأعمال الفنية”، ولكنها تستند على “الأحداث”.
وسوف أجادل بدلاً من ذلك بأننا ما زلنا بحاجة إلى مفاهيم التمايز الجمالي أو المسافة الجمالية لفهم التجربة الفنية بشكل عام . من المؤكد أن الفنون الأدائية تختلف في كثير من النواحي عن الفنون غير الأدائية. ويرجع هذا الاختلاف بشكل خاص إلى حقيقة مفادها أنها تشرك الجمهور بشكل مباشر، وأحيانًا إلى الحد الذي يوّلد فيه الأداء حلقة تغذية استرجاعية مما قد يطمس أدوار الفنانين والمشاهدين. ومع ذلك، سوف أؤكد على أن هذه الميزة لا تجعل مفهوم “المسافة الجمالية” عتيقًا أو عديم الفائدة أو خاطئًا. على العكس من ذلك، ما زلنا بحاجة إلى هذا المفهوم لتقدير وفهم الفنون الأدائية على أنها فن.
فنون الأداء والفنون غير الأدائية
في المقام الأول، من المفيد أن نفكر في الفارق العام بين الفنون الأدائية وغير الأدائية. وبالمعنى الواسع للغاية والفضفاض، يمكننا أن نقول إن كل لقاء بعمل فني هو “أداء”. والواقع أن مشاهدة الأفلام، وحضور المعارض الفنية، وقراءة الروايات، كلها أنشطة حقيقية تجري في الوقت الحقيقي. ويتعين على القارئ، أو المتفرج، أو المشاهد أن يفعل شيئًا، وأن يكون فعالا بطريقة ما، من أجل الحصول على التجربة الصحيحة للعمل الفني. ومن ثم، فإن كل تجربة فنية بهذا المعنى الواسع تنطوي على حدث أدائي.
ومع ذلك، فإننا نميز عادة بين الفنون الأدائية والفنون غير الأدائية. وفي الواقع، وبمعنى أكثر تحديدًا، يشير مصطلح الفنون الأدائية إلى تلك الأشكال الفنية التي تقوم فيها مجموعة من الأشخاص (المؤدين) باستخدام مواد مؤقتة (أصوات، أفعال، حركات جسدية) “بأداء حي أمام مجموعة ثانية، أي الجمهور”. لذا فإن القراءة العامة لكتاب من قبل المؤلف أو الممثل أمام الجمهور تندرج ضمن فئة الفنون الأدائية، بينما لا تندرج القراءة الخاصة للكتاب ضمن هذه الفئة.
الرقص والمسرح والموسيقى الحية هي حالات نموذجية للفنون المسرحية. في هذه الحالات “ليس فقط لقاء الجمهور بالعمل الفني هو الحدث، بل إن العمل الذي يواجهه هو في حد ذاته حدث”. فمثلا يقوم شخص أو مجموعة من الأشخاص بعمل شيء ما على المسرح ويشاهده الجمهور ويستمع إلى ما يحدث أمامه. وبالتالي، في الفنون الأدائية ، فان الموضوع الجمالي، أي موضوع الاهتمام الجمالي، هو السلوك البشري: يولي الجمهور اهتمامًا جماليًا لما يفعله البشر على المسرح خلال فترة زمنية معينة. الوموضوع الجمالي هو الحدث، أي الأداء الحي للأفعال. فمثلا يستمع الجمهور إلى الموسيقى أو يشاهد المسرحية أو الرقص الذي يجري أمامه مباشرة، وهذه التجربة هي في درجات مختلفة تجربة من الاشباع الجمالي aesthetic satisfaction (1).
الأشكال الجديدة من الفنون الأدائية
النقطة التي سأناقشها هي التالية. اليوم تتحدى بعض أشكال الفنون الأدائية فكرة أن الأعمال يتم تمثيلها من قبل بعض المؤدين أمام جمهور من المفترض أن يختبرها جماليًا. وسأركز انتباهي بشكل خاص على كتاب اريكا فيشر ليشته “ جماليات الأداء Aesthetik des Performativen، والذي يعد حتى الآن، بقدر ما أعلم، أحد المحاولات الفلسفية الرئيسية لفهم الطابع الجمالي الخاص للفنون الأدائية المعاصرة. من خلال التأكيد، مثل غيرها من المنظرين، على أن الأشكال الجديدة للفنون الأدائية (فن الأداء، والأحداث، والأشكال الحديثة من المسرح) تتحدى بشكل جذري الطرق التقليدية لفهم الفن، وتزعم أننا بحاجة إلى إطار مفاهيمي مختلف وجديد لفهمها. وتزعم أن المفهوم الجمالي للفن القائم على عدم الاهتمام والمسافة، لا يكون صالحًا إلا في حالة الفن القائم على “العمل work-based art”؛ لكن الفنون الأدائية ليست أشكالًا فنية قائمة على الأعمال، بل إنها قائمة على الأحداث. وعلى هذا فإن أشكال الفن المرتجل، فضلاً عن فن الأداء والأحداث، تنطوي على نوع مختلف من الأداء؛ وهو النوع الذي لا يمكن تقديره من مسافة جمالية. وتتبع هذه الأشكال الفنية، كما هي الحال، قواعد مختلفة تمامًا.
وفقًا لفيشر ليشته، فإن الأداء محل النقاش في مثل هذه الأشكال الفنية هو الإنتاج المباشر للأفعال. ولا يتألف من الإنجاز التعبيري أو التمثيلي لمحتويات دلالية وعاطفية تم إنشاؤها مسبقًا وتثبيتها في أشكال ثابتة من قبل مؤلف أو ملحن. ولا يهدف الأداء المؤدى إلى تقديم المعاني أو المحتويات أو المشاعر التي تمثلها أو تعبر عنها هذه الأفعال إلى الجمهور. لا تعني الأفعال المؤداة شيئًا آخر أو تشير إليه: بل تعني نفسها وتشير إليها. إنها ليست دالات لمعاني مدلولات يمكن تقديمها بطريقة أخرى. إنها تعني ما تفعله.
ومن ثم، تزعم فيشر ليشته أنه في الفنون الأدائية مثل الأحداث والأداء، ينهار التمييز الثنائي بين الواقع والخيال و/أو الوهم، وبين الطبيعة والثقافة، والحدث والعمل. فلم يعد هناك عرض لقصة خيالية تدور أحداثها في عمل مكتوب مسبقًا (أو تم تقديمه بطريقة ما) من خلال حدث حقيقي يحدث في الوقت الفعلي (الأفعال التي يتم أداؤها على خشبة المسرح)؛ على العكس من ذلك، فإننا نواجه أفعالاً تعني ما هي عليه حقًا، دون أي إشارة إلى المعاني أو المحتويات التي تم إنتاجها قبل الحدث الأدائي. إنها ذاتية الإشارة.
وعلاوة على ذلك، فإن هذا النوع من الأداء يعني أن الفصل المكاني والجسدي بين الفنانين المؤدين والجمهور وكذلك التمييز الاجتماعي والمفاهيمي بينهما يختفي، أو يميل إلى الاختفاء على الأقل. ويشارك الجمهور بنشاط في الأفعال التي يتم أداؤها. ويصبح الفنانون والجمهور مؤدين متفاعلين. ومن ثم فإن السمة الرئيسية لهذا النوع من الأداء هي التفاعل بين الفنانين والجمهور وبين أفراد الجمهور. لم يعد الأمر عبارة عن موقف يقوم فيه فنان أو أكثر بعمل شيء ما أمام جمهور حاضر. اذ يتفاعل الفنانون والجمهور, والحدث الفني هو نتيجة هذا التفاعل.
ومن ثم فإن هذه الفنون الأدائية ذاتية الإشارة وذاتية التكوين: العروض ذاتية الإشارة لأنه لا يوجد عمل يجب أن يتم أداؤه: فالأفعال التي يتم أداؤها لا تقدم لنا معاني دلالية أو عاطفية موجودة بطرق ما، قبل الأداء، في عمل تم تأليفه مسبقًا. فالأفعال التي يتم أداؤها هي معاني الأداء. وهذه الحقيقة تستبعد إمكانية أن تعبر الأفعال التي تقوم بها أجساد المؤدين عن معاني و/أو عواطف أو تمثلها. إن الطبيعة المادية والجسدية لأجساد وأفعال المؤدين تتجاوز معانيها. لذا، وفقًا لفيشر ليشته، فإن أي معنى تعبيري ورمزي لا يهم لنجاح الأداء كأداء.
والعروض عبارة عن أحداث ذاتية التكوين تحدث فيها حلقة تغذية استرجاعية معينة. فالسلوك والأفعال التي يقوم بها الفنانون تؤثر على ردود أفعال المتفرجين. وتؤثر استجابات المتفرجين على ردود أفعال المتفرجين الآخرين، وبالتالي تؤثر على أفعال الفنانين اللاحقين. ويشار إلى الحدث الذي يتم أداؤه بالمعنى القوي بأنه يولد ويغذي نفسه، كما هو الحال، من الداخل وليس الرمز الفعلي لنوع موجود مسبقًا. ومن ثم فهو ينتج نفسه: وبهذا المعنى فهو ذاتي التكوين(2).
كأنساق ذاتية التكوين العروض
بالإشارة إلى الأدائية التي تتسم به الأحداث والعروض وما شابه ذلك باعتباره ذاتي التكوين وتستند إلى حلقات التغذية الاسترجاعية، تستخدم فيشر ليشته مفهوم النسق المعقد الذاتي التنظيم - والذي استخدمه في الأصل فرانسيسكو فاريلا وأومبرتو ماتورانا لشرح الأنساق البيولوجية مثل الخلايا الحية.
النسق المعقد ذاتي التنظيم وذاتي التكوين لأن النسق ينتج المكونات التي تنتج بدورها النسق، وهكذا، إلى الحد الذي يكون فيه منتج التنظيم هو النسق الحي نفسه. فالنسق يولد مكوناته الخاصة بقدر ما يولد حدوده. ومن ثم، فإن “قدرة نظام معين على صنع حدوده الخاصة أم لا هي غالبًا المعيار الأكثر تمييزًا للتعرف على ما إذا كان النسق ذاتي التكوين أم لا (مكون لغيره) .
ومن ثم، يتميز النسق المعقد ذاتي التكوين بشكل جيد بعلاقتين دائريتين:
1- الدائرية بين “المنتج” و”المنتج” .
2- الدائرية بين “الكائن” و”الفعل”.
وبسبب هذه الدائريات، فإن النسق الذاتي التكوين يكون مستقلاً، لأنه يولد قواعده وحدوده الخاصة.
الآن، تزعم فيشر ليشت أن العروض والأحداث وما شابه ذلك
هي ذاتية التكوين بهذا المعنى. والواقع أن المواقف التي يكون فيها الجمهور أمام المؤدين تجعل التفاعل بينهم ممكنًا. وهذه الإمكانية الواقعية تميز الفنون الأدائية عن الفنون غير الأدائية. ولا تحدث حلقات التغذية الاستراجعية في الرسم أو النحت في الحالة العادية. ففي الحالة العادية، لا تؤثر استجابات المشاهدين وإدراكاتهم وأحكامهم على لوحة معينة على الطريقة التي تُرسم بها اللوحة. ومن المؤكد أنها يمكن أن تؤثر على اللوحات اللاحقة لنفس الفنان (وبطبيعة الحال أيضًا من قبل فنانين آخرين) فيما يتعلق بالتفسير الذي يقدمه أشخاص آخرون. ومع ذلك، تظل تلك اللوحة كما هي، بعد الاستجابات العاطفية والتفسيرية للمشاهدين. وعلى العكس من ذلك، في الفنون الأدائية، يمكن لاستجابة الجمهور أن تؤثر على الأداء الذي يجري في نفس اللحظة التي يتم فيها تقديم تلك الاستجابة.
هوامش
1- تنشأ بعض المشكلات النظرية عندما لا تحدث الأحداث على الهواء مباشرة، بل يتم بثها للجمهور من خلال وسائل الإعلام مثل الراديو والتلفزيون والإنترنت. في هذه الحالات يكون لديك عرض حي، ولكن لا تزال هناك مسافة مادية حقيقية بين المؤدين والجمهور. وبما أن السؤال النظري الذي أهتم به هنا هو تجربة العروض الحية التي لا يتم بثها من خلال الوسائط التكنولوجية، فلن أناقش هذه النقطة.
2- Cf. Fischer-Lichte (2004) and Mersch (2002)
....................................................................................
• أليساندرو بيرتينيتو هو باحث دكتوراه في جامعة أوديني،إيطاليا. وقد نشر جوهر التجريبية. مقالة عن الأول «المنطق التجاوزي» بقلم جيه جي فيشت (2001)، و الخطوط العريضة للتاريخ من الجماليات. فلسفة الفن من كانط إلى القرن الحادي والعشرين (مع ف. فيرسلوني وج. جاريلي، 2008).
• نشر هذا المقال في الفصل الثالث عشر من كتاب Epression in Performing arts الصادر عن مطبوعات كمبريدج عام 2010