«انقطاعات الموت».. حيرة الإنسانية بين الوجود والعدم

«انقطاعات الموت»..    حيرة الإنسانية بين الوجود والعدم

العدد 934 صدر بتاريخ 21يوليو2025

ليس هناك ما هو أشد رعبًا من تبدل حظ الإنسان الطامح الى الخلود حتى بالذكرى، فكل ابن آدم حياته إلى انتهاء، ويتولى عمله الصالح تحديد مصيره فى الآخرة إما خالدًا فى النعيم أو فى الجحيم يدوم. ويعلم الإنسان تمام العلم أن الحياة الدنيا دار ممر لا دار مقر، ويتمنى دائمًا أن يطول به الممر ويعيش من السنين الكثير والكثير فهل فى هذا العيش خيرًا له أو شرًا يخشاه؟ وماذا سيحدث إذا رد الإنسان إلى أرذل العمر هل سيحيا هنيئًا أم سيشقى مريرًا؟ أسئلة كثيرة تدور فى الأفق بمجرد طرح فكرة الحياة والموت، وتتجلى الأسئلة وتزداد عند مشاهدة العرض المسرحى انقطاعات الموت لفرقة أسيوط القومية عن رواية أرض لا تعرف الموت، والتى قدمت فى افتتاح مهرجان إقليم وسط الصعيد مايو 2025 والتى تدور أحداثها فى بلدة ما وزمن ما لا يزورها الموت فأصيبت الحياة فى هذه البلدة بالخلل والارتباك وكحال الإنسان فى كل زمان ومكان انقسم البشر فى هذه البلدة بين موافق ومبارك هذه التجربة أن لا موت فيها وبين رافض لفكرة الخلود العبثى فى حياة دنيا لا حياة فيها ودائمًا ما حركت الرغبات والمصالح الشخصية وجهة الناس فى الموافقة والرفض، فهؤلاء الحانوتية قد انقطع مصدر رزقهم تمامًا وفقدوا وظائفهم فيرفضون بطبيعة الحال توقف الموت فى بلدتهم وهؤلاء عشاق ومرضى ابتعد عنهم ملك الموت فهمو من المناصرين للحياة ويستمر الصراع هنا وهناك فى طرح الرؤى التى تحقق المنفعة حتى بزغ من الأفق البعيد أحد أثرياء الحروب والأزمات (إن صح التعبير) ذاك الرجل الذى كان دائمًا يهتك ستر الموتى وينبش قبورهم ليبيع الجثث قرر أن يتربح أيما تربح من هذا الموقف الاستثنائى فكون منظمة لتسهيل الموت وتسهيل الحياة فإن أردت أن تحيا أدفع وإن أردت الحياة ادفع فتعاون مع القصر الملكى وعين رئيسًا لوزرائه، وهو الذى يحلم باعتلاء كرسى الحكم فاقترب منه أكثر من أى شخص آخر.
طرح المخرج أحمد ثابت الشريف سؤالًا فلسفًيا شائكًا: هل يريد الإنسان أن يموت إلى الأبد أو يحيا إلى الأبد؟! إن الإنسان بطبيعة الحال روح وجسد، أما الجسد فهو الوعاء الذى يحفظ الروح ويحميها فإذا اهترء الجسد أو فقد قدرته على احتواء الروح كان مصير الانسان الموت فى الحياة الدنيا وتصعد الروح إلى بارئها ويتساوى فى هذا أن يكون الجسد طفلًا أو كهلًا فهى أقدار حددها الله سلفًا فإذا ما بلى الجسد تركته الروح وإلا بقى الإنسان فى شقاء فعد من الأحياء الموتى الذين لا وجود لهم ولا ذكرى. ولتحقيق الرؤية قسم المسرح إلى قطاعات مقطوعة من المنظر الأساسى المتحول فهو مقابر تسيطر على فراغ خشبة المسرح ويتحول الى حوائط القصر الملكى بثرائه، أما أهل البلدة المعذبون بين الوجود والعدم فقد اقتطع المخرج يمين المسرح لفئة تعانى من عذاب الأب العجوز والابن الرضيع، فكلاهما بلى جسدهما وحبست ارواحهما داخله ايذانا بالتحرر من أسر الجسد ولكن لأن الموت فقد وظيفته ولأن الساعة مصمتة لا حراك لها ظل الجسد يتألم بحمله روحًا تتعذب من أسر الجسد المنهك، وبينما الأحياء يتعذبون من واقع الموتى ذويهم حتى يقطع المخرج على يسار خشبة المسرح لكهل آخر ينتظر الدفن وأبناؤه رافضين من الأساس وجوده حتى ينعموا بثروته فبين من يتمنى الموت لذويه إراحة له وبين من يتمنى الموت لذويه ليرتاح منه تعذب القلب ودمى واستمر المخرج فى تقسم فراغ خشبة المسرح لاستغلال كل جزء فيها طرحًا لفكرته الفلسفية حتى ارتقاء نابش القبور(مافيوزو) عرش المملكة ضمنًا وتلميحًا.
استطاع(هانى محمد) تكوين رؤية تشكيلية داعمة للفكرة العامة للعرض ونجح فى وصف المكان وتحييد الزمان واظهار الفارق بين ثراء القصر وفقر المنازل والقبور حتى الساحة الظاهرة فى بداية الأحداث بدت خاوية لخواء الفكر والرؤية فى تلك البلدة البعيدة/القريبة. ونجح(مايكل يعقوب) فى إكمال الرؤية التشكيلية والدرامية للديكور فخلق عمقًا موحشًا فى المقابر لأعلى المسرح ولعمق الخشبة فبدت المقابر أكثر رعبًا من حقيقتها وأنار القصر بزهو النبلاء وقسم بيوت الفقراء ببؤر ضاغطة قاهرة للوضع والحال.
زاوج عبدالمنعم عباس موسيقاه الذاتية بسيمفونية بيتهوفن الخالدة فى نهاية الاحداث فبدت انقطاعات الموت عالمية الطرح والدلالة واقتربت من وضع الانسان بالمعنى المجرد كانسان وساهمت استعراضات اسلام مصطفى فى اضافة بهجة تشكيلية للعرض والتخفيف من سوداوية الرؤية والطرح ونحجت فى موازنه التعبير الحركى لسيمفونية بيتهوفن فى التحذير من اعتلاء متربحى الازمات للأجساد وفى هذا خطر لا مرد له.
وكحال أغلب عروض مسرح الثقافة الجماهيرية تباينت المواهب التمثيلية وساهمت الخبرة المتراكمة فى تأكيد الرؤية والطرح وامتاز الممثلون بالاجتهاد فى اداء الادوار صوتا وتعبيرا وان امتاز(د جوزيف رفعت/مستر شارب) برجاحة صوته وانفعالاته المحسوبة ووسلامة اللغة واجتهد(مصطفى إبراهيم/مستر وولف) فى إظهار مكر التابع ودهائه وبدا(إسلام عبدالعواض/مافيوزو) واثقًا فى ذاته وأدواته، وهذا لا ينفى بطبيعة الحال إجادة باقى أعضاء الفريق فى حدود المساحات والخبرات المتاحة.
انقطاعات الموت لفرقة أسيوط القومية عن أرض لا تعلاف الموت لجوزيه سارماجو دراماتورج وأشعار محمد دسوقى قبيصى – ديكور وملابس هانى محمد – موسيقى وألحان عبدالمنعم عباس – استعراضات إسلام مصطفى زيان – تصميم إضاءة مايكل يعقوب - دراماتورج وإخراج أحمد ثابت الشريف
 تمثيل( تسنيم أشرف/الموت والندابة والزوجه الثرية – ضحى خالد/المذيعة – اسراء محمد/فتاة الباتيناج – لؤى أمين/متظاهر مريض سكر – نيرمين علاء/مدام وفيات والندابة – نادية صلاح/متظاهرة – ابراهيم مرزوق/المتظاهر العاشق – روضة رضا/المتظاهرة العاشقة – اسلام عبدالعواض/مافيوزو – اسماعيل أحمد/موظف التأمين والطبيب – د جوزيف رفعت/مستر شارب – مصطفى ابراهيم/مستر وولف – مصطفى أحمد/سكرتير مستر شارب – هانى عادل/الكاردينال – عبدالعظيم أيمن/الحانوتى والزوج الثرى – عماد حمدى/الحانوتى والجد – جمعة محمد/الحانوتى والاخ الاصغر – كيرلس عاطف/الحانوتى – آية على/الندابة الكبرى – معتز أحمد/حانوتى – هبة هلال/إيفيلين – ماجد نظمى/الزوج – دميانة سمير/الزوجه – هانى صالح/الاخ الأكبر – محمد عزب/الاخ الأوسط – صابر سيد/العجوز – يامن أحمد/الطفل ماثيو – مريم شحاتة/الأمير كاترينا – عمر محمد/متظاهر) توزيع موسيقى/د رأفا موريس – غناء حسام حسنى – نجلاء فتحى – تنفيذ موسيقى/نيفين رستم – ساعد فى الإخراج/وفاء ممدوح – مساعدا الإخراج/عمرو أحمد – ابراهيم محمد – المخرج المنفذ عبدالله حامد.
إن حيرة الإنسانية بين الوجود فى حياة نألفها أو العدم فى حياة نأنفها هى إشكالية شديدة الوطأة وتحتاج إلى تطهير يليق باللحظة.
انقطاعات الموت إخراج أحمد ثابت الشريف


محمد النجار

mae_nagar@yahoo.com‏