«حكايات الشتا».. عرض يدفئ الروح ويبشر بمستقبل مسرحى واعد

«حكايات الشتا»..   عرض يدفئ الروح ويبشر بمستقبل مسرحى واعد

العدد 933 صدر بتاريخ 14يوليو2025

فى أمسية مسرحية من أمسيات القاهرة الصيفية الحارة وبينما العاصمة تئن تحت وطأة يوليو الملتهب كان لنا لقاء فنى مختلف على خشبة مسرح الغد المطل على نيل العجوزة بجوار مسرحى البالون والسامر. لم نذهب بحثا عن التكييف أو هربا من الحر بل لنلتحف بما هو أعمق من البرودة.. لنحتضن «حكايات الشتا».. هذا العرض الذى يقدم فى ذروة الصيف لكنه يحمل فى روحه دفء الشتاء وهدوءه ورقته العاطفية التى تخترق صخب الحر وضجيج الحياة.
«حكايات الشتا» ليس مجرد عنوان عاطفى بل مدخل حقيقى إلى عالم إنسانى رسم ملامحه الشاعر والمسرحى الكبير إبراهيم الحسينى الذى لم يكتفِ بكتابة النص بل زرع فى كل سطر فيه شيئًا من روحه وجعل من كل حكاية صدى لتأملاته فى الوجود والذاكرة والعاطفة والحلم.

إبراهيم الحسينى.. روح العرض وقلبه النابض
لا يمكن الحديث عن «حكايات الشتا» دون الوقوف طويلًا أمام النص الذى كتبه إبراهيم الحسينى. فالرجل لم يقدم مجرد سيناريو أو حوار بل منحنا فسيفساء شعرية تشبه الهمس ونسجت من تفاصيل الحياة اليومية ومكابدات النفس البشرية وقدمها فى بناء متكامل يشبه ترتيلًا مسرحيًا.
نص العرض يتنقل بين الحكايات كأنها محطات روح وينسج بينها روابط خفية قائمة على العاطفة والذاكرة والانكسار. فيه ألم جميل وحنين لا يبكينا بقدر ما يلهمنا أن نرى العالم بأعين أخرى. اختار الحسينى أن يكتب عن الإنسان المجرد من الأبطال التقليديين، فكان أن جعل من كل شخصية مرآة لقلب المشاهد.
أهمية النص لا تأتى فقط من شاعريته بل من وضوح رؤيته وعمق رسالته وسلاسته التى تجعل من كل كلمة جسرًا بين المسرح والجمهور. إبراهيم الحسينى بهذه الكتابة يبرهن مجددًا أنه ليس فقط أحد أعمدة الكتابة المسرحية فى مصر بل صاحب مشروع فكرى وجمالى واضح ويعرف كيف يخاطب وجدان المتلقى دون أن يعقد عليه الفهم أو يتنازل له عن المعنى.

هبة سامى.. نجمة العرض دون منازع
وسط هذا النص الشاعرى الملىء بالتشظى والسكينة فى آن واحد تتألق الدكتورة هبة الله سامى فى دور يجعلها لا تمثل بل تحيا. فبوجه يحمل ملامح الحنين وجسد يتكلم أكثر مما يصمت قدمت واحدة من أصدق ما شاهدت على خشبة المسرح مؤخرًا. فى مشاهدها كانت الذاكرة تسير على قدمين وكانت الكلمة تجد لحنها فى نظراتها قبل صوتها.
كل حركة وكل التفاتة كانت محسوبة بدقة لكنها بدت طبيعية كأنها تولد فى اللحظة. وهنا يظهر جليًا كيف أن النص القوى يفرز أداء قويا وكيف أن الممثلة الواعية بنصها تعيد إحياءه بلحمها ودمها. الدكتورة هبة من تلك المدرسة التى تؤمن بأن التمثيل ليس إتقانًا فنيًا فحسب بل اندماجًا وجدانيًا حقيقيًا مع الدور.

الإخراج.. محمد عشرى يقود أوركسترا الحكايات
قدم المخرج محمد عشرى عرضًا متماسكًا رغم التنوع الكبير فى المشاهد والأمزجة والقصص. استطاع أن يمسك بخيوط النص المتعددة ويحولها إلى حكاية واحدة نبيلة ذات نبض داخلى منتظم. وقد أظهر احتراما واضحا للنص الأصلى ولم يطغَ عليه بل احتضنه ومنحه أبعادًا بصرية وجمالية جديدة.
اعتمد عشرى على توزيع الممثلين بين الجمهور مما ألغى الحاجز بين «العرض» و«المشاهدة»، وهو اختيار ذكى انسجم مع فلسفة النص الإنسانية التى تضع المشاهد فى موضع المتأمل لا المراقب.

الديكور.. أحمد الألفى يرسم دفء الشتاء بأدوات بسيطة
استكمل أحمد الألفى رسائل النص والإخراج بتكوين بصرى يشى بالبساطة والدفء. اعتمد على خامات مثل الخشب والإضاءة الخافتة ليخلق جوًا شتويًا فى قلب الصيف، وهى مفارقة ذكية عززت من الطابع الرمزى للنص. كان الديكور جزءًا من الحكاية لا خلفية لها. فكل قطعة أثاث بدت كأنها شخصية سابقة رحلت وتركت أثرها وكل جدار بدا كأنه يتنفس ذاكرة ما.

الإضاءة.. لغة مستقلة تعبر أكثر مما تنير
الإضاءة كانت شريكة وفية للنص فقد قامت بدور المترجم بين الحالة النفسية للنص والمشهد البصرى. كانت هادئة حينًا وحادة حينًا آخر وأحيانًا تشبه خفقة قلب مضطرب. وهو ما يتماشى تمامًا مع روح الكتابة التى قدمها الحسينى أى نص لا يصرخ فيه بل يهمس.

الموسيقى والغناء.. توقيع شعرى ونغمى لروح العرض
ما كتب الحسينى بالكلمات أكمله رجب الشاذلى بالألحان وياسمين رجب بالصوت. الموسيقى بدت كمكمل طبيعى للنص لا تضادًا له بل امتدادًا شعوريًا. أغنيات العرض جاءت خفيفة حالمة تلامس شجنًا دفينًا فى النفس. وقد بدا واضحًا أن الأغانى لم تدرج لمجرد التزيين بل كوسيط سردى شعرى متكامل مع النص يعلو به دون أن يطغى عليه.

الرقصات والتعبير الحركى.. حركة لها معنى
اختيارات المخرج فى التعبير الحركى انسجمت تماما مع النص. لم يكن هناك رقص استعراضى بل تعبيرات جسدية توحى بالكثير بصمتها خاصة أداء راقصة الباليه الصغيرة التى حملت فى خطواتها خفة حزينة تكاد تقول ما تعجز عنه الكلمات.

طاقم تمثيلى شبابى يبشر بمسرح المستقبل
بجانب الدكتورة هبة الله سامى أبدع كل من عبير الطوخى ومصطفى سليمان ومايا عصام وتامر بدران وفرح داود. جميعهم التقطوا روح النص بإحساس عالٍ وأظهروا احترامًا كبيرًا للكلمة وانضباطًا واضحًا فى الأداء. هذا فريق مبشر يستطيع أن يحمل على عاتقه عبء التجديد والتجريب إذا ما استمر تحت مظلة نصوص مثل التى يكتبها الحسينى.

خالد جلال.. حاضر فى الخلفية بقوة التأثير
حضور خالد جلال رئيس قطاع الإنتاج الثقافى واضح رغم عدم ظهوره على الخشبة. حضوره موجود فى جرأة الرؤية وثقته بالشباب وحرصه على منح مساحة لنصوص حقيقية مثل نص إبراهيم الحسينى الذى ما كان ليظهر بهذا الوضوح لولا مناخ مؤمن بالكلمة الصادقة.

كلمة أخيرة.. دفء فى عز الحر
حضرت هذا العرض برفقة زوجتى وخرجنا ونحن نحمل فى قلوبنا شيئا يشبه الدفء ليس دفء المكان بل دفء المعنى. «حكايات الشتا» ليست مسرحية فقط بل تجربة وجودية صغيرة تذكرك بأن الفن حين يكتب بصدق كما كتب إبراهيم الحسينى ويؤدى بإيمان يصبح وسيلة للبقاء وللتطهر وللحنين.. وربما للشفاء.
أنصح الجميع بمشاهدته لا لمجرد الترفيه بل لتجربة حالة فنية صافية تعيدنا إلى إنسانيتنا.


محمود كامل