إنّ سؤال الجدوى، سؤال الهدف، سؤال القيمة، يظل يطرح دائمًا كلما تم تقديم عرض مسرحى جديد للأطفال، فما الذى يضيفه أى عرض جديد إلى وعى الصغار وجماليّاتهم؟ أمام طغيان الوسائل التى تملأ وقت الطفل بالكثير من الإبهار البصرى والمعلومات والقيم فعلى اعتبار أنّ المسرح ليس وسيلة تسلية وحسب، بل فضاء لصياغة الوعى، وتنمية الحسّ النقدى، وترسيخ القيم الإنسانية عبر اللغة الفنّية فإنّ المنافسة قد تكون على أشدّها وقد يكون على فنان هذا الزمن أن يفكّر ألف مرة قبل أن يقدّم للأطفال عرضًا جديدًا، هذا بالطبع إذا كفر هذا الفنان بطريقة التفكير التى ترى فى مسرح الطفل درجة أقل من مسرح الكبار، وأنّ الطفل من الممكن أن يتم تقديم «العَلَف الفنى» ليبتلعه دون مضغ. فى الوقت نفسه قد يخاطر هذا السؤال الكبير فى أن يكون ميّتًا غير قابل للحياة، أو بترقيق العبارة مستهلكًا، إذ بعد قرون من حضور المسرح فى حياة الإنسان ومشاركته واستيعابه لشتى تحولاته الأكثر راديكالية وصعوبة، أو جمالًا ورهافة لا يبدو أن سؤال الجدوى والقيمة يبقى صلبًا، إذ يبقى الأطفال يذهبون إلى المسرح وتبقى عائلاتهم ترافقهم فى هذه اللحظات التى تصنع ذاكرتهم وذائقتهم وتجعلهم (على خلاف كل الفنون الأخرى) فى لقاء مباشر مع لحظة الخلق الإبداعى.فى عرض «العالم الجميل» تأليف مازن إلياس فارح وإخراج ياسين تونسى (إنتاج مسرح سوق أهراس، قُدم العرض الشرفى فى مسرح قسنطينة) نحن أمام سؤال الجمال، كيف يمكن للجمال أن يصنع عالمنا، وكيف يمكن للقبح أن يفسده أو يحاول، صراع وجودى بين قيمة الجمال وقيمة القبح، بين الموسيقى الهادئة والضجيج الصاخب، وكيف لهاتين القيمتين أن تحملا دلالات أعمق تمسُّ قِيَم الخير والشر، والسلام والحرب. وكيف يتحول العالم الذى تغمره الموسيقى بجمالياتها إعلانا عن إنسانية الإنسان نفسه واختفاؤها أو تقليص مساحاتها أمام أشكال الفوضى والصخب والعنف السمعى محاولة لتقليص تلك الإنسانية أو إعدامها.إنّ «مدينة الجوق الخالى» لا تكتفى بتمثيل القبح، بل تُجسّد ثقافة الاستهلاك السريع، حيث تُطحن الأصوات فى خلاط عشوائى ليُنتج ضجيجًا يميت الإحساس ويُغيّب الروح. أمّا «صولفاج»، بجوقتها المتناغمة، فتقدّم نموذجًا للحياة المتوازنة التى تحترم الإيقاع الداخلى للكائنات. هذا الصراع يُعلّم الطفل أن الجمال فعل مقاوم، وأنّ الخيار بين الموسيقى والضجيج هو خيار بين حضارة تحترم الإنسان، وأخرى تسحقه تحت وطأة العشوائيّة. هنا، يصبح الفنّ سلاحا لمواجهة الهمجيّة، والموسيقى لغةً للسلام تُقاوم إغراءات الحرب.بهذا المعنى فإنّ الموسيقى تحتلّ قلبَ العرض ولا يمكن أن يكون إلا بها، إنه لا يكتفى باستخدام الموسيقى كخلفيّة عاطفيّة، بل يجعلها محور الصراع الرئيسى بين المدينتين، بين العالمين، هنا، تتحوّل الموسيقى إلى لغةٍ عالميّة تفوق الحوار فى تعبيرها عن الإنسانيّة، فالإيقاعات المتناغمة ليست مجرّد أصوات، بل تمثيلٌ للجمال الذى يُنظّم الحياة ويُضفى عليها معنى. فى المقابل، يصبح الصخب تعبيرًا عن الفوضى والعدوانيّة، وكأنّ العرض يُرسّخ فكرة أن انهيار الجمال الفنّى هو انهيارٌ للقيم الإنسانيّة ذاتها. وأن الإنسان الجمالى هو إنسان القيم كلها، وكما ينبغى تشجيع قيمة الجمال فى الحياة فإنّ قيم الخير والحق، القيم المطلقة كما تعلمنا أدبيات الفلسفة، لا شكّ ستجتمع عنده معا، لأنّ هذا يؤدى إلى ذاك. هذا الانزياح الذكى من الصراع الفنّى إلى الصراع الأخلاقى يجعل الرسالة أكثر عمقا، فالجمال ليس زينة خارجية، بل نظامٌ أخلاقى يُقاوم التمزّق والهمجيّة وربما هذا ما أكده العرض عندما جعل أحد أبطاله يبدع معزوفة يسميها «السلام».يمكن أن يطرح العرض العديد من الأسئلة، لكن دون أن يصادر حق صنّاع العرض فى الاختيارات الجمالية التى يرونها مناسبة، منها أنّ العرض أداه الكبار، والكبار فقط، وكان من الممكن جدا إفساح المجال لبعض الأطفال ليجسدوا الأدوار المناسبة لهم مع الكبار، صحيح أننا نصادف كلاما كثيرا حول هذا، وأنّ هذا شكل أو نوع من أنواع مسرح الطفل يقوم به الكبار للصغار لكن، ما أجمل إفساح المجال لطاقة الطفل أن تبدع على الخشبة أمام أقرانه. ومنها أن الأغنيتين المستخدمتين فى العرض كانتا خافتتى الكلمات والصوت ولم تصلا إلى جمهور (الصغار ولا الكبار الذين يرافقونهم) وكان من الممكن أن تكونا –لو تم التركيز على جودتهما- جزءا فى غاية الجاذبية للأطفال بحيث تصنعان حالة فرجوية فى غاية الإمتاع.لا شكّ أن استخدام الدمى فى هذا العرض يُثير تساؤلات حول مدى جدواها الفنّية. فمن جهة، تضفى هذه الدمى بُعدًا جماليا يحيّد العرض عن المألوف، ويُحوّله إلى عالم سحرى قادر على جذب انتباه الطفل عبر الحركة واللون. لكنّ التوظيف الميكانيكى لها، حيث تتحرّك بالتزامن مع الممثّلين (الذين يقومون بأدوارهم كاملة) دون أن تقدّم رؤية جديدة أو تُضيف طبقة دلاليّة، يجعلها أقرب إلى «الزوائد» التى تُثقل العرض بدلا من إغنائه. فلو كانت هذه الدمى تمثّل جانبًا من شخصيات الممثّلين، أو تعكس عالمهم الداخلى، لكان حضورها مبرّرًا. لكنّ وجود الممثّل بوصفه ممثلا لا محركا للدمية فقط مع وجود الدمية يجعل الصورة المكوّنة تفتقد إلى العمق، ويُحوّلها إلى مجرّد أداة ترفيهيّة لم تستثمر إبداعيا بما يليق بفكرة العرض الطموحة.من جماليات العرض أنه رغم التيمة الكبيرة المهمة والصعبة، فإنه لم يسقط فى فخ المباشرة من جهة ولا إثقال الطفل بخطاب أخلاقى معقد، لكنّ هذا بالضبط ما يمنح العرض قيمته. فمسرح الطفل ليس حكايات مُسطّحة لملء الفراغ، بل فرصة لزرع الأسئلة الكبرى فى عقل قادر على التلقّى. صحيحٌ أن بعض العناصر (كالماريونات) تحتاج إلى مراجعة، وصحيح أن التوازن بين الترفيه والعمق يبقى تحديا، إلا أن جرأة العرض فى تقديم الجمال كقضية وجوديّة تستحقّ الإشادة. فالأطفال الذين يشهدون صراع «صولفاج» و»الجوق الخالي» سيتعلّمون – أو يتأكد عندهم- ولو بشكل حدسى أن الفنّ ليس ترفًا بل ضرورة لأن يكون العالم جميلًا، ولقد كان جميلًا بالفعل مع هذا العرض.