العدد 946 صدر بتاريخ 13أكتوبر2025
تأليف: مايو سايمون - ترجمة: الشيماء على الدين، من إحدى إصدارات مهرجان القاهرة الدولى للمسرح التجريبى، الدورة الثانية والثلاثين لعام 2025.
يشكّل كتاب «الجمهور والكاتب المسرحى» نصًا فريدًا فى المكتبة المسرحية؛ لأنه لا يكتفى بمناقشة تقنيات الكتابة أو نظريات التلقى، بل يتجاوز ذلك إلى وضع المتلقى فى قلب العملية المسرحية. فالكاتب مايو سايمون ينطلق من تجربة طويلة فى المسرح والسينما والتلفزيون ليطرح سؤالًا محوريًا: كيف يمكن للكاتب المسرحى أن يجعل من الجمهور شريكًا حيًا فى صناعة المعنى؟
المترجمة الشيماء على الدين تفتتح النص بمقدمة نقدية مهمة، تؤكد أن هذا الكتاب ليس تنظيرًا جامدًا، بل هو سفر درامى حى، ينبض بالتجربة والممارسة، ويعيد صياغة المعادلة المسرحية بحيث لا يكون النص مكتفيًا بذاته، ولا العرض منفصلًا عن جمهوره. وهنا تبرز إحدى أهم إضافات الكتاب للسياق العربى: التنبيه إلى خطورة الكتابة المسرحية المعزولة عن وعى المتلقى، والدعوة إلى استحضار حساسية درامية جديدة تجعل الكاتب قادرًا على التواصل الحى مع الجمهور دون أن يسقط فى الابتذال أو الشعبوية.
الاطروحات المركزية فى الكتاب فى جوهره، يقدّم مايو سايمون أطروحة واضحة وهي: الجمهور ليس مجرد مستقبل سلبى للمادة المسرحية، بل هو شريك فاعل فى توليد المعنى. هذه الفكرة ليست جديدة تمامًا فى دراسات التلقى، لكنها تُعيد ترتيب أولويات العمل المسرحي: النص لا ينهى مهمته عند طبع الصفحات، والكتابة ليست تمرينًا انغلاقيًا، بل حوار يحتّم على الكاتب أن يكتب “لجمهور حي “ - جمهور يحمل ذاكرة، توقعات، مخاوف، وأحلامًا. لذلك يحوّل سايمون عناصر البناء الدرامى (البداية، المنتصف، النهايات، الفواصل) إلى أدوات اتصال: كل فصل من الكتاب يشرح كيف تجعل هذه الأدوات الجمهور “يؤدى دوره” بدلًا من أن يبقى مُشاهِدًا هامدًا.
لماذا تذهب إلى المسرح؟: يبدأ الكتاب بمساءلة بسيطة لكنها جوهرية: لماذا نذهب؟ يختلف الناس فى إجاباتهم - تسلية، هروب، واجب اجتماعى - لكن سايمون يقترح جوابًا مركبًا: نذهب لأن المسرح يتيح لنا رؤية مُكثفة للإنسانية. فى المسرح نمتلك “موقعًا مميزًا” يسمح لنا برؤية اللمحات التى لا ترى داخل الحياة اليومية؛ نحن، من مقاعدنا، نفهم أحيانًا أكثر من الشخصيات نفسها. هذه المفارقة تولّد نوعًا من “السلطة الأخلاقية” لدى الجمهور: نحن نضحك أو نبكى؛ لأننا رأينا ما لم تره الشخصيات، لأن الكاتب - عبر البنية والإيقاع - صاغ عالمًا مكشوفًا أمام متلقيه. يتابع سايمون أن المتعة المسرحية تنبع من الفهم: لا نضحك لمجرد الضحك، ولا نتمتع إلا عندما تتقاطع المتعة مع اكتشاف معنى، لذلك يطالب الكاتب بأن يكتب لوعى الجمهور لا لمجرد تسجيل حدثٍ مسرحى.
“مولد الجمهور”: هذاه النقطة يؤسس سايمون لفكرة أن الجمهور “يولد” لحظة دخوله القاعة. سايمون يصف المشهد الأولي: الخليط البشرى المتنوّع الذى يتحوّل بسرعة إلى كتلة متفاعلة بمجرد بدء العرض، ما يُهم الكاتب هنا، كما يوضح، هو أن الجمهور لا يدخل فراغًا؛ حامِلًا معه ذاكرته (ما رآه سابقًا)، وتوقعاته، ومعتقداته الثقافية والاجتماعية، لذلك تعتمد خطوات الكاتب المبكرة على تقديم “مداخل” تتيح للجمهور التعاطف أو المعارضة أو المتابعة الذهنية. من زاوية عملية، يعنى هذا أن المشهد الافتتاحى ينبغى أن يوفّر معلومات تكفى لإنشاء “حزمة توقعات” لدى الجمهور: ما نوع المسرحية؟ ما النبرة؟ من هم الأطراف الرئيسة؟ وإلا فقد يتمّ إهمال الجمهور لجزءٍ كبير من عناصر النص.
لماذا «خشبات”؟: فى هذا المرتكز يمتد تفكير سايمون ليشمل فضاء العرض نفسه. يبيّن أن الخشبة ليست سطحًا محايدًا؛ شكلها التاريخى والعمارى يحدّد إمكانيات التلقى. مقاربة المؤلف لا تُعنى بالتفاصيل التقنية فحسب وإنما بالصياغة الرمزية للفضاء؛ المسرح الإليزابيثى يمنح نوعًا من القرب والمحادثة بين الممثل والجمهور، بينما الخشبات المغلقة والمسرحيات السينمائية تعيد تشكيل توقعات المتلقى. لهذه النقطة أثر عملى واضح: الكتابة على “ورقة” يجب أن تراعى أين ستُعرض - قاعة تقليدية أم مسرح بديل أم شارع أم فضاء افتراضى؟ يذكّر سايمون بأن الكاتب الذكى يكتب نصًا قابلًا للتمدد عبر فضاءات متعددة، أو على الأقل يعى خصائص المكان لأنه جزء من لغة العرض.
“البدايات”: فى هذه النقطة ضع سايمون قاعدة عملية: البداية ليست تمهيدًا، بل عقد بين الكاتب والجمهور. المشهد الأول يجب أن يعمل كـ”مفتاح” يعطى الجمهور معلومات أساسية ويثير أسئلة يحاولون الإجابة عنها باهتمام. يشرح المؤلف أن البدايات يمكن أن تكون صاخبة أو هادئة، لكنها دائمًا مشحونة بالمعنى. يعطى أمثلة متباينة - من الصدمة الفورية فى “هاملت” إلى السكون المحفّز فى “فى انتظار غودو” - ويُبيّن أن نجاح البداية يقاس بمدى قدرة الجمهور على الاستمرار فى أداء دوره: أن يضحك فى المكان الصحيح، أن يلتفت، أن يسعل، أن يعضّ على شفتيه. من منظور كتابة/dramaturgy، هذا يعنى أن كل سطر فى البداية يجب أن يسأل: هل هذا يجعل المتلقى يحوز دورًا؟ إذا كانت الإجابة لا، فقد تكون العبارة زائدة.
“الاستراحة الأولى”: يتعامل سايمون مع الفاصلتين كعناصر درامية وليست كوظائف تشغيلية فحسب. الاستراحة الأولى هى فرصة للمسرحية لتثبت فرضية جمهورها؛ إنها لحظة يتحول فيها النقاش الداخلى إلى نقاش جماعى فى بهو المسرح. هنا تتشكل الروايات البديلة، ويبدأ الجمهور فى صياغة توقعات لمعالجة العقدة. تنطوى هذه اللحظة على خطورة: إن انتهى الشوط الأول بفتور، فقد يغادر الجمهور نفسيًا. على الكاتب أن يخطط لبِناء فصل أول يترك الجمهور فى حالة “توقّف معنوى”ـ يستعيد فيه طاقته لكنه يعود أيضًا متلهّفًا. عمليًا: نهاية المشهد الأول يجب أن تحتفظ بكثافة عاطفية أو استثارة معرفية تدفع إلى العودة.
“المنتصف”: يضع سايمون المنتصف كمنطقة اختبار للنص — هناك يُظهر العمل قدرته على إعادة اختراع نفسيته وسير الأحداث. المنتصف هو الساحة التى تتحقق فيها وعود البداية: الكشف عن الأسرار، تبدلات التحالفات، إزاحة الأقنعة. يضمن الكاتب الذكى أن يتغيّر معيار التوقع، أى أن يجعل الجمهور يفكّر: “لم أعد أعرف ماذا سيحدث.” هذا الاحساس بعدم القدرة على التكهن يولّد تفاعلًا قويًا. يسجّل الكاتب نصائح عملية: لا تسمح للمنتصف بأن يتحوّل إلى ملل تعبيري؛ استخدم إيقاعات متغيرة، أحضِر شخصيات ثانوية محورية، أو قدّم توتّرات إيقاعية تُعيد شحن الجمهور.
«الاستراحة الثانية”: الاستراحة الثانية هى “الهدوء قبل العاصفة”؛ هى وقفة إضافية قد تصبح أكثر خطورة لأنها توضع قبل الذروة. يجادل سايمون بأن الجمهور فى هذه المرحلة أكثر انغماسًا؛ توقعاته أعلى، وأى خيبة قد تكون أكبر أثرًا. لذلك يتوجّب على النص أن يخلق “قوسًا متينًا” ما قبل الاستراحة الثانية يسمح بأن تستمر التوقعات، وإلا فسيعود الجمهور محمّلًا بخيبة قد تُبقيه بعيدًا ذهنيًا عن الخاتمة. من زاوية الإخراج، توصى النصائح بالبناء التراكمى للحظات التوتر؛ بحيث تؤدى الاستراحة إلى ارتفاع دامٍ فى الشحن العاطفى عند العودة.
“النهايات”: هذا المنطلق أهم مرتكزعمليًا عند سايمون. يخبرنا أن نهاية المسرحية - سواء أُغلقت بالكامل أم تُركت مفتوحة - هى ما سيحمله الجمهور إلى خارح القاعة. هناك مبادئ واضحة: أن تكون النهاية منطقية مع بنية العمل وإيقاعه، وأن تُحافظ أو تُقلب توقعات الجمهور بطريقة مُرضية فنيًا (لا بالضرورة متوقعة). لا يقترح سايمون وصفات “سعيدة” أو “تعسفية”، بل يصرّ على أن النهاية يجب أن تكون معقولة دراميًا وليست ملجًا لخلع المسؤولية عن البنية. ويشير إلى قيمة “النهايات المفتوحة” فى تحفيز ذهنية الجمهور لتعمل بعد العرض، وهو ما يحول التلقى إلى مشروع استمرار معرفى، فى ختام كتابه يجمع سايمون خلاصةً عملية: المسرح يبقى فن اللقاء، ومهمة الكاتب أن يكتب وهو واعٍ بأن العمل سينقل إلى خشبة تُقابل جمهورًا حيًا. الرسالة الأخلاقية هنا واضحة: لا تكتب لتجمّل نفسك أو لترضى أوساطًا أدبية؛ اكتب لتواجه إنسانًا آخر فى لحظة مشتركة. فى هذه اللحظة تنتهى الكتابة وتبدأ “الكتابة المتجددة” عبر التلقى. هذا التحوّل بين النص والعرض والتلقى هو ما يجعل المسرح فنًا حيًا.
الواقع المسرحى العربى وهذا الكتاب
بعد أن استعرض مايو سايمون فى كتابه «الجمهور والكاتب المسرحي» العلاقة المعقدة بين النص والمتلقى عبر فصوله المتعددة، يمكن القول إن هذا الكتاب لا يقدم مجرد دليل تقنى للكتابة المسرحية، بل يطرح رؤية فلسفية عميقة تعيد الاعتبار للجمهور بوصفه طرفًا أساسيًا فى العملية المسرحية. فهو يوضح أن المسرح لا يقوم على النص وحده، ولا على الأداء وحده، بل على التفاعل الحى الذى يولد من اجتماع الممثلين والجمهور فى مكان وزمان محددين.
أهمية هذا الكتاب بالنسبة للسياق العربى تكمن فى أنه يذكّر المسرحيين بضرورة تجاوز النظرة التقليدية للجمهور باعتباره كتلة صامتة. ففى تجارب كثيرة داخل المسرح العربى، سواء فى مصر أو بلاد الشام أو المغرب العربى، عانى المسرح من فجوة بين النصوص المكتوبة وجمهورها. بعض العروض انشغلت بالتجريب المغلق أو التنظير الجمالى البحت، فابتعدت عن المتلقى العادى، فى حين سقطت أخرى فى فخ التبسيط المفرط والتهريج. ما يقدمه سايمون هو رؤية وسطية توازن بين العمق الفنى والوضوح التواصلى، بحيث يصبح الجمهور شريكًا دون التضحية بالقيمة الفنية.
كما أن الكتاب يفتح الباب أمام المسرح العربى لمراجعة تجربته فى التعامل مع الفضاء المسرحى. فإذا كانت خشباتنا لا تزال فى أغلبها مقيّدة بالقاعات التقليدية، فإن دروس سايمون حول مرونة المكان وقدرته على إعادة تعريف العلاقة بين الكاتب والجمهور، تصلح لإلهام ممارسات مسرحية جديدة فى الشارع والساحات العامة والمسارح المفتوحة. وهذا ينسجم مع التراث العربى الذى عرف منذ القديم فنون الحكواتى والمقامات والسامر، وهى كلها أشكال مسرحية غير مقيدة بجدران مسرحية مغلقة.
إن القيمة الكبرى للكتاب تكمن أيضًا فى أنه يعيد للكاتب المسرحى وعيه بمسؤوليته. فالكاتب ليس مجرد مبدع منعزل يكتب نصًا مكتفيًا بذاته، بل هو مشارك فى فعل جماعى حى. وهذا الوعى قد يساعد الكتّاب العرب على تجاوز أزمة النصوص الجامدة أو تلك التى تُكتب على مقاس لجان التحكيم والمهرجانات، ليعودوا إلى الكتابة بروح التواصل مع المتلقى الحقيقى.
وبالنظر إلى واقع المسرح العربى اليوم، فإن أفكار سايمون تقدم خريطة طريق يمكن الإفادة منها فى أكثر من اتجاه: كتابة نصوص أكثر حيوية، إعادة التفكير فى تصميم الخشبة وفضاءات العرض، والوعى بأهمية البدايات والنهايات والاستراحات كجزء من هندسة التلقى. والأهم من ذلك كله، إدراك أن الجمهور ليس كائنًا يُراضى أو يُستدرج، بل شريكًا يُحترم ويُخاطَب بذكاء.
رؤية الكتاب
ما الجديد فى طرح سايمون؟ قد يُقال إنه يجمع قضايا معروفة فى أدبيات التلقى والدراماتورجيا، لكنه يقدّم هذه القضايا من منظور الممارس، وبأسلوب عملى واضح قابل للتطبيق. مكان القوة هو فى ربط الأفكار ببيئة العرض: الخشبة، البدايات، الفواصل، والختام. أما محدودية الكتاب فتتمثل فى أنه يظلّ أقلّ نقاشًا للفروق الثقافية بين جماهير مختلفة - أى أن مؤشراته عملية بقدر ما هى متعلقة بالسياق الغربى/الأمريكى أو العالمى العام. لذلك تحتاج الاستفادة الحقيقية فى الشرق الأوسط إلى “توطين” هذه المبادئ فى سياقات الجمهور المحلى.
كما من الممكن توجيه ثلاثة انتقادات للكتاب. الأول: الحاجة إلى مزيد من التفصيل حول اختلافات الجمهور وفق العمر والتعليم والطبقة، الكتاب يفترض عمومًا جمهورًا متجانسًا فى خواص التلقى. الثاني: قلة الأمثلة التطبيقية المحلية أو دراسات حالة مفصّلة عن تجارب فاشلة/ناجحة يمكن أن تعلّمنا إجرائيًا أكثر (تحليل عروض حقيقية بالتفصيل). الثالث: غياب مناقشة أوسع لأثر التكنولوجيا (بخلاف المقارنة بالسينما) على نماذج الحضور: كيف تغير المنصات الرقمية من شروط الموقع المميز الذى يتحدث عنه سايمون؟ لا يناقش الكتاب كفاية التحوّلات التى طرأت خلال العقدين الماضيين فى سلوك الجمهور نتيجة الإنترنت ووسائل التواصل.
إن كتاب مايو سايمون يقدم دليلًا عمليًا مهمًا لمن يكتبون للمسرح أو يديرون عروضه. قوته تكمن فى تحويل مفاهيم درامية نظرية إلى إرشادات قابلة للتطبيق على الخشبة والقاعة. محدوديته الأساسية هى غياب التوطين الثقافى التفصيلى؛ لكنه يوفّر إطارًا مفيدًا للتفكير والتجريب. للأوساط العربية، يصبح الكتاب موردًا ثريًا إذا ما تم تكييف مبادئه مع خصوصيات الجمهور المحلى وممارسات العرض.
ففى عالم يتغيّر بسرعة، يبقى المسرح مكانًا لا يمكن للمنصات الأخرى أن تحلّ محله تمامًا؛ هو لقاء وجهًا لوجه حيث تتولد المعانى وتُعاد صياغتها فى آنٍ واحد. من هذا المنطلق، يبقى درس سايمون بسيطًا لكنه جوهريًا: اكتب للمشهد الحى، لا للخبر وحده؛ فالجمهور شريكك الأكبر، واحترامه ومعرفته هما طريقك إلى أثر دائم. أوصيك، ككاتب أو مخرج، أن تتبنّى هذا المبدأ عمليًا: صِغ بداياتك كعقود؛ صمّم فواصلك كأدوات إيحاء؛ اجعل منتصفك منطقة مفاجأة متماسكة؛ ولا تترك نهايتك مصادفة. بهذا الأسلوب، يتحوّل كل عرض إلى حدث يبقى فى ذاكرة الجمهور طويلًا بعد إسدال الستار.
فيمكن القول إن كتاب «الجمهور والكاتب المسرحي» يمثل دعوة لإعادة الاعتبار إلى المسرح كفن حى قادر على الجمع بين الفكر والمتعة، وبين الجمال والوعى. وهو بذلك يقدم للمسرح العربى، بكل تنوعاته، فرصة للتأمل فى ذاته وتجديد أدواته، حتى يبقى قادرًا على الصمود فى وجه تحديات العصر واستعادة جمهوره الذى هو سر وجوده واستمراره.