العدد 925 صدر بتاريخ 28أبريل2025
استضاف نادى أدب روض الفرج، بقصر ثقافة روض الفرج، أمسية ثقافية مميزة بحضور الأستاذ محمد الروبى، رئيس تحرير جريدة “مسرحنا”، فى لقاء بعنوان “خربشات فى المسرح الشعري»، وسط حضور أدبى وثقافى مميز.
بدأ اللقاء بكلمة ترحيبية من رئيس النادى الشاعر سامح هريدى، معربا عن سعادتها بوجود الناقد محمد الروبى، مشيرة إلى أن الأمسية كانت مقررة باستخدام عروض بصرية عبر البروجكتور، لكن تم تعديل البرنامج نظرًا لانشغال القاعة السفلية.
افتتح الروبى كلمته، قائلًا: “أشعر بانتماء خاص لهذا المكان؛ فلى مع روض الفرج ذكريات عميقة تعود إلى الطفولة والشباب”. واستعاد ذكريات نشأته فى المنطقة، وتحدث عن سينمات روض الفرج: فلوريدا، روض الفرج الصيفى، باعتبارها من أبرز المكونات الثقافية فى تكوينه الفنى، مشيرًا إلى كيف كانت هذه السينمات مصدرًا للتأثير الثقافى والمعرفى لأبناء الحى.
وأضاف الروبى أن نشأته فى روض الفرج لم تقتصر على الثقافة الشعبية، بل امتدت إلى ممارسة المسرح بمركز شباب الساحل، حيث تلقى تدريبه على يد الفنان أحمد ماهر. وذكر من أبناء المنطقة الذين أصبحوا نجومًا لاحقًا، أمثال توفيق عبدالحميد، عبدالله محمود، وزين نصار، مشيرًا كذلك إلى انتماء الفنانة الكبيرة سميحة أيوب للمنطقة.
وأكد الروبى أن المسرح الشعرى ليس مجرد عرض فنى، بل تجربة شعورية وفكرية متكاملة تمزج بين جماليات الشعر وروح الأداء المسرحى، داعيًا الحضور للتفاعل مع هذا الفن العريق بروح منفتحة وحس نقدى.
بين قواعد المسرح وجماليات الشعر
انطلق حديث الناقد محمد الروبى عن المسرح الشعرى فقال: لا بد من البدء بفهم المسرح أولًا، قبل الخوض فى عالم الشعر. فالمسرح، كأى نشاط إنسانى أو لعبة، تحكمه مجموعة من القواعد التى لا يمكن تجاوزها أو تجاهلها. لذلك، فإن ممارسة المسرح تتطلب أولًا فهم قواعده الأساسية، تمامًا كما لا يمكن ممارسة أى لعبة فى العالم دون معرفة قوانينها.
ولهذا السبب، يُطلق على المسرحية باللغة الإنجليزية كلمة «Play»، أى “لعبة”، لأنها قائمة على قواعد، وعلى من يمارسها أن يلتزم بها، لا أن يعترض عليها أثناء الممارسة. فإذا كنت راغبًا فى الاعتراض، فليكن ذلك قبل دخولك “الملعب”، لا بعده.
وتزداد الأمور تعقيدًا عندما تدخل لعبة أخرى إلى هذا الميدان، وهى لعبة الشعر. فى هذه الحالة، يصبح المبدع مطالبًا بفهم قانونين لا قانون واحد: قانون المسرح، وقانون الشعر. وهذا ما يُنتج تحديًا كبيرًا أمام من يود تقديم عمل مسرحى شعرى.
فالمسرح بطبيعته فعل، أى أنه يعتمد على الحدث الجارى. أنت لا تحكى ما حدث، بل تُقدمه للجمهور كأنه يحدث أمامهم الآن. جوهر المسرح هو الحدث الحى. أما العنصر الثانى المحورى فى المسرح فهو “الصراع”. لا يوجد مسرح دون صراع: صراع بين شخصية وأخرى، بين مجموعتين، أو حتى صراع داخلى داخل النفس البشرية بين الواجب والرغبة، بين الحلال والحرام، بين ما هو صواب وما هو حقيقة.
أما فى الشعر، فلا يُشترط وجود هذه العناصر. قد يكتفى الشاعر بالتعبير عن إحساس ما أو موقف معين. يكتب قصيدة عن الأم، أو عن الوطن، أو عن الحبيبة، دون أن يكون هناك صراع أو فعل.
وهنا يظهر الفارق الجوهري: المسرح فعل وصراع، والشعر إحساس وتأمل. ولهذا فإن إنتاج مسرح شعرى حقيقى يتطلب دمجًا دقيقًا بين جوهر الفعل المسرحى وروح الشعر، وهو ما يجعل هذا الفن تحديًا إبداعيًا حقيقيًا.
الشخصية الدرامية
وتابع الناقد محمد الروبى، قائلًا عن الشخصية الدرامية: «الشخصية الدرامية ليست أى شخصية فى الحياة، بل هى شخصية ذات تضاريس وتحولات، تبدأ من نقطة وتنتهى بأخرى مختلفة، وتحمل بداخلها صراعًا إنسانيًا يعكس الخير أو الشر أو كليهما. لا يصلح لأى شخصية أن تكون درامية إلا إذا حملت همًّا إنسانيًا يمكن أن يُبنى عليه صراع.
أهم عناصر الدراما المسرحية تبدأ بالصراع ثم الشخصية، التى يجب أن تُعبر عن ذاتها من خلال الحوار. كثير من الكُتّاب يقعون فى خطأ يجعل الشخصيات تتحدث بلسانهم، وليس بلسانها هى.
واستكمل، قائلًا: الحوار الدرامى الجيد يؤدى وظيفتين: التعبير عن الشخصية، وتقديم المعلومة التى تدفع الحدث للأمام. يجب أن يكون الحوار مكثفًا، خاليًا من الثرثرة، وأن يُقال بأقل عدد ممكن من الكلمات دون الإخلال بالمعنى.
كما أن الفن المسرحى يقتضى حذف ما يمكن الاستغناء عنه، لأن الإطالة تُضعف النص. ولهذا يجب أن يراجع الكاتب كل جملة ويتساءل: ما ضرورتها؟ وإن لم تكن ضرورية، فلتُحذف.
صعوبة المسرح الشعري
وأضاف الناقد محمد الروبى: «حين يتصارع الشعر مع الدراما من مصر، حيث الخصوصية تخلق الإبداع، قد يكون أعظم أشكال التعبير هو الحذف. فكلنا، فى لحظة ما، مرضى بـ”الثرثرة”، ذلك المرض الذى لا يحتمله المسرح الحقيقى. كما قال وهو أيضًا لا يتحمل الإسهاب الممل. فبكثير من الاختزال، يمكن القول إن هذه من أهم قواعد المسرح والدراما.
وتابع قائلًا: «المفارقة تظهر حين يصطدم الشعر بهذه القواعد، فالقصيدة قد تكون عن الحرب، عن الحب، أو حتى عن المعاناة، لكنها فى النهاية ليست مسرحية. فالشعر يحتمل التأمل والتفصيل، أما الدراما فلا تحتمل ذلك. من هنا تأتى صعوبة المسرح الشعرى: كيف يمكن للكاتب أن يكون شاعرًا مبدعًا، وفى الوقت نفسه كاتبًا دراميًا بارعًا؟ إنها مهمة معقدة، حتى كادت أن تختفى من المشهد العربى الحديث، رغم أن المفاجأة التاريخية أن المسرح بدأ شعرًا. فى اليونان القديمة، منذ أكثر من ألفى عام، كانت المسرحيات تُكتب وتُقدم شعرًا. والفيلسوف أرسطو كتب أهم مؤلف فى نقد المسرح بعنوان «فن الشعر»، لأنه فى زمانه، كان المسرح قائمًا على الشعر.
لكن مع تحولات المجتمعات وتطور الأذواق، بدأ الشعر يتراجع فى المسرح. لم يعد الجمهور يحتمل قصيدة طويلة عن معاناة شخصية على خشبة المسرح، كما كان يحدث فى زمن شكسبير. أصبح مطلوبًا من المسرح أن يكون أكثر مباشرة، أقرب للواقع، وأسرع إيقاعًا.
رغم ذلك، فإن من كتبوا المسرح الشعرى فى بدايات المسرح العربى، خاضوا مغامرة فنية عظيمة تستحق التقدير. فعندما كتب أحمد شوقى مصرع كليوباترا، قد تكون المسرحية، دراميًا، ضعيفة بمعايير اليوم، لكنها كانت فى زمنها مغامرة جريئة. ويكفى أنه فتح الباب لمدارس وتيارات لاحقة، استفادت من تجربته ومن تجارب الغرب، وتطورت مع تحوّل الشعر نفسه نحو التفعيلة وغيرها من الأشكال الحديثة.
ولولا أحمد شوقى، لما كان صلاح عبدالصبور. فشوقى، مع مسرحيات مثل قمبيز ومجنون ليلى، كان من الآباء المؤسسين للمسرح الشعرى العربى. وربما لو عاش فى عصرنا، لكتب بأسلوب مختلف، لكنه كان ولا يزال رائدًا ومجددًا فى مجاله.
تراجع المسرح الشعرى؟
واستكمل الناقد محمد الروبى حديثه قائلًا: «عندما نقول إن “الموبايل اختراع عظيم”، لا بد أن نُدرك أنه وليد تطور طويل بدأ مع أجهزة الكمبيوتر الضخمة التى كانت تملأ الغرف. لقد رأيناها وشهدنا تطورها. وبينما نُعجب بثمار هذا التطور، لا ينبغى أن نغفل عن الإشكاليات الملازمة له. فليس كل اختراع بالضرورة خالٍ من العيوب، كما أن مَن ساهم فى مسيرة العلم — مثل مخترع الميكروسكوب الذى كشف كروية الأرض — لم يسلم من الاتهام بالكفر .
وأضاف الروبى، قائلًا: «المطلوب منا هو نظرة متوازنة؛ أن نمنح كل تجربة مكانها الصحيح من التقدير، دون أن نُغفل إخفاقاتها.
وعندما نحكم على البدايات، لا بد أن نضعها فى سياقها التاريخى. فالشاعر صلاح عبدالصبور لم يخرج من فراغ، بل بنى على تجربة أحمد شوقى، وطوّر منها. والتطور هنا لا يعنى القطيعة، بل الاستفادة وإعادة التشكيل.
والمشكلة التى واجهها صلاح عبد الصبور فى المسرح الشعرى كانت صعبة: كيف يجمع بين فنين متناقضين؟ فنٌ ذاتى قائم على الراحة والتأمل والتعبير عن الذات، وفنٌ آخر يعتمد على الصراع، ويمثل علاقات معقدة كالزواج. فحين يكتب الشاعر عن الشر، لا يعنى أنه شرير، كما أن الفنان التشكيلى لا يرسم إلا ذاته وإن تنوعت موضوعاته.
وفى العمل الدرامى، تتضاعف التحديات؛ لأنك تتحدث عن شخصيات متعددة، ويجب أن تُرسم جميعها بصدق واتساق. هنا لا بد أن يفصل الكاتب نفسه عن كل شخصية ليمنحها خصوصيتها.
لكن السؤال الذى يطرح نفسه اليوم: لماذا تراجع المسرح الشعرى حتى كاد يختفى؟ والإجابة قد تكون بسيطة ومُحبطة فى آن: لأنه لم يعد يُكتب. المسرح الشعرى الآن على مستوى العالم لا يكتبه سوى قلة نادرة غير معروفة. والسبب ليس فقدان الموهبة وحدها، بل التغير العام فى الذائقة الفنية.
الفنون لا تحتاج إلى مبررات لتولد، لكنها تموت إذا لم تجد بيئة حاضنة. فإن اختفى المسرح الشعرى، فربما كان هذا مصيره الطبيعى فى عصر لم يعد يُنصت للشعر. وإذا كتب له البقاء فى مكانٍ ما، فذلك أيضًا قدره.
فلا تقلق، ولا تعاتب نفسك: “لماذا لم يعد لدينا مسرح شعرى؟”، بل اسأل: “ومن بقى لديه الآن؟»
مأساة اختفاء المسرح الشعرى
وضرب الناقد محمد الروبى مثالًا بشخصية مثل فقال عبده البقال..” لا كأسم فقط، بل كصوت وصورة، كجغرافيا وصراع، كحكاية كاملة بمفرداتها الشعبية وهمومها الإنسانية. عبده ليس مجرد شخصية، بل هو تجسيد لصوت الناس وقال: «لعل الذين يتصدرون اليوم شاشات البرامج ويتحدثون عن الإبداع لا يدركون أن الإبداع لا يعنى التغيير فقط؛ بل يعنى أن يكون لهذا التغيير روح، شاعرية، طزاجة حقيقية الإبداع ليس رتوشًا، بل موقفًا.
ولذلك، فحين يتحدث البعض بلغة الوصاية عن غياب المسرح الشعرى، وكأنهم يملكون مفاتيح الحقيقة، فإنهم يتجاهلون أن هناك أسبابًا عميقة لا تتعلق فقط بالمبدع أو المتلقى، بل بطبيعة الزمن نفسه.
شاعرية المسرح
وتابع الناقد محمد الروبى عن اختفاء المسرح الشعرى فقال:الاختفاء لا يعنى الموت، بل التحوّل. لقد استُبدلت بشاعرية المسرح – تلك التى تكمن فى الكلمة، فى الحركة، فى الصورة واليوم، قليلون جدًا من يتعبون فى الكلمة، من يعرقون قبل أن يكتبوا.
ليس فقط المسرح الشعرى هو المهدد، بل المسرح كله.
ثمة انفصال حاد بين المسرح والشعر، كلٌ منهما يكافح بمفرده فى زمن لا يرحم. المسرح اليوم يعانى حتى من مجرد العرض. أن تقول لمدير دار عرض: “معى نص شعرى»، قد لا يعنى له شيئًا. لا لأنّه لا يفهم، بل لأنه يعرف أن المسرح صناعة، منظومة، تروس تعمل معًا أو لا تعمل على الإطلاق.
فى ظل هذا المشهد، لا يمكن أن نجلد أنفسنا فقط.
ما زال بيننا مبدعون، لكن الظروف أكبر منهم. إن لم يُعرض المسرح على الناس، فإنّه ببساطة لا يُعد “مسرحًا مصريًا”. حتى مسرح مصر، الذى جاء ليملأ الفراغ، هو تعبير عن غياب “النوع”، عن التحوّل من الفن إلى التسلية، من الكلمة إلى الضحكة الخفيفة. وفى النهاية، فإن تكرار هذا الغياب – مرة، واثنتين، وعشر – عبر سنوات طويلة، يصنع واقعًا جديدًا. واقع يقول: نعم، يمكن أن نكتب “مسرح مصر”، لكننا بذلك نكتب شهادة غياب للمسرح. ثم تطرق الناقد محمد الروبى إلى الحديث عن أكثر الكتاب الذين برعوا فى الكتابة الشاعرية للمسرح ومن أبرزهم الكاتب يسرى الجندى، وقال عنه: عن قراءة أحد نصوص الكاتب يسرى الجندى تشعر وكأن الجملة تحلق فهو يكتب عن شخصيات مثل “أبوزيد الهلالى”، والتى عندما قدمت على خشبة المسرح سنلاحظ شاعرية اللغة، وهو تطبيق على ما قولته سابقًا أن الأن المصطلح يكفيه أن يكون “شاعرية المسرح” وليس مسرحا شعريا فقط، فالوصول لشاعرية المسرح فأنت شاعر مسرح.
واختتمت الندوة بمجموعة من المداخلات منها على سبيل المثال كلمة حسام عزام سكرتير عام نادى أدب روض الفرج الذى أعرب سعادته بأن الندوة تناقش المسرح الشعرى الذى يحبه واسترجع بداية علاقته بالناقد محمد الروبى التى بدأت فى المسرح المتجول بقيادة الفنان القدير الراحل عبدالغفار عودة وفرق عزام بين المسرح الشعرى الذى يقدم على خشبة المسرح والمسرح الشعرى المكتوب، وأكد أنه إذا كان هناك مسرح شعرى يقدم الفترة الحالية فمن المؤكد أنه سيكون مسرح شعرى ناجح جدًا وضرب مثالًا بتجربة المخرج عادل حسان فى عرض “قواعد العشق الأربعون” موضحًا أن المسرح المتجول كانت له تجارب سابقة فى المسرح الشعرى منذ ما يقرب من عشرين عامًا ومنها مسرحية “دماء على ستار الكعبة”، “الوزير العاشق”، مشيرًا إلى أن عروض المسرح الشعرى قادرة على استقطاب الجمهور بشكل كبير.