يمين فى أول شمال.. حين تُعرض هموم الناس العاديين ببساطة مُربكة

يمين فى أول شمال..   حين تُعرض هموم الناس العاديين ببساطة مُربكة

العدد 933 صدر بتاريخ 14يوليو2025

يعرض حاليًا على قاعة يوسف إدريس بمسرح السلام العرض المسرحى “يمين فى أول شمال”، وهو عمل يُوحى من عنوانه وشكل دعايته بأنه عرض كوميدى خفيف الظل، يُناسب أجواء الإجازة الصيفية وما يلى ضغوط الامتحانات من رغبة فى الترفيه. وهو كذلك بالفعل، لكن خلف هذه الخفة تكمن دراما شديدة العمق والصدق، تتعلق بتفاصيل حياة الناس العاديين الذين نمر بهم يوميًا دون أن نلتفت كثيرًا.
العرض يدور حول ثلاث شخصيات تنتمى إلى الطبقة الوسطى الدنيا: موظف حكومى يعمل قاطع تذاكر فى مترو الأنفاق، وزوجته ربة المنزل المُولعة بالفنون الأدائية، وممثل مغمور لم تفلح موهبته حتى الآن فى فتح أبواب المجد. أما الشخصية الرابعة فهى عامل دليفرى يمر فى الخلفية بين الحين والآخر، كأنما يذكّرنا بوطأة الحياة اليومية وضغطها المستمر.

ديكور واقعي.. وصدق فى التفاصيل
من اللحظة الأولى، يضعنا الديكور”باسم وديع” فى قلب عالم هؤلاء الناس. تفاصيل المكان مألوفة، واقعية حتى فى إهمالها، وتكاد تُشبه منازلنا أو منازل أصدقائنا أو أقاربنا: طلاء باهت، ورق حائط تقشّر من بعض الزوايا، ثلاجة فارغة، غلاية ماء معطلة يبدو أنها تركت فوق الثلاجة منذ سنوات الصور العائلية على الجدران، وصورة زفاف بالأبيض والأسود. البيت لا يضم أطفالًا، رغم مرور خمس سنوات على الزواج، ما يضيف بُعدًا إنسانيًا شفيفًا إلى القصة.
هذا البيت ليس مجرد مكان، بل هو انعكاس بصرى لداخل الشخصيات، لعطب الزمن، ولحالة الثبات التى تُخفى تحتها صراعًا داخليًا كبيرًا.

عندما تتحول العادية إلى دراما:
فى عالم الدراما الكلاسيكية، نتتبع عادة مصائر استثنائية لأشخاص استثنائيين: أوديب، هاملت، ماكبث.. ملوك وأمراء تصفعهم الأقدار. لكن العرض “يمين فى أول شمال” ينتمى إلى تيار مختلف تمامًا، أقرب إلى عالم تشيخوف أو أفلام نجيب الريحاني: تيار يصنع دراما من حياة الناس العاديين، من مآسيهم الصغيرة، وأحلامهم المتواضعة، وخيباتهم اليومية. يصنع منهم مؤلف العرض محمود جمال حدينى دراما تحاول الدخول لتفاصيل حياتهم اليومية وأحلامهم المربكة.
هؤلاء الأشخاص الذين نشاهدهم على الخشبة، نعرفهم جيدًا، وربما يكونوا نحن. هم ليسوا أبطالًا ولا يحملون صفات خارقة. بل على العكس، يبدون غالبًا بلا ملامح مميزة، بلا مشكلات كبرى درامية من تلك التى تُحرّك الحبكات عادة. ومع ذلك، فإن كل ما فى حياتهم قابل لأن يُشكّل مسرحًا، لأن يُصاغ بدراما صادقة تُشبهنا.

بين الهزل والجدّ.. الصنعة تظهر:
يعتمد العرض على توليفة دقيقة بين الكوميديا والمرارة. هناك سخرية ناعمة تسرى فى الحوار والأداء، لكنها لا تخفى الألم الكامن فى الحياة اليومية. فالزوجة تستعد فى صباح اليوم التالى لإجراء عملية جراحية فى القلب، مكلفة وخطيرة. والزوج يُعانى من شعور عارم بالعجز، لا يملك لا الحيلة ولا القدرة على التعبير ولا حتى الحضور، ويبدو كأن العالم قرر تجاهله منذ زمن.
الممثل الثالث فى الحكاية، هو موهبة حقيقية، لكن الزمن ليس زمنه. يقولون له فى العرض: “لو كنت اتولدت فى زمن أحمد مظهر أو شكرى سرحان، كنت بقيت نجم”. عبارة تختصر الكثير مما يشعر به جيل كامل من الحالمين الذين يشعرون أن الزمن قد خانهم، وأنهم جُبلوا على الحلم فى زمن خالٍ من الأبواب المفتوحة.
جاءوا بعد التشطيب وبعد أن أستكفى المكان وفاض.

لا خلاص... فقط التعايش:
لا يُقدّم العرض حلًا لمشكلات أبطاله. ولا يحاول خداعنا بنهايات وردية. فالزوجة ستُجرى العملية لكنها ستبقى مريضة، والزوج سيظل على حاله، عاجزًا عن التعبير، والممثل لن يحقق نجوميته حتى فى مقاطع “ريلز” على وسائل التواصل. الأزمات لا تُحل، بل تُعاش. وبدلًا من أن تنتظر الحل، تتعلم الشخصيات كيف تتعايش مع الألم، كيف تحتمله، وربما -بشيء من الفُكاهة- كيف تضحك عليه.
ذلك هو الحل المصرى الخالص: “التناحة فى وجه الهم”، أن تواجه العالم بوجه بارد، ساخر، لا يعترف بالانكسار.

التمثيل.. روح العرض
 حين يكون المخرج  عبد الله صابر أساس موهبته التمثيل تأتى اختياراته للنصوص التى تشبع الممثل تمثيلاً. خاصة وأنه يمثل فى العرض. فمثلا علة الزوجة هى متابعة الداراما ومحاولة التمثيل وإعادة تجسيد المشاهد وعمل الممثل هو بالطبع التمثيل إذن شخصيتان ستملآن الفضاء تمثيلا، فهما فى الأساس  حجة لإعادة تمثيل مشاهد من افلام ومسلسلات قديمة وجديدة وهذا يرضى الممثلين جدآ.
 أما أداء الممثلين كان منضبطًا، نابضًا، صادقًا. لم يعتمد أحد منهم على المبالغة أو التهويل. بل جرى الالتزام بروح “التقليل” التى تناسب موضوع العمل. الحوارات قريبة من لغة الناس، والأداء مستند إلى فهم عميق للشخصيات. الممثل إيهاب محفوظ الذى جسّد دور الزوج،  قدم نموذجًا مثيرًا للشفقة والتعاطف فى آنٍ معًا، حتى أن ملامحه يشبه كثيرا من المصريين بينما كانت الزوجة أمنية حسن ذات حضورً لافتً بين الألم والمرح.  وتم استغلال مواهبها فى الغناء لوضع لمساتها بصوتها المدرب جيداً. أما الممثل  عبدالله صابر، فاستطاع أن يجذب الانتباه بشخصية “الحالم المحبط” دون أن يتحوّل إلى كاريكاتير.

إخراج محكم.. وبساطة خادعة:
 اعتمد المخرج على البساطة الشديدة، تخفى ما تحتها من عمق. لا توجد مؤثرات صاخبة، ولا ديكورات متغيرة، بل اعتمد المخرج على إيقاع داخلي، وتدرج شعوري، وتمكن من خلق انسجام حقيقى بين الممثلين. استغلال المساحة كان ذكيًا، رغم محدودية المكان. والإضاءة لأحمد طارق، رغم اقتصادها، كانت فعالة فى إبراز الحالات النفسية وتحوّلات الزمن داخل النص.

ما الذى يجعل هذا العرض مهمًا؟
لأنه لا يصرخ. لأنه لا يُحاول أن يُبهر أو يُفاجئ. لأنه ببساطة يُشبهنا، يُشبه معاناتنا، ويُقدمها من دون استعلاء أو شفقة. ولأنه يجرؤ على أن يقول إن الحياة ليست مسلسلًا من الحلول السحرية، بل أحيانًا مجرد قدرة على الاحتمال.. أو الضحك وسط الحطام.


نسرين نور