«الطائر الأزرق» بين قفص الانتظار وحرية الحلم

«الطائر الأزرق»   بين قفص الانتظار وحرية الحلم

العدد 926 صدر بتاريخ 26مايو2025

جاء عرض الطائر الأزرق ضمن عروض المسرحية المقدمة فى مهرجان الفضاءات المسرحية لدورته الأولى، والتى تحمل اسم الفنان أشرف زكى وقد تم عرضه بقاعة سعد أردش فى يوم الخميس الموافق 10 إبريل 2025، ويحمل العرض فى طياته دمجًا ما بين قصيدة الطائر الأزرق تشارلز بوكوفيسكى ونص الأميرة تنتظر لصلاح عبدالصبور، وقد خلق العرض نصًا جديدًا وليس مجرد دمج بينهما.
فالعرض لم يقتصر على مجرد نقل نصين، بل اختار أن يخلقهما من جديد، فجمع بين صوت الطائر الأزرق الذى يخفيه الإنسان بداخله - كما صوره بوكوفسكى - وصوت الأميرة التى تنتظر حبيبًا، وطنًا، أو ربما خلاصًا - كما رآها عبدالصبور.
فقد أعاد العرض طرح الأسئلة الكبرى عن الذات والانتظار والانكسار الإنسانى من خلال الأميرة التى يتعالى بداخلها صوتان، صوت ارتباطها بالحبيب المنتظر وصوت طائرها الأزرق الذى يشير لها عن حقيقة هذا الوهم الذى تنتظره.
قدّمت الممثلة ليديا فاروق التى جسّدت دور الأميرة أداءً لافتًا، استطاعت من خلاله أن تُجسّد الصراع الداخلى العميق الذى ينهش الشخصية. لم تكن الأميرة مجرد ضحية انتظار، بل امرأة ممزّقة بين حبّها المسموم لرجل قتل الملك - والدها، الرمز الأكبر للحماية والسلطة - وبين رغبتها فى الحرية والانعتاق من هذا الأسر النفسى والرمزى.
جاءت لحظات التوتر والسكوت فى أدائها مُحمّلة بالمعنى، واستخدمت لغة الجسد لتعبر عن الازدواجية: نظرات مترددة، خطوات خجولة تتحول أحيانًا لاندفاع ثم تعود لتتراجع. فى بعض اللحظات، بدا وكأنها تُكلم الطائر الأزرق بداخلها، تُصغى له، ثم تُخرسه خوفًا من أن يُكتشف هذا الأداء جعل الشخصية أكثر تعقيدًا وإنسانية، حيث لم تكن الأميرة “نقية بالكامل” ولا “آثمة بالكامل”، بل إنسانة تتأرجح بين ضعفها وشجاعتها، بين الرغبة فى الحب وبين الحاجة إلى الخلاص.
أمّا من قام بدور القائد – قاتل الملك – باخوم عماد فقد قدّم أداءً يحمل ثقل الذنب دون أن ينطق به. بنظراته الحادّة، وحركاته الدقيقة، رسم ملامح شخصية لا تطلب المغفرة، لكنها لا تنكر الجريمة. لم يكن قاتلًا تقليديًا، بل قائدًا يقف على الحافة بين الهيبة واللعنة.
وقد كانت نظراته للأميرة كانت مزيجًا من السيطرة والندم المكتوم، ما أضفى على المشاهد التى جمعتهما توترًا كثيفًا، بدا فيه كأنه يواجه انعكاسه فى مرآة جريمته. الأداء لم يعتمد على الانفعال الظاهرى، بل على صمتٍ مشحون، لغة جسد محسوبة، وتعبير وجه يشى بكثير دون أن يقول.
أما دنيا المنياوى فقد قدمت أداءً مميزًا أضفى على العرض لمسة من البهجة المرحة، كانت ضرورية لكسر التوتر الدرامى المسيطر على الأحداث. لم تكن شخصيتها مجرد وصيفة تقليدية، بل بدت وكأنها تمثل جانبًا آخر من شخصية الأميرة نفسها - ذلك الطفل الداخلى الذى ما زال يرغب فى اللعب، فى الانطلاق، فى التحرر من قيود القصر والانتظار والخوف.
جاء أداؤها خفيف الظل وعفويًا، يوازن بين البراءة والتمرد. عبر حركاتها وتعبيراتها وحتى طريقتها فى الكلام، نجحت فى بثّ روحٍ من الحيوية التى كانت الأميرة تفتقدها. ويُمكن القول إن شخصية دنيا المنياوى فى العرض كانت بمثابة الحافز الداخلى الذى يُذكّر الأميرة بما نسيت: أنها تملك الحق فى الحياة، فى الضحك، فى أن تكون حرة.
اتسمت باقى عناصر العرض - من موسيقى وإضاءة وديكور - بقدر عالٍ من التناسق مع التوتر النفسى والرمزى الذى حملته المسرحية. جاءت الموسيقى مصاحبة للمزاج العام للنص، تتحول من نغمات حالمة خفيفة عند ظهور شخصية دنيا المنياوى، إلى مقاطع أكثر توترًا وعمقًا فى لحظات صراع الأميرة مع ذاتها. لم تكن الموسيقى مجرد خلفية، بل كانت بمثابة صوت خفى لمشاعر الشخصيات، خاصة فى المشاهد الصامتة.
أما الإضاءة، فقد استخدمت بذكاء لترسيم حدود العوالم المختلفة — ما بين الواقع والخيال، الداخل والخارج، الكبت والرغبة. الضوء كان أحيانًا نافذة، وأحيانًا قفصًا. وقد ساعدت هذه التدرجات على إبراز التحولات النفسية، خصوصًا فى لحظات المواجهة بين الأميرة والقائد، أو فى لحظات التردد والانطلاق التى رافقت ظهور شخصية دنيا.
الديكور جاء بسيطًا وتجريديًا، لكنه محمّل بالدلالات: القفص، الكرسى الملكى، المرايا - كلها عناصر ساهمت فى خلق فضاء رمزى يُحاكى لا مكانًا محددًا بل داخل النفس البشرية. لم يكن الهدف محاكاة الواقع، بل صناعة مناخ داخلى، أشبه بحلم أو كابوس. وهذا ما جعل المتلقى يتعامل مع المسرح كمجال نفسى مفتوح، لا كمجرد خشبة عرض.
رغم بساطة تصميم الأزياء فى العرض، فإنها جاءت محمّلة بدلالات بصرية واضحة، ساعدت فى تعميق فهمنا للشخصيات ومكانتها النفسية والاجتماعية. فالأميرة ظهرت بفستان أبيض، يرمز تقليديًا للنقاء والمكانة الملكية، لكنه بدا باهتًا، وكأنه فقد بريقه - تمامًا كما فقدت الأميرة ثقتها فى ذاتها وموقعها داخل المملكة. هذا الاختيار الذكى فى اللون والخامة يعكس التناقض بين ما يُفترض أن تكون عليه وما آلت إليه، ويؤكد فقدانها لهيبتها ودورها كامرأة/أميرة تعيش صراعًا داخليًا عميقًا.
أما شخصية الوصيفة، التى أدّتها دنيا المنياوى، فاختيرت لها ألوان مبهجة ومفعمة بالحياة، وكأنها انعكاس لروح الطفولة والحرية واللعب. ملابسها لم تكن فقط تعبيرًا عن طبيعتها المرحة، بل أيضًا عن كونها الوجه الآخر للأميرة - ذلك الجزء الدفين بداخلها الذى لم يُطفأ بعد.
فى المقابل، ارتدى القائد القاتل بدلة بلون أزرق داكن، لون يرتبط غالبًا بالسلطة والعقلانية، لكن هنا، مع حدة نظراته وصرامة حضوره، بدا الأزرق كعلامة على الغموض والبرود وربما الكبت. البدلة العسكرية منحت شخصيته قوة خارجية، لكنها فى ذات الوقت كشفت عن انفصال داخلى عن المشاعر، وعن تورطه فى جريمة لا يظهر ندمًا واضحًا عليها.
بهذه التوليفة الذكية، لعبت الملابس دورًا مهمًا فى سرد القصة بصريًا، وربطت بين الحالة النفسية لكل شخصية والرموز التى تحملها، دون مبالغة أو استعراض.
جاء توحيد كل هذه العناصر البصرية والسمعية والحركية تحت رؤية إخراجية واعية ومتماسكة بقيادة المخرجة نادين خالد، التى لم تكتفِ بالإخراج فقط، بل قامت أيضًا بالدراماتورج وتصميم التعبير الحركي. هذا التعدد فى الأدوار لم يؤدِّ إلى تشتت، بل على العكس، منح العرض تماسكًا داخليًا ووضوحًا فى الرؤية الفنية. نجحت نادين فى نسج لوحة مسرحية متكاملة، تُجيد التوازن بين الرمزية والجمال، بين الشعر والحركة، وبين التجريب والصدق الإنساني.
خرجتُ من العرض وأنا أحمل فى داخلى صدى كثير من الأسئلة، وكأن الطائر الأزرق الذى ظل حبيسًا فى قلب الأميرة، قد بدأ يحوم فى فضاء المتفرج أيضًا. هذه المسرحية لم تكن فقط تجربة فنية، بل رحلة داخل الذات، مواجهة بين الإنسان وما يخفيه عن نفسه. كل عنصر — من الأداء التمثيلى، إلى الموسيقى والملابس والإضاءة — كان يُسهم فى بناء هذه الرحلة بصدق ووعي.
وقد نجحت المخرجة نادين خالد فى خلق حالة مسرحية شديدة الخصوصية، تحترم النصوص الأصلية، لكنها تعيد توظيفها بلغة معاصرة حية، تُخاطب مشاعرنا وهواجسنا. وبين انتظار الأميرة، وصمت القاتل، وضحكة الوصيفة - أو الطفلة - يُصبح المسرح مساحة للاعتراف، للتطهر، وربما للبدء من جديد.


منال مهنا